المسرح برلمان الثقافة وقلعة الحرية

يحار المرء من أين يبدأ الحديث مع الفنان المسرحي الفلسطيني- السوري زيناتي قدسية بعد 46 عاما من العطاء والكدّ على خشبات المسارح العربية، بدءا بالمسرح

الوطني الفلسطيني، بعد دخوله ميدان العمل المسرحي عام 1967 في الأردن، لينتقل بعدها للعمل في سوريا أين بدأت رحلته -بداية السبعينات– مساهما في تأسيس المسرح التجريبي في سوريا، بالتعاون مع المسرحيين الراحلين، سعد الله ونوس وفواز الساجر، ليؤسس بعدها بالتعاون مع الكاتب الراحل ممدوح عدوان فرقة “مسرح أحوال”. ويصبح بعد هذه المسيرة الحافلة واحدا من أبرز أعمدة المسرح في سوريا والوطن العربي، ويشكل بمفرده “أكاديمية”، جعلت من المسرح قضية كبرى. “العرب” اِلتقته في مسرح “الحمراء” بدمشق، الذي اختاره ليقدم فيه عروض عمله المسرحي الأخير “تقاسيم على درب الآلام” فكان هذا الحوار..

في زمن الحرب وما تعيشه البلاد من محنة وأيام عصيبة يقوم الفنان زيناتي قدسية بسلسلة من العروض لمسرحيته الجديدة “تقاسيم على درب الآلام”، التي كتب نصها وأخرجها ويقوم بالدور الرئيس فيها. عن عمله هذا وما يريد له أن يصل لجمهوره العريض، يقول: “ليست هناك رسالة محدّدة.. لا معلومة طازجة ولا خبر جديدا.. أريد فقط أن أؤكد على المؤكد.. هكذا ببساطة.. ولكن –وضعْ ما شئت من الخطوط تحت “لكن” هذه– ولكن بطريقة مختلفة على المستويين الفكري والفني الجمالي.. ويخطئ من يظن أن التأكيد على المؤكد أمر نافل، ولا طائل منه طالما إنه مؤكد. أنا أرى أن مشكلتنا الحقيقية – في الإبداع– هي في كيفية التأكيد على هذا المؤكد.. في المعالجة.. زاوية الرؤيا.. مساقط الضوء.. هل تسير على السطح، أم تتسلل إلى العمق؟ لمن ستكون الأولوية، للسياسي البسيط المتقلّب والشعار، أم للفن والجمال؟ من سيحتل مساحة الفعل/ خشبة المسرح؟ أبطال نعرفهم، أم أناس بسطاء مجهولون تحولوا عبر التجربة إلى أبطال استثنائيين؟ وهل للحب والوجدان مساحة في غابة البنادق المشهرة؟ أسئلة كثيرة نحاول أن نقترح إجابات على بعضها.. “تقاسيم على درب الآلام” تتحدث عن شخص عادي أُجبر على السير في هذا الطريق الدامي.. سيقطعه حتى النهاية. وسيبقى مصير هذا الشخص مجهولاً حتى تفصح عنه لحظات العرض المسرحي الأخيرة..”.

زمن العطالة

يحدّثنا الفنان الكبير عن أجمل مواسم العطاء التي احتفظت بها ذاكرته بعد نيّف وأربعين عاما من الكد والجهد، قائلا: “ونحن في مطلع الحديث، اسمح لي أن أقرر بأنني لست راضيا عن نفسي بعد كل هذه السنين. وغالبا ما يعتريني شعور بأنني لم أفعل شيئا.. أقول هذا بأمانة وصدق.. أمّا عن تجربتي المسرحية برمّتها فقد كان مسارها ولا يزال يتحرك على محورين أساسيين: القضية الفلسطينية، وتجربة المسرح في عالمنا العربي. في المحور الأول كانت مواسم العطاء المسرحي مرتبطة بمقدار توهج القضية الفلسطينية وتألقها، مقاومة وحضورا محليا وعربيا ودوليا. والعكس صحيح. وحين ينطفئ هذا التوهج ويخبو الألق، تدب العطالة في مسارح العالم العربي ولا يبقى لفلسطين أية مساحة تذكر في ميدان الإبداع المسرحي. فأجد نفسي أغرد خارج السرّب وحيدا، وما أطول زمن العطالة، وما أكثر ما غنيت لعينيها وحيدا ولا أزال وسأبقى.. أمّا في المحور الثاني، فما زلت منذ ستة وأربعين عاما وأنا أعمل بصحبة المبدعين العرب الحقيقيين وشراكتهم لخلق عروض مسرحية تليق بنا كعرب وكبشر، وتضعنا في مصاف الشعوب التي تساهم بثقافتها ومدحها في ركب الحضارة الإنسانية. لكن حال المسرح في العالم العربي لا يخفى على أحد.. واليوم أتطلع إلى الخلف فأجد نفسي أجرّ ستة وأربعين عاما من العمل المتصل، ولا أزال أغرد خارج السرب أيضا. فأبحث عن العرب في أوراق الماغوط وزكريا تامر ومحمود درويش وممدوح عدوان وآخرين.. أمّا مواسم العطاء الحقيقية في سوريا، فهي كثيرة ولا يتسع المجال لذكرها كلها، ولكن أذكر منها أيام تألق المسرح الجامعي.. ومهرجانات الهواة والشبيبة وأيام المسرح التجريبي والعمالي ومواسم المسرح القومي الرائعة.. وليالي مهرجان دمشق للفنون المسرحية الذي شكلّ مرحلة هامة في تاريخ التجربة المسرحية العربية.. أمّا في الخاص فهناك لحظة استثنائية شكلت انعطافا تاريخيا في تجربتي المسرحية، وهي لحظة الولادة الحقيقية لمسرح “المونودراما” عام 85 على أيدي ممدوح عدوان وزيناتي قدسية والتي تحولت مع استمرارها إلى تيار مسرحي تمدد في عموم المشرق العربي.. خشبة المسرح باختصار ابتلعت كل عمري.. عمر مليء وحافل بالعمل..

أذكر كل شيء واضحا جليّا ناصعا. العروض الكبرى. النجاح والفشل. مرح الشباب والاندفاع. الإيمان العميق بما كنت أفعل. عروض، شخصيات، مواقف دفعت ثمنها خبزا ودما. أرى كل شيء كما لو كان البارحة أو اليوم. وكل شيء كان لفلسطين ولحرية فلسطين..”.

وبتطرقنا لحال لمسرح الوطني الفلسطيني اليوم، وأسباب غياب الأعمال المسرحية الفلسطينية هنا في سوريا التي شهدت ولادة هذا المسرح. يقول قدسية: “ليس له حال، لأنه غير موجود. ما كان يُسمى بالمسرح الوطني الفلسطيني، غير موجود. غادر الساحة إلى غير رجعة. ليس الآن وإنما منذ ربع قرن.. وقبل أن يموت نهائيا كان قد تيتّم منذ عام 72 وراحت تتقاذفه أيدي الكفلاء، وكل كفيل من هؤلاء كان يُلغي أدبيات من سبقه، ويعمل على إعادة صياغة هذا اليتيم على ضوء مفاهيمه الفكرية والفنيّة، فازدادت صورة هذا اليتيم تشويها، ودّبت الأمراض في معظم أعضاء جسده الهزيل المكدود، فلفظ أنفاسه الأخيرة عام 1990.

أرجو أن لا يفهم من كلامي أني أدين الكفلاء/ المخرجين، على العكس، لهم امتناني وشكري على مساهماتهم في تلك التجربة. أنا أحمّل المسؤولية لفريق العمل والإدارة التي تتولى شؤونه، لأنهم ببساطة قبلوا وارتضوا أن يكونوا ذيولا للسياسة، وعندما سقطت كل ذيولها بما فيها المسرح الوطني الفلسطيني الذي كان.

ومن باب الإنصاف أقول هناك أعمال أقل من أصابع اليد الواحدة قدمها المسرح الوطني الفلسطيني، وأثارت الاهتمام بشكل لافت، لكنها بقيت عروضا ولم تؤسس لمشروع. وفي هذا الإطار اسمحلي أن استثني السنوات الخمس الأولى من عمر التجربة في سوريا والتي بدأت عام 68 واستمرت إلى عام 72، هذه مرحلة نظيفة وناصعة رغم الطابع المباشر والدعائي والخطابي الذي غلب على معظم عروضها، لكنها لم تكن ذيلية على الأقل، بل كانت في أوج ألقها الثوري. وساهم فيها العديد من الفنانين الفلسطينيين والسوريون الذين نذكرهم بكل تقدير واحترام..”.

برلمان المسرح

عن مدى إيمان فناننا بوجود مسرح مقاوم؟ وهل بقي هناك من يتابع مثل هكذا مسرح؟

يجيب: “لست ميالا إلى حشر الإبداع على اختلاف أنواعه ضمن مسميّات وعناوين قد تكون مناسبة في مرحلة ما، ثم تضيق بعد ذلك –أي بعد انتهاء، المرحلة-، على كل حال، المسرح بطبيعته مقاوم، ولا يمكن أن يكون إلا كذلك، المسرح من أبرز معالم الثقافة في الحضارة الإنسانية، ومن أهم المنابر الشعبيّة وأكثرها حيويّة. وإذا كان للثقافة برلمان، فالمسرح هو برلمانها بامتياز والمسرح المقاوم، أو مسرح المقاومة، سمّه ما شئت، وُجد منذ أن وُجد المسرح في بلاد نشأته الأولى. كان مقاوما.. بدليل أن “ثيسبس”، أول ممثل معروف في التاريخ –وكان يقدم أعماله وحيدا- قرر مجلس الشيوخ في ذلك الوقت اعتقاله أو إبعاده عن أثينا.. لكن القيصر أو الملك رفض طلبهم قائلا بما معناه “إن اعتقاله أو إبعاده عن البلاد سيحدث اضطرابات كبيرة في صفوف الشعب.. الشعب الذي يحبه ويشاهده.. إذن، كان المسرح مقاوما، وقدم الآلاف من العروض المسرحية المقاومة بمعناها الحرفي؛ مقاومة المحتلّ الغازي، العدوّ، المستعمر. في مختلف دول العالم هناك دائما من يقاومون عبر المسرح وإن اختلفت أساليب التعبير عن روح المقاومة من مكان لآخر. وما دام على هذه الأرض دول وجيوش وفاشيون ودكتاتوريون وقابليات لنشوب حروب ونزاعات ثنائية وكونيّة، فإن المسرح لا بُدّ أن يبقى بطبيعته حيا يقظا وقادرا على خوض معركة الدفاع عن حريّة الإنسان والشعوب وصيانة كرامتها بطرق وأساليب متنوعة تنوّع الشعوب وثقافاتها ووسائل تعبيرها. ومن جانب آخر، ليس شرطا أن تتعرض الشعوب والأوطان إلى احتلال أو غزو عسكري لتنشئ مسرحا مقاوما ففي فترات السلم العالمي، تبدو حاجتنا لمسرح يقاوم، حاجة ماسة وملحة، لأن هذا الهدوء والاستقرار الظاهري والاسترخاء المريب، تختفي وراءه نُذُر الحروب المدمرة والتفجيرات المباغتة. وما سعي الدول المحموم لامتلاك الأسلحة بمختلف أنواعها، والصراع المعلن والخفي على حيازة أكثرها وأشدّها فتكا وتدميرا تحت مسمّى التوازن الاستراتيجي للقوى، وفي فترات الشعور الواهم بالسلم العالمي، كل هذا ما هو إلا تهيئة واستعداد لهذه الحروب والتفجيرات. ولذلك فإن رجال الفكر والثقافة والفن في مختلف أنحاء العالم حين ينتصرون للإنسان من أجل حريته وكرامته وآدميته وحقه في الطعام والماء والصحة والتعليم والحب وإبداء الرأي والدفاع عن حقه في المواطنة والوجود، إنما هم ينتمون بشكل أو بآخر إلى ثقافة المقاومة، علوم المقاومة، فكر المقاومة، شعرها، مسرحها، وإن لم يضعوا إنجازاتهم تحت هذا العنوان بالمباشر. باختصار المسرح ليس وليدا لأزمات طارئة. إنه في قلب الحياة، وفي كل تفاصيل أحداثها، المهم، كيف نحافظ على هذا القلب متدفقا حارا مقاوما..”.

ثلاثي قدسي

يأخذنا الحديث مع قدسية لمرحلة النهوض المسرحي بالبلاد، وزمن الكبار سعد الله ونوس وفواز الساجر وممدوح عدوان، وذكريات تأسيس المسرح التجريبي في سوريا. فيقول: “كانوا ثلاثة بالفعل.. ممدوح عدوان باعتباره أول شخصية تشرفت بمعرفتها منذ عام 1971، أي بعد قدومي إلى سوريا مباشرة، وانخراطنا معا في المسرح الجامعي حتى عام 1974، ثم إخراجي لمسرحية “كيف تركت السيف” لجامعة بيروت العربية عام 75، ومشاركتي في معظم أعماله في المسرح القومي والفلسطيني والعمالي.. ثم شراكتنا في مشروع ” المونودراما” عام 85، أي أن علاقتنا معا إبداعيا وإنسانيا امتدت من عام 1971 إلى آخر يوم في حياة ممدوح، وفي العام الذي توفي فيه، كنّا نعمل على مشروعين: كنت أقوم بإخراج نصّه “كلب الآغا” للمسرح القومي. وكان هو يكتب مشروعنا “المونودرامي” الجديد “الشيطان”، لكن الموت أوقف المشروعين، على كل حال ممدوح مدرسة متنوعة الاختصاصات. وفيها من الغنى الشيء الكثير. هو دون مبالغة “نسيج وحده”، أستاذ في كل مجال يدخل فيه. وما أكثر المجالات التي خاضها وناضل من خلالها طيلة حياته.. فممدوح لم يعلمني شيئا، أنا الذي تعلمت منه أشياء كثيرة. أشياء عن الوطن والمسرح والخبز والأدب والشعر والترجمة والإعلام والتدخين، وأجمل ما تعلمته من ممدوح هو البكاء – معنى البكاء، أهمية البكاء، عندما تحيّن لحظة الضرورة لتفجرّ الدموع.. قيمة البكاء عند الرجال..

أمّا ما يتعلق بسعد الله ونوس وفواز الساجر، فما زلت حتى هذه اللحظة أشعر بالارتباك كلمّا تمثّل لي فواز، ويزداد هذا الشعور بالارتباك وأنا أنظر إلى وجه سعد الله.. رغبة ملحّة تراودني منذ سنوات للكتابة عن تجربتي مع هذين الكبيرين، وكلما أمسكت القلم أشعر بشيء يجمد أصابعي ويمنعني من الكتابة.. فواز الساجر كان مطلا على تجربتي منذ عام 73، ثم عملت ممثلا تحت إدارته وكمخُرج عام 74، واستمرت علاقتنا إلى أن توّجت بدعوتي في المساهمة في المسرح التجريبي أواخر عام 76، واستمرت حتى فارق الحياة، تمخضت عن ستة عروض مسرحية وحوارات معمقة في شؤون المسرح والأدب والحياة، كانت بالنسبة إليّ “أكاديميه مزدوجة” نظريا وعمليا. وسعد الله ونوس كان مُطلا أيضا على تجربتي. لكن علاقتنا العملية بدأت مع بداية تأسيس المسرح التجريبي. والتي تمخضت عن ثلاثة عروض مسرحية هامة، وحوارات عميقة ذات طابع جدلي معرفي جمالي تخص شؤون الفن والحياة.. أستطيع القول إن سعد الله ونوس مشروع كبير سنحتاج إلى وقت طويل للوقوف على تفاصيل هذا المشروع، وفواز ساجر مشروع كبير أيضا ستظلّ أعماله ورؤاه الإبداعية والجمالية ماثلة أمام أعيننا وفي مخيلتنا لسنوات طويلة. أنجزنا في المسرح التجريبي ثلاثة عروض مسرحية متميزة جدا.. لكننا لم ندّع أننا تجريبيون بالمعنى الحقيقي والعلمي لهذا المفهوم –التجريب–، ولم يسعفنا الوقت لإنجاز شيء تجريبي ممّا كنّا نحلم به، لكنها مع ممدوح عدوان كانت بالنسبة إليّ المشعل الذي اقتحمت به ظُلمة الخشبة.

وعن تفاصيل تناوله لأعمال الكاتب السوري الكبير زكريا تامر واشتغاله على مجموعة من قصصه الساخرة لتكون الحصيلة العمل المسرحي “وحيد القرن”، يقول: “كنت أبحث عن العرب في الدراما المسرحية العربية، فلم أجد منجزا عربيا متكاملا يفي بهذا الغرض المسرحي الذي أريده. فوجدت ضالتي في كتابات الماغوط وزكريا تامر فجسدت بعضا ممّا كتبوه على الورق، عزفا حيّا على خشبة المسرح من خلال عرضين مسرحيين هما: “رأس الغول”، و”وحيد القرن”.. أما كيف تحولت هذه الكتابات إلى عروض مسرحية، فهذا له علاقة بمنظومة العرض المسرحي الفكريّة التي أريدها وما تتطلبه من أوراق تتوفر على عناصر مسرحية قابلة لأن تشكّل على اختلافها نسقا يضمن سلامة هذه المنظومة الفكرية، والتعبير عنها بأفضل المعالجات الفنيّة والجمالية. هذا ما قمت به في تلك التجارب..”.

 

 

أوس داوود يعقوب

http://www.alarabonline.org

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *