المسرح العراقي الآن في المحافظات .. ما بين (الإبداع) و(البدعة)

لا للتشكي .. لا للمطالب .. لقد ابتدأ زمن جديد الآن .. إنه زمن الفعل المسرحي المتواصل والخلاق ..

عشرون عاما قد مضت على مقالة لكاتب هذه السطور عنوانها ( مسرح المحافظات إشكالية في مديات المستوى الإبداعي ) كانت قد نشرت في النافذة الثقافية لصحيفة (العراق) في عددها 5492 الموافق الأربعاء 4 / أيار / 1994م , بين فيها كاتبها العقبات الأزلية الملازمة لواقع المسرح العراقي في المحافظات .. وهناك العديد من المقالات لكتاب آخرين قبل وبعد هذا التاريخ و إلى يومنا هذا يطالبون ويوضحون بالتوسل مرة و بالتسول مرة أخرى بذات العقبات و الأزمات الراكدة و المتوارثة عشرات السنين .. نذكر منها : لا إنتاج معقول , و لا وجود لقاعات عروض مسرحية مع تقنيات معقولة أو متطورة , ولا رعاية مؤسساتية منتمية بالقدر المعقول .

برغم كل هذا , يتواصل الفعل المسرحي العراقي اليوم, في عدد من المحافظات   بمستويات متفاوتة بين هذه المحافظة أو تلك , استجابة لمتطلبات الظرف الفني الفاعل فيها أحيانا, او استجابة لبعض مؤسسات وأحزاب تلك المحافظة حين تروم الاحتفال بمناسبة ما . الأمر الذي أصبح فيه واقع الحال للانتاج المسرحي في تنافس وتصارع ما بين ( الكمي ) و ( النوعي ) .. لتصل الإحصائية السنوية الى تقديم أكثر من ( مئة عرض مسرحي ) سنويا في مجمل هذه المحافظات . فأصبح من الطبيعي تأشير ما هو (إبداعي) , مقابل ما هو (بدعة) . 
سعت قلة من المحافظات العراقية في السنوات الأخيرة إلى إقامة مهرجانات أو ملتقيات أو ندوات (مسرحية) لدرجة التنافس بين محافظة وأخرى في الجانب الكمي على حساب النوعي .. بمعنى آخر التنافس بين الإبداع و البدعة .. فتناقص الإبداع و استشرت ظاهرة البدعة .. ذلك لان غالبية هذه المهرجانات ارتبطت بالنيات الشخصانية المقيتة لأصحاب أو ذوات القائمين على مثل هذه التجمعات المسرحية , يتوكؤون عليها ولهم فيها مآرب أخرى , تكشفها لنا الشمس بعد ان تنجلي غبرة كواليسهم المظلمة مباشرة .. بدلالة ان لا برنامج سنوي هناك لهذا المهرجان أو ذاك , فنشهد عددا من التجمعات المسرحية بمسميات مختلفة وكلها تحت يافطة ( المهرجان الأول ) أو ( الملتقى الأول ) , أما الثاني أو الثالث فيختفي في السنة القابلة تماما نتيجة غياب التخطيط الموضوعي و السليم . 
كان اللهاث وراء الوصولية ومحاباة المسؤول السياسي لأصحاب هذه المهرجانات / التجمعات , السبب الأساس في السقوط في فخ (البدعة ) على حساب الإبداع المنتظر , فغاب الإبداع و تصدرت البدعة أروقة المهرجان وقاعاته ومطاعمه وحفلات سمره الليلية وصولا إلى الشراشف الزانية الفندقية, وما يشوبها أو ينتج عنها من علامات استفهام كبيرة فنيا وجماهيريا وإعلاميا تتوسم صدر ذلك المهرجان المنخور . 
يبدو ان وباءات السياسة قد اجتاحت فضاءات المسرح , بسبب أمثال أولئك الذوات , الأمر الذي تسلل الطاعون مرة أخرى إلى مسرحنا , كما تسلل سابقا الطاعون  فضاءات المسرح أيام انطوان ارتو و قبله ألفريد جاري , فأعلنا حينها تمردهما على كل ما هو سائد ومألوف , وبالتنظير والفعل المسرحي الخلاق وصولا إلى الإبداع الحقيقي لا إلى البدعة الضلالة . 
إنه زمن إطلاق المسميات الكبيرة والاحتفاء بأصحابها الصغار في الإبداع و الكبار في البدع .. انه زمن اللهاث وراء الشهادات المسرحية العليا والحصول عليها بأي ثمن وبأية طريقة وسخة , ومهما كانت رسالة الماجستير هذه (عرجاء) أو أطروحة الدكتوراه تلك (خرساء) .. المهم السير إلى الهدف و لو على جثة العلم والإبداع الحقيقيين . 
يرى اناتولي ايفروس ان مسارح العالم كلها لها نفس الرائحة .. ونحن وبسبب هذه الأزمات والسرطانات ما بعد الحداثوية اختلفت رائحة مسارحنا العراقية في المحافظات وأصبحت نتنة , ما عدا تلك النوايا الباقية لدى البعض , والتي لم يدنسها احد بعد .. فهي الأمل الباقي لترسيم الآفاق المستقبلية لمسرحنا .
إنه واقع الحال أصدقائي .. إنهم ثلة بيننا , البدعة شعارهم ..والاستعراضات الخاوية مبدأهم , ونشر الفايروسات النتنة هدفهم .. تعبيرا عن مركبات نقص الإبداع لديهم .. لكن وبرغم كل الذي جرى و يجري ,هناك ثمة ضوء جديد , أضاءته لنا مجموعات شبابية ليست قليلة من هذه المحافظة أو تلك , كنا قد اشرنا سابقا إلى دورهم الطليعي والإبداعي في رفد مسيرة العطاء المتواصل بالانتماء وبالفعل المسرحي الخلاق أبدا . 
لا عناصر جذب جماهيري هناك في مجمل هذه المهرجانات او حتى العروض المسرحية المقدمة فهي للنخبة على حساب الجمهور العام .. فلم يتحقق الانتشار الجماهيري للفعل المسرحي في المحافظات , بل ظل مراوحا في مكانه , ان لم يتراجع و ينحسر هنا و هناك . فلو احصينا نوع الجمهور في أيما مهرجان لوجدنا ذات الفئة النخبوية بل نجد أحيانا ذات الوجوه والأسماء تنتقل من مهرجان إلى آخر . 
في ضوء ما تقدم .. يبدو أننا أضفنا أو اكتشفنا أو ابتلينا بعقبات وأزمات جديدة ستحول والقبض على مستقبل آمن لمسرحنا العراقي في المحافظات .. وربما سنبقى نكتب و نبحث مستقبلا عن ( إشكاليات ) جديدة أخرى و غير مكتشفة بعد تعرقل مديات المستوى الإبداعي الخلاق , وتيسر مستويات ( البدعة ) المميتة لنا و لمسرحنا . فاحذروا أصدقائي . 
فإذا ما أردنا لزمننا المسرحي الاستمرارية .. علينا التخلص من علل مسرحنا العراقي وقطع رؤوس عدد من الأفاعي المتسللة إلى كواليسه المظلمة .. لنبق جميعا في زمننا نحوك  على مهل أشرعة الطهر الإبداعية المسرحية الخلاقة حتى النفس الأخير.

 

د. محمد حسين حبيب

http://www.almadapaper.net/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *