الأغلبية الساحقة التي يمثلها الغوغاء هي دائماً على خطأ!!…إبسن: أقوى رجل في العالم هو ذاك الذي يقف وحيداً دائماً

في مراحل عمره المبكر عاش هنريك إبسن الكاتب المسرحي الكبير المولود في النرويج عام 1828 أوضاعاً مزرية وكان ناقماً على وضعه الاجتماعي وفقره المدقع وعازماً على إيجاد مَخْرج فحاول إبعاد الكآبة واليأس عنده بكتابة الشعر وحين بلوغه الثامنة عشرة تبنى طفلاً أخذ يعيله من موارده الضئيلة طوال الأربع عشرة سنة التالية

 

 

ثرثرات… وتطرف
هذا ما يرويه د. فؤاد عبد المطلب في مقدمة الترجمة العربية لطبعة من مسرحية «عدو الشعب» صادرة حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب إذ يشير د. عبد المطلب إلى أن إبسن الشاب كان يشعر وكأنه منبوذ من مجتمعه فقد فقدت العائلة مالها ومكانتها الاجتماعية وحاصرته الثرثرات المحلية بأنه قد يكون هو نفسه ابناً غير شرعي لأنه تبنى طفلاً من أبويين غير شرعيين وحين كان يعمل في «غرمستاد»- يعقب المترجم- كان عليّة القوم هناك ينظرون إليه نظرة اجتماعية دونية ونتيجة لذلك كان حقيقة منبوذاً من الناحيتين العاطفية والثقافية فأخذت أفكاره العلمانية تظهر واعتنق مبادئ سياسية متطرفة وصمم على الخروج من تقييدات المجتمع المحلي فاستعد للالتحاق بجامعة كريستيانا (أوسلو حالياً) وراح يكتب المسرحيات الشعرية.
شحن… وأحاسيس

ويرى د. عبد المطلب في مدخل لدراسة إبسن ومسرحية «عدو الشعب» أن هذه المسرحية إلى جانب «أعمدة المجتمع» (1877) و«بيت الدمية» (1879) و«الأشباح» غالباً ما تعد من روائع المسرح الواقعي الأوروبي فقد أدى نشر هذه المسرحيات وعرضها إلى جعل إبسن أكثر الكتاب المسرحيين نقاشاً في أوروبا.
مسرحية «عدو الشعب» نقلت- تبعاً للمقدمة- إلى العربية من ترجمة إنكليزية قام بها وقدّم لها مايكل ميير ضمن مجموعة أعمال إبسن المسرحية التي صدرت بطبعتها الأولى في أربعة مجلدات عن دار مثيون في لندن (1980) والتي توالت طبعاتها بعد ذلك ويمكن وصف ترجمة مايكل ميير الإنكليزية- تبعاً لعبد المطلب- بأنها ناجحة مسرحياً فعباراته لطيفة ومشحونة بالدلالات وتخاطب أحاسيس النظارة وعقولهم في الآن نفسه ولا تعمد إلى الوصف والشرح أكثر مما هو ضروري وفي هذا السياق- يعقب عبد المطلب-: يبدي مايكل ميير في مقال له بعنوان «في ترجمة المسرحيات»- الصادرة في كتاب «دراسات القرن العشرين» (1974)- رأياً مفاده وهو يقتبس من ت. راتيغن أن الكلمة المنطوقة أشد وقعاً من الكلمة المكتوبة بخمس مرات على الأقل أي أن ما يكتبه الروائي في ثلاثين سطراً يقوله الكاتب المسرحي في خمسة أسطر.

ماذا تقول المسرحية؟!
تدور أحداث المسرحية حول د. توماس ستوكمان رب عائلة وطبيب في بلدة ساحلية صغيرة قرب ينبوع مياه معدنية وبعد مدة طويلة من التحليل لمياه الينبوع الذي أسسه د. ستوكمان ليكون منتجعاً للزوار في البلدة وخارجها يكتشف ستوكمان أنها ملوثة وخطرة على صحة كل من يزور المكان وكان هناك أمل كبير لدى الناس في هذا المشروع بأنه سيكون مصدر شهرة وازدهار للبلدة كلها ولكن تتكون عند د. ستوكمان قناعة أنه لا يمكن الاستمرار بهذا المشروع على النحو المعمول به لذلك يرى أنه يجب إغلاقه إلى أن يتم إصلاح الأوضاع الفنية القائمة والابتعاد عن فضلات المدابغ القريبة التي تلوث مياه الحمامات.
يتلقى د. ستوكمان الاستحسان والمديح في البداية على اكتشافه هذا ولكن سرعان ما يتبين أن إنجاز الإصلاحات يتطلب الكثير من المال والوقت ومن ثم يتعذر الموافقة على تصحيح الأوضاع فتتحول الصحافة والسلطات والناس جميعاً ضده ويبرز أخوه بيترستوكمان بوصفه أقوى معارض له مستخدماً نفوذه بوصفه رئيساً للبلدية وآمراً للشرطة ويطلب من د. ستوكمان تخفيف مطالبه وخاصة إغلاق الحمامات فيرفض ويصر على إطلاع الناس على الحقيقة وأن يكون لهم رأي فيها ويدعو إلى اجتماع عام كي يعرض القضية عليهم ويتضح بعد ذلك الرأي القائل: إن الأغلبية الساحقة التي يمثلها الغوغاء هي دائماً على خطأ وأن الأقلية التي يمثلها المتنورون هي دائماً على صواب. ويقوم الحضور في الاجتماع بمهاجمته بإطلاق تسمية «عدو الشعب» عليه ويعدونه خطراً على المجتمع ويجبرونه على الخروج من الاجتماع ويحصد د. ستوكمان وعائلته نتائج مأساوية اجتماعية وإنسانية نتيجة لمواقفه…

نبل وغوغاء
إن مسرحية (عدو الشعب) يؤكد د. عبد المطلب حافلة بالسخرية والتهكم لأنها مبنية على التباين بين الأخوين ستوكمان ويسعى د. ستوكمان أن يدخل أفكاراً جديدة وإصلاحات من أجل فائدة المجتمع بينما يظهر رئيس البلدية بوصفه شخصية واعية تماماً لمركزها وقوتها على حين يبدو د. ستوكمان أنه يعي واجبه بوصفه مواطناً صالحاً فحسب وتتسم شخصية ستوكمان بالشجاعة والنبل وتحدي الغوغاء التي لا يرى فيها إلا جماعة من الجبناء بينما تتصف شخصية رئيس البلدية في كونه لاعباً ذكياً يستطيع تضليل الناس وجعلهم يقفون إلى جانبه وتكمن السخرية الرئيسية في المسرحية في أن شخصاً خيراً مثل ستوكمان يعامل على أنه عدو الشعب.

جبن ونفاق
إن بطل مسرحية (عدو الشعب) هو على نحو ما هنريك إبسن نفسه في الحياة العملية هو ناقد مكروه لأنه يقود الحقيقة الواضحة لآذان لا ترغب في سماعها فيتهم بصوت عال بأنه عدو الشعب ويقاطع ويرجم بالحجارة ويضيف د. عبد المطلب: إن الرمز واضح وشفيف والمسرحية هي حقيقة قطعة من الجدل الشخصي العنيف والقصة يمكن أن تكون موضوعاً لرواية وفي المسرحية بدت الروح الطبيعية عند الشاعر وكأنها تعزز من موجة المثالية الغاضبة لديه، لقد صرح بأن الأكثرية مدجّنة وجبانة ومنافقة وهذا صحيح لكنه وعد بأن الرجل الخيّر حتى وإن كان وحيداً يجد في مبدئه مكافأة له ويشعر بالانتصار مثله مثل أبناء النور.
أما الجملة الأخيرة من المسرحية فيقولها د. ستوكمان: أتعلمون، الحقيقة هي أن أقوى رجل في العالم هو الذي يقف وحيداً دائماً.
يذكر أن المسرحية جالت مسارح العالم وقد عرضت من سنوات في دمشق من إعداد: «وائل قدّور ومضر الحجي» ومن إخراج: «ياسر عبد اللطيف». وتمثيل : «مريم علي، تيسير إدريس، لينا أحمد، غسّان سلمان، إياد أبو الشامات، غزوان الصفدي، أدهم مرشد، سعد الغفري،والطفلة: سلوى سابا».

http://alwatan.sy

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *