المخرج المسرحي د. فاضل سوداني : -النصُّ الأدبيُّ المُغَلق، ُيعمّقُ اغترابَ َنص ِّ العَرض المسرحي

 

 

 

المخرج المسرحي د.  فاضل سوداني :

النصُّ الأدبيُّ المُغَلق، ُيعمّقُ اغترابَ َنص ِّ العَرض المسرحي

“انا  فنان وكاتب حالم ،أفهم العالم من خلال الحلم، والحياة بالنسبة لي

بالرغم من قسوتها تعني لعبة حلمية،ولهذا فإن اللعب الفني هو طقس

مسرحي يجب أن نعرف من خلاله كيف نحلم وكيف نحتفل به مع الجمهور .” بهذا التأطير يُفلسفُ فاضل سوداني طبيعة الحضور الذي

يسعى لأن يكون عليه فعلهُ ومنجزهُ الفني والانساني، بعد رحلة طويلة من الترحال والسفر بين التجارب، توزعتها خارطة ُأمكنة ٍتفصل فيما بينها ثقافات وحضارات شاء هو أن يخوض غموضها متسلحا بأحاسيس من الدهشة والتساؤل . .مدينة العمارة العراقيةهي بداية ُمنعطف ٍفي

تأمل الذات والاشياء ، وبداية ُسفر ٍطويل ٍفي طقوس ِالجسد ِوالصمتِ على رقعة الخشبة،فكانت بغداد وبيروت ودمشق وكوبنهاكن توغلا ً في متاهة البحث عن قيم الجمال التي يمكن لفضاء الدراما المسرحية ان

ينثرهاعلى انقاض ماض ثقيل بثرثرته المتأكلة. . والسوداني أستاذ

جامعي ومخرج  وباحث أكاديمي في الفن المسرحي ،  يحمل شهادة دكتوراه في

الاخراج والعلوم  المسرحية ،عمل مخرجا وممثلا لسنوات طويلة في العديد من المسرحيات العالمية في مختلف البلدان ،ساهم في إلقاء محاضرات ودراسات  في مختلف المهرجانات المسرحية وأنتدب للمساهمة في الجامعات والمختبرات المسرحية،كتب الدراسات المسرحية  في الصحف والمجلات  العربية، صمم

الديكور للعديد من  المسرحيات،وهو يدعوالمؤلف المسرحي العربي الى  كتابة  النص البصري في المسرح، ويعمل على تحقيق ذلك ضمن أمكانيات

مايدعوه بالبعد الرابع لفضاء العرض المسرحي، وكذلك تحقيق المسرح

البصري وتطويرعمل الممثل من خلال تدريبه عن طريق  الذاكرة

البصرية  المُطلقة لجسد الممثل وعلاقتها بالأشياء والفضاء المسرحي  ،

وتحقيق ذلك مع طلبة المعاهد المسرحية والممثلين عموما من خلال اقامة

العديد من المختبرات work Shop لتدريب الممثل ، اخرج وكتب العديد من

المسرحيات ، يعيش في الدنمارك منذ العام 1992 ،يعمل الان استاذا جامعيا  في جامعة دهوك في اقليم كوردستان . الزمان التقت به وحاورته حول رحلته وتجربته وتساؤلاته المسرحية  .

*ماهو شكل العلاقة  بينك و العالم  ،هل تجدها علاقة تتسم بالواقعية مع هذا الكم من الحلم الذي تغرق فيه  ؟

-من الضروري  أن نفهم العالم  وهو في كينونته الإبداعية  يعني في كينونة  المخيال والحلم ، و بالقدر الذي تكون فيه هذه  العلاقة  حُلمية -تكون  في ذات الوقت علاقة واقعية  فيها الكثير من عدم التوازن ـ فالغرباء عن العالم او غير المنسجمين معه والذين لا يفهمون تعقيداته  يعيشون في غربة ذاتية خالصة،وفي المقابل أن تحلم يعني أن تبدع، وبمعنى اكثر وضوحا يعني أن تكون غريبا وفي علاقة  متوترةومتشنجة مع هذا الشئ الغريب الذي أسمه  بالعالم ، الحلم هو أسلبة العالم المحيط  الى جوهره أو تكثيف لب معناه ، أي افراغه من سطوته واختزاله بتلك المشكلة التي تهمك والتي تكون فيها ذاتا ً متجوهرة ومتجسدة  في أشكال مشخصه ،والحلم  يعني أيضا  أسلبة للواقع ، أي ان تؤكد علاقتك مع العالم من خلال الجوهر أو لب العالم ، وأن تعرف كيف تختزله بوضوح تام من خلال الإبداع الذاتي الصرف ، وتعرف أيضا أدواتك في أن تحوله الى لوحة أو عرض مسرحي أو قصيدة ضمن شروط  العملية الفنية وليس شروط الواقع ، أي حسب زمن البعد الفني وليس الزمن الواقعي ، لهذا فان العمل الفني يتحول الى واقع افتراضي بديل فنياً و في لحظة الإبداع ، أي (الآن وهنا ) ولكون الواقع هو دائما غير مقبول نتيجة لشروطه الواقعية القاسية ، لذا يحتاج الأمر الى  كم هائل من الحلم من اجل تحّمل وقبول هذا الواقع ، أن تحلم هذا يعني ، ان تعيش الحياة الحقيقية مادام الواقع هو ثرثرة وليس غنى ديناميكي ،إذن الحلم هو الحياة في ديناميكيتها المستعادة ،وهناك شئ آخر وهو: لا يمكن أن يكون للحياة أي معنى إذا لم نعرف كيف نحلم وكيف نتذوقها ؟ وإذا لا نعرف  كيف نعيش الحياة وهي قصيرة ،وكيف نحقق مشروعنا  الحياتي ؟ فإننا سنعيش بسكون تام ،لذا، وحتى نعيش الحياة لا بد أن نتعلم كيف نحلم ، وكيف نتذوق هذا الحلم  الذي  يحدد العلاقة بيني وبين العالم .

الفنان المثقف

*من الطبيعي ان يشكل الفن خطورة على الانظمة القمعية لكن هل يمكن ان يشكل الفن خطورة على المجتمع في لحظة ما،أو في عمل ما  ؟

-عندما يفقد الفنان حريته في معالجة مشكلاته الذاتية والمشكلات الاجتماعية بوجود النظام  اللاديمقراطي  يتحول الى فنان غير متفاعل  أي انه يتكيف مع حاجات العنف والإستثناء  ويستخدم كل طاقاته الفنية والإبداعية في التكيف لمصلحة هذا الاستثناء في الحياة ، وأيضاً يعمل على تكيف المجتمع  من خلال  جعل الفن والثقافة  طريق غامض لفهم الحياة أو يعمد الى وضع الأسئلة المزيفه والأجوبة الجاهزة التي لا تعني أي شئ  لكنها تفرض الأستثناء الطائفي أو العنفي أو  لخدمة الدكتاتورية مثل هذا الوضع يهيئ الفنان غير المتفاعل الى أن يصبح  داعية لبرنامج النظام الدكتاتوري أوالشمولي ( الذي يهيئ المجتمع الى حروب لا مجدية ) وتفرض على الفن والفنان أو المثقف من قبل النظام الإستثنائي ،إضافة الى ما ذكر، حالة من استغلال ثقافته وفنه لتنمية غرائزالعنف المتوحشة في روح الإنسان في مجتمع فقد قدرته على التفاعل الإنساني والتاريخي لأنه يغرق في الخرافة لدرجة تحتل الأولوية في سلوكه ، فتتحول الى ظاهرة طبيعية في مجتمعات الأنظمة الشمولية والدكتاتورية والطائفية ،ويسبغ  هذا المثقف على مثاله السياسي ( الدكتاتور ، الطاغية  ،القائد ، الأب الروحي ، وشيخ الخرافة … الخ  ) صفات الرسل والقديسين ، من هذا المنطلق فان المثقف أو الفنان غير المتفاعل  يبني ذاته هامشيا ، انه توريط الذات ـالمثقفة والذات الجماعية المتكيفة ـ في الالتزام بالوعي المشوه والخرافة  من خلال فنه ، مثل هذا المثقف ـ الفنان هو جزء  لا ينفصل عن النظام  الدكتاتوري الشمولي أو النظام الطائفي المتسلط  مما يجعله هذا مساهما دائما في تزييف حقائق الواقع المعاصر والحقائق التاريخية ، فيصل الى مرحلة الإتكالية الفكرية ، ويصبح المثقف الابن المدلل ، يمنحه الدكتاتور المكرمات والهبات ويمنحه شيخ الخرافة البركات ، ولكن في ذات الوقت يحرمانه الحق في التفكير واتخاذ القرارات الفكرية الخاصة لان  القائد ـ الدكتاتور او القائد الطائفي هو الذي يفكر ويخطط بدلا عنه وعن المجتمع والأمة ،فيتحول  الفنان غير المتفاعل  إلى  منفذ فقط ،وبما أن الدكتاتورية أو النظام الإستثنائي او النظام الشمولي بحالة دائمة من التطور السلبي تحتاج هذه الانظمة الى ذلك المثقف الذي يغذي ويشيع هيكلة وأساليب الفاشية التي  سيتبناها النظام ، فليس كافيا  أن يكون مثقفا متكيفا  مع  برامجه الثقافية  فقط ، وإنما  يطالبه النظام  ان يساهم  في المتغيرات المنهجية  الجديدة  في سياسته وان يكون محركها الفكري ، وهذا يفرض على المثقف ان يلتزم المفهوم الفاشي في الثقافة  روحا وممارسة تخدعه حجج مختلفة  مغلفة بدوافع ديمقراطية زائفة ، فيتم التمسك بها  كأسلوب للتدجين ، سيباركه النظام الاستثنائي وسيبرره المثقف المتكيف إعلاميا،ومن هنا يشكل العمل الفني أو الأبداعي خطورة على الفنان أو المثقف وعلى المجتمع عموماً .

*”الحرية هذه الكلمة الحلوة “. جاءت هذه العبارة عنوانا لأحد الافلام الاسبانية في يوم ما من سبعينيات القرن الماضي. هل تذوقت طعم الحرية  ؟ واين تجدها حاضرة معك بقوة ووضوح ؟

ليس هنلك حرية بالمعنى الحقيقي ، لكن عندما أتأمل أو أكتب نصا  شعريا  او مسرحياً، اشعر بانني أحلم بحرية شبه متكاملة، لأنني أنا الذي أقرر وارسم وأبدع العالم الذي أريد أن أقدمه أمام الآخر ولكن كابوس المحضورات هو الذي يفقد الكائن  تكامله الإنساني وبالتالي يفقد معنى  الحرية  كوجود مكثف للكائن ، نعم  الحرية هي وجود مكثف للاشياء المهملة والملغاة أيضا والضرورية للإنسان والتي يطمح في الحصول عليها  لكنها في النأي الحلمي ، فالحرمان من ممارسة الوجود الحقيقي للذات هو  إلغاء للحرية ، الكتابة الإبداعية البصرية هي الحلم  وفيها تصل الحرية الى أقصى درجاتها ، حيث  عندما تقرأ رؤيتك  في كتاب او عندما ترى أفكارك  في فضاء المسرح او عندما تواجه الجمهور وأنت تمثل وسط فضاء  المسرح الحلمي  بألتاكيد ستكون حرا ، ففي  اللحظة التي تعرف فيها كيف تتذوق الحياة عندها فقط  تعرف كيف تتذوق الحرية ، ولهذا فان تذوق الحرية الإبداعية يبدأ في لحظة  تطور  مراحل انجاز القصيدة او النص او الرؤيا الإخراجية وعندما يكتمل هذا الإبداع تشعر بأنك حراً، الحرية  المزيفة  في عالمنا عموما  هي رؤيا غير مكتملة  وتصورٌ خطر ، وعلى المبدع أ ن يجعلها تتكامل من خلال الإبداع، فيها فقط يصبح الإنسان حرا وعليه ان يحتضنها كجمرة تشتعل في الروح والقلب  حتى يمارس حريته تماما ً، بدونها لا يتكامل الإنسان ، وبدون الإبداع  الحقيقي لا تتكامل الحرية أبدا،وهذاهو حقيقة التكامل بين الحرية والإبداع ،الحرية هي لحظة الشعور بالديمومة والانتصار الأبدي على الظلم والحيف والتهميش والعدم  وحتى عبث الموت، قد يبدو كلامي فيه الكثير من القسوة لكن واقع الحال في عالمنا عموما يؤكد بان الإنسان لم يصل الى الحرية الحقيقية ، ففي العالم المتطور بالرغم من أنه يمارس الحرية إلا أنها حرية يتحكم فيها الرأسمال العالمي والبزنس، أما في مجتمعاتنا المتخلفة فإن الذي يتحكم فيها هو الخرافة والأمراض الأجتماعية والفكرية الأخرى ، تصوَّر كنتُ فرِحا جدا وشعرت بطعم الحرية عندما خرجت في الدنمارك لآول مرة في حياتي  بتظاهرة مع ابنتي التي كانت بعمر 9 سنوات للمطالبة بحقوق ترفيهية إضافية لطلبة المدارس، حزنت لأنني كنت اريد أن يكون هذا في العراق ، ولكن هل هذا شعور ساذج بالحرية أم أنه إمتلاء حر ؟

حرية اللعب

*اللعبة المسرحية حاضرة بوضوح تام في طقسك المسرحي الذي تكتبه وتنشئه ، لماذا هذا الاصرار على استثمار هذه الآلية في بناء عرضك المسرحي ؟

-من خلال اللعب أوالإيهام يمكن للإنسان أن يرجع الى مرحلة الطفوله حيث الحرية والحلم وقد يبدو العالم لعبة في متناول يد الطفولة ـ أنْ تحلم بخيال طفولي يعني أن تبدع بحرية بدون قيود ، وهذا يعني أن تضع العالم على راحة اليد وتسير مفتوناً به الى أقصى درجات اللعب والحلم ـ وليس هنالك أي فارق كبير بين مكونات الإبداع  الثلاث اللعب الحلم والعرض (عرض الحلم سواء على شكل مسرح او لوحة تشكيلية او موسيقى أو قصيدة أو رواية أو أي وسيلة إبداعية أخرى ) وهذا هو نوع من تكامل وجودي ـ إبداعي فيبدوالعالم بكامله لعبة حلم موسيقي أو شعري ، مسرحي أو تشكيلي ،أن تلعب يعني أن تشعر بأنك حر ،وعندما  أستخِدم ُ وسيلة اللعب وآلية الحلم في نصيِّ المسرحي أو رؤيتي الإخراجية يحدث نوع من ممارستي لأقصى درجات الحرية  مما يدفعني الى أن أجعل من الجمهور قريبا من العرض وفضاء اللعب ، وبالتالي أخلق شئ من ديناميكية العلاقة بين فضاء العرض وصالة المتفاعلين (المشاهدين) ،انا  فنان وكاتب حالم وافهم العالم من خلال هذا الحلم  ، والحياة  بالنسبة لي بالرغم من قسوتها تعني لعبة حلمية ولهذا فان اللعب الفني هو طقس مسرحي يجب أن نعرف من خلاله كيف نحلم وكيف نحتفل به مع الجمهور .

*الصمت يشكل ثيمة وقيمة فنية في العمل الدرامي ،انت من خلال الاندفاع التام نحو العمل المسرحي هل تهرب من الصمت أم تسعى لاكتشاف ماتخبئه لغة الصمت من جُملٍ لايرقى اليها الصوت والضجيج والفوضى في التعبير ؟

-ليس هنالك صمت بالمعنى الواقعي داخل الفنان وانما هو موسيقى  ديناميكية تضج في روح المبدع  وتعبر عن جوهر العلاقة بين الذات و العالم، فعندما تكتشف هذا الجوهر تستطيع ان تسمع الصمت أو تراه وهو لغة خاصة لها إيقاعها، فالصمت هو موسيقى الأكوان الأخرى التي لا تسمع إلا في الرؤيا الإبداعية ، الصمت هو الديناميكية وهو اشتعال الرؤيا بحركتها الداخلية فبالصمت الديناميكي نفهم ونشعر بان العالم والأشياء في ديمومتها الحركية الأبدية ، ولهذا فان الأشياء تبدو صامتة ولكن حركتها الداخلية تضج  بديناميكية الترددات الإيقاعية  والمعاني التي تحتاج الى استخراجها وكشفها بوضوح ،في رؤيا العمل الفني يجب اقتناص الصمت المبدع وهذا يعني إظهار الأبعاد الداخلية ــ الخفية للأشياء والكائن والعالم ،الصمت المبدع أو البصري هو تأكيد إنسانية الإنسان والأشياء ، وهو عكس فوضى العالم التي تحول القيمة الإنسانية الى ضجيج ، وما الصمت إلا إعادة هذه القيمة الإنسانية للكائن والعالم من جديد ، ومن هنا فان الصمت هو قيمة ولغة فكرية وبصرية في آن واحد ، والتزام الصمت الديناميكي المبدع هو استجلاء اللغة البصرية للتعبير عنه من خلال  العمل الفني ،ومن هنا فان الصمت ليس فقط يُسمع وانما  يُرى وهنا تكمن  قيمة العمل الفني فكرياً وابداعياً وبصرياً ، أن تصمت في  لحظة الإبداع هذا يعني أن تخلق لغة بصرية إبداعية ، أنها لغة أخرى للتعبيرعن الحياة ، ومن هنا جاءت أهمية المفردة الشكسبيرية في تأويل الصمت  فآخر كلمة يقولها هاملت هي : ما تبقى هو الصمت  (ثم  يموت ). وبالتاكيد فان الصمت المتبقي يعني الموت بالنسبة الى هاملت لكنه يعني الحياة المتبقية أيضا ،فإذا كان الصمت يعني الحياة ، إذن يجب ان نفهم هذه الحياة من خلال قيمة الصمت وليس من خلال الضجيج ،إن اكتشاف الصمت يعني اكتشاف جوهر الحياة لهذا فان الإنسان يعتبر الصمت شئ شاق لأنه يفرض عليه التأمل والتفكير ولهذا فهو يفضل الضجيج الذي يدخله بسهولة في ضجيج العالم والثرثرة الوجودية ، ليس هناك صمت أبداً وإنما هناك حركة ودبيب متأمل تدفع جميع الأشياء أن تكون في حركة ديناميكية دائمة وأن تسمع وأن تُرى ،وكمثال سأستجلي مثل هذا الصمت في لوحة  سلفادور دالي (الذاكرة ) ، في هذه اللوحة نسمع ونرى صمتاً بصريا ًحركيا ًمطلقا ً من خلال وجود ثلا ث ساعات واحدة منها   يتآكلها الدود أي أنَّ الزمن مأكولا من حشرات الوجود ،وجود ثلاث ساعات هذا يعني وجوداً مكثفا  ً للزمن ، ولكن هل الزمن صمت أم ضجيج ، بالتأكيد انه صمت الصمت أوجوهرالصمت مادام الأمر يتعلق بالزمن، إنه صمت متأمل ومحسوس به ، لكن الصمت هنا يتحول الى ضجيج عندما لا يشعر الكائن بالزمن مثلا هل يتحول الزمن الى ثرثرة وجودية ؟  أنا لا أعرف هذا ، هنا يتشكل وجود الزمن أما من الصمت المبدع أومن الضجيج وإيقاعه القاسي حسب التأويل، بالتأكيدأن الإيقاع هنا هو زمن صامت لكنه مرئي أي إن الصمت في العمل الإبداعي يُرى كما هو الحال مع الزمن الذي نراه وقد تحول الى إيقاع مرئي في الموسيقى، ولهذا فإننا نكتشف الصمت المبدع والديناميكي من خلال اكتشافنا للزمن والإيقاع ، لأن الصمت المبدع في العمل الفني هو موت  للضجيج والفوضى ويشكل قيمة فنية عليا في العمل الإبداعي، وعندما أكتشفه ُ وأركزُعليه في العمل الإبداعي فإنني أكتشف ذاتي الإبداعية  وهي في ديمومتها الوجودية المبدعة ، الصامتة المتأملة الضاجة بالإبداع  .

الرؤيا البصرية للعرض

*تشكل الصورة الأساس الذي يقوم عليه معمارك المسرحي ، هل تجد ان في ذلك تعميق للمناخ الدرامي الخاص بالتجرب المسرحية وازاحة كل ماله صلة بالادب ؟

ان الثرثرة في مؤلف النص الأدبي المغلق في المسرح تعمق اغتراب نص العرض والفضاء الإبداعي ومهمات المسرح عموما أمام المتفرج المتفاعل، لذلك فمثل النص الأدبي هو اغتراب لآنية العرض البصري وللفرجة في ذات الوقت لأنه كُتب ضمن انشغالات تهدف إلى تحديد وتركيز وهيمنة الأطر الأدبية على فضاء العرض وإهمال الوسائل البصرية وجعلها ثانوية، أو جعلها تخدم البعد التفسيري للصياغات الأدبية وثرثرة المضامين الواقعية والنفسية المقيتة، وبهذا فإن النص الأدبي المغلق هنا لا يسمح بالإمكانيات البصرية للمخرج والممثل بل يحدد أفق خيالهما،وخاصة القدرات التعبيرية للممثل التي تعتمد على إطلاق الأسرار الإبداعية لذاكرته الجسدية المطلقة (وليس لذاكرة الممثل ) والتي لا يتكامل إبداعها إلا في فضاء ديناميكية العرض البصري ، و من جانب آخر فان النص الأدبي والعرض التقليدي غير البصري يخلقان الاغتراب أيضا في وعي وروح المتفرج ولا ينسجمان مع طبيعة الحوارالذي يتم بين العرض البصري والمتفرج المتفاعل وبذلك يفقدان الاتصال فيما بينهما، إن تداعي الرؤيا البصرية للمخرج لإبراز إمكانات الأنساق التي تكّون فضاء العرض يشكل لغة تجسيدية ودلالية وتأويلية لخلق التأثير والاتصال بين خيالين، خيال المتفرج من جانب وخيال الممثل ـ وذاكرة الأشياء التي في فضاء العرض ـ والمخرج من جانب آخر. لذلك فان المعادلة في النص و العرض البصري المعاصر، تفرض أدوات ووسائل ومفردات لغة بصرية جديدة، فتختلف جوهريا عما كانت عليه في النص المسرحي الأدبي المغلق ،فالمخرج وتداعياته البصرية (مؤلف وخالق الفضاء البصري للعرض ) يأخذ دوره محل المؤلف (مبدع النص البصري الذي أوحي بالعرض البصري المستقبلي ) فتنشأ رؤيا اخراجية جديدة تعتمد على جنينة النص ولهذا يتأسس ما ندعو له أي  البعد الرابع في الفضاء والزمن في العرض المسرحي، ويكشف النص والعرض البصري تلك الأحلام والكوابيس والنبوءآت وأسرار الحوارات واللغة المستترة وغياهب الجسد والصورالمشعة والمثيرة ببراءتها والأصيلة لتبهرنا وكأنها تنبثق من السديم النائي في البرزخ الكوني، ولذلك فا ن التداعي البصري للأنساق الذي يمنحه خيال الفنان البصري (صاحب الرؤيا البصرية  وليس الأدبية)هو زمن يؤثربصريا على المتفرج ويؤدي به إلى امتلاك لذة الخيال والتصور والتفكير في جوهر زمني ـ  بصري إبداعي جديد (العرض البصري الإبداعي ) أي يضعه في زمن الإبداع والحلم وميتافيزيقيا الخيال ، ومن هذا نستنتج بان المؤلف والمخرج صاحبا الرؤيا البصرية يستطيعان أن يخّلصا النص والعرض من الاغتراب من خلال التأليف بالبصريات سواء كان نصا أو عرضا، ويتم تجاوزالاغتراب بتكييف النص البصري أو العرض البصري لمعاصرة المتفرج وجوهر مشكلته ،لذلك فان النص والعرض البصري يمتلكان إمكانية تهيئة ظروف استيقاظ الفنان والمتفرج المتفاعل معا عند عتبة الوجود البصري الإبداعي فقط ،ولا تعني دعوتي لكتابة النص البصري إلى إلغاء الكلمة أو الوسائل اللغوية الأخرى عموما، وإنما على العكس فإن الكلمة تصبح إحدى الوسائل البصرية المهمة لتحقيق النص البصري إذا أحسن انتقائها، وإذا استطاع المؤلف أن يحولها من كلمة أدبية إلى بصرية تصبح جزءا من تحقيق المشهدية البصرية في العرض،وهذا كله يفرض أسس كتابة النص البصري في زمن ما بعد الحداثة ويوحي بل يفرض أيضا بعدا رابعا للزمن والفضاء البصري في العرض المسرحي.

*ماذا يعني فان كوخ بالنسبة لك ؟ هل تجده صورة للفنان أم أن مصيره وماأنتهى اليه هو الذي يعطي المعنى التراجيدي للحياة سواء بالنسبة للانسان بشكل عام ؟أو للفنان بشكل خاص ؟

-لا يمكن فصل فان كوخ أو أي فنان عن مصيره التراجيدي وهذا ما أكده بيكاسو عندما قال : إن حياة فان كوخ هي تراجيديا كاملة ، فان كوخ كان لا يجد أي معنى للحياة إلا من خلال الفن ، لهذا عندما شعر بعبثية حياته انتحر بكل بساطة ، لكن ماذا تعني العبثية بالنسبة له ؟  أعتقد أنه لم يقدم أي شئ للناس ، عند دراستي لحياته وفنه توصلت الى أنه كان يريد أن يحول اللون الأصفر الى نور يضئ روحه وروح الآخرين كما اعتقد ،وعندما لم يستطع ذلك شعر بعبثية الحياة  ، حتى   أن َّ انتحاره كان عبثيا ً، إذ لا بد أن يكون الإنسان الذي ينتظر الموت مدخنا ً غليونه دون مبالاة ، كما فعل هو بعد انتحاره ، صاحب رؤيا ووجدٍ لم يدركهما عصره، ولم ندركهما نحن الآن أيضا ، إذ هو فنان يمتلك إحساسا بعبثية الوجود وخاصة بعد ان شاهد  فردوس النور ووهج النار المقدسة هذه في أحلامه فمنحته الرؤيا القدسية المنفلتة بعيدا عن الواقع. مثل هذا الفنان لن يترك هذه النعمة ليرى الواقع بعيون غيره، ولأنه رأى جحيمه على حقيقته، أصبح شاهدا ملعونا على مآسي عصره فرفضه المجتمع وعدَّهُ مجنونا، إذن فنان مثل فان كوخ(1890 – 1853 ) يمكن ان يصاب بنوبات الوجد والرؤيا، من خلالهما يمتلك سلطة السيطرة التامة على الحلم الذي يستمده من الواقع بالرغم من أنه لا ينتمي إليه، وهذا البعد هو الذي يجعله قادرا على تحويل الواقع الخشن والمظلم إلى أحلام وفن ينتمي إلى جمال خالص تحسده عليه حتى الملائكة،  لذلك فانه يؤكد: (بأن المشاعر التي أعانيها تتجه نحو الأبدية) لأنها متحولة إلى رؤى لونية وبصرية ،إن هذا المفهوم لفن فان كوخ يدفعنا للتفكير بان هذه المشاعر هي نوبات الوجد الفني التصوفي التي لم يفهمها معاصروه ، ومازال الكثيرمن هذا الوجد غير مفهوم حتى هذه اللحظة ،وبالتأكيد فان هذا يحيلنا إلى طبيعة التناقض بين الفنان والمجتمع وبالذات إلى موضوعة العنف ،ليس فقط الجسدي وإنما الفكري أيضا والذي أصبح سمة في وقتنا الحاضر، الذي يمارس دائما ضد الفنان الذي يمتلك موقفه ورؤياه الخاصة المتفردة عما يراه الآخرين ،ان انتحار فنان مثل فان كوخ يرى الجمال بهذه الحساسية وهذا الوجد يعني بان هنالك خلل في الوجود والعلاقات الإنسانية، ويؤكد أيضا انطفاء النور الذي يعني الجمال نتيجة للعماء البشري، فيبدو انتحاره وكأنه انتصار على ظاهرة العنف والقسوة والجنون الجمعي لان فنان مثل فان كوخ لايستطيع العيش إلا في عالم أكثر إنسانية وأكثر جمالا واقل عنفا .ان مشكلة فان كوخ هي :
1. استحالة اكتشاف الحياة الحقيقية التي يبغي، وعدم القدرة على الانتماء إلى الواقع.

2-امتلاك الفنان لرؤيا فنية ذات طابع ميتافيزيقي شمولي ومحاولة انعكاسها على الحياة مما يعمق سوء الفهم بين الفنان والمجتمع ، وكثافة الشعور بالحرية تدفعه إلى الإيمان بحرية الفن المطلقة التي لا تخضع للقوانين الاجتماعية.
وبالتأكيد ان 37 سنة عاشها الفنان كرحلة ضوئية غير كافية لكي يكمل لوحته الكونية التي يبغي ،بالرغم انه تحمّل فيها جميع عذاباتنا كالقديسين ،وكل هذا يؤكد على اهمية فان كوخ في وقتنا الحاضر الذي اتسم بالزيف وتشويه الحقيقة والانسان ، وهذا هو الذي دفعني الى اللجوء لتراجيديا مثل هذا الفنان أي ان تكتشف الحقيقة والانسان يعد هذا هو جوهر الابداع الفني . لذا كتبت  نص الرحلة الضوئية  بعدة صيغ  واخرجت هذا النص بعدة رؤى وأحداها باللغة الدنماركية بممثليين دنماركيين وجمهور دنماركي .

أولوية العقل

*تجربة الاغتراب عن الوطن فترة طويلة في بلدان أجنبية أعطتك  الكثير وأول شيء اعطتك اياه  هي الحرية ، بينما حمّلك  العراق وانت في ذروة الشباب اعباء ًوضغوطات وقسوة كبيرة جدا ، كيف تنظر الى بلد اسمه العراق الان ؟

-العراق فقد  براءته وتحول الى كهل ينوء بآثام الآخرين  وغير قادر على التطهر منها بسهولة بسبب ضخامتها  أنه الان  ينوء تحت قسوة   ابناءه في الداخل وتحت سياسات قاسية  لدول الجوارلم يكن هو العراق الذي تركته قبل اربعين عاما  ، كان أبهى وأقوى  وان العراقيين كانوا ينتمون له بكل حب،الآن ينوء تحت صراعاتهم . وبالرغم من هذا فإن المثقف العراقي المتفاعل له دوره كمفكر، ان المفكرين في اوربا هم الذين انقذوها عندما قالوا بأولوية العقل بدل الخرافة وطالبوا فصل الكنيسة عن الدولة ، العراق بحاجة الى إلغاء كل خزعبلات المحاصصة والعمل على فصل الدين عن الدولة ، أن عدم قول الحقيقية الآن من قبل المثقف هو خيانة لدورة التاريخي . الأرضية الآن بمجمل جوانبها تحصر المثقف وتضيق عليه ليسقط  في دائرة التكيف من جديد .

حيث ينشأ تكيّف المثقف ويصبح جزءا من عمليات التخريب الاجتماعي والثقافي في مرحلة البناء السلبي للتاريخ الاستثنائي فقط عندما يكون هنالك خواء فكري يميز فعاليات الانسان الحياتية والفكرية ، وسكونية التطور الاجتماعي

، واعني مرحلة التطور السلبي الذي يكون فيه الانسان بشكل عام و المثقف المتفاعل بالذات غريبا عن واقعه ومجتمعه ،فالتكيّف هو الموقف السلبي للمثقف المتساهل مع ذاته وتاريخ كينونته نتيجة لموقفه المتصدئ ،وبمعنى آخر إن مثل هذا المثقف المتكيّف لا يؤثر في تطوير العملية الفكرية بمسارها الديالكتيكي في مجتمعه إلا سلبا ، لانه يتخلى عن دوره ووجوده الفاعل وهذا يمنحه خيانة وخوفا من السياسي الاستثنائي ، الذي يتلصص على المرحلة التاريخية للانقضاض على السلطة بمساعدة الوسائل غير الشرعية،وبهذا فان المثقف هنا يتحول الى أداة في آلية السلطة الاستثنائية تاريخيا وآنيا، ويكون مستعدا للمساهمة في برامجها لتهيئة الظروف التي تخلق عدمية الثقافة والفن ،اذن الدقة في تفسير دور المثقف هي حتمية تفرضها المسؤولية الذاتية والاجتماعية ،فكل خطأ في تفسير دور المثقف يؤدي الى خطأ في تفسير دور الثقافة ، ومن هنا يكون من الضروري تبني موقف لتغير الواقع الثقافي وتفسيره كليا ،وعندما يكون هنالك التباس في موقف المثقف وعدم ضوح هدفه، يبدأ الغموض في ابداعه وكذلك التماهي بدوره التاريخي والحياتي مما  يؤثر على مستقبل بلده ،كان هذا ضروريا من أجل أن أصل الى الاستنتاج بأن دور المثقف له أهمية استثنائية كبيرة في بناء مستقبل الانسان ،ونتيجة لهذا كله أؤكد على أن العراق فقد الكثير من بهائة الثقافي وعلى العراقي والمثقف بالذات أن يتمسكان بحريتهما ، وان يعمل المثقف على استعادة دوره حتى نستطيع أن نبني العراق من خلال الواقع ـــ الحلمي وليس من خلال الخرافة .

*مالذي يمكن ان تخاف منه ؟ وهل يشكل العمل المسرحي تجربة لمجابهة ماتخاف منه ؟

-كل عمل ابداعي هو مواجهة للموت والعدم والانقراض الذاتي ، أن صراع الأبداع هو مع الزمن، فإذا كان الجسد  قابل للتهرء  فإن الإبداع الحضاري قابل للخلود ، لكن ماذا نفعل به إذا كنا لا نستطيع أن نمسك  أبدية الأشياء ، لذا فالأفضل أن نفكر بتذوق الحياة ، ما آخافة هو عدم القدرة على تذوق الحياة ، لذا فأن العمل الفني هو الذي ينقذنا باعتباره قدرة على تذوق الحياة فالمهم هو ليس الخلود وإنما طريقة العيش في الحياة وتذوقها حتى وإن كان السبيل لذلك هو الموت ، وهذا ماذكرته في مسرحيتي أغاني جلجامش ،إذن الخوف يتشكل عندما يفقد الإنسان القدرة على التخيل ويتوقف الإبداع  الفني .

*متى يصبح طريق الفنان ومساره مُستَوحَشا ً ومسدودا ً ؟

-عندما لايجد مفردته وهو  يعيش في مجتمع استهلاكي مزيف و المثقف والفنان  فيه يركض لاهثاً خلف الكذب والزيف ، وعندما لا يرى  ذلك النور الذي يمكن أن يضئ روحه وأرواح الآخرين كما رآه  فان كوخ . وعادة أن طريق الفنان الذي لا يرى هو طريق مستوحش ومسدود ، فالرؤيا هي نور في طريق الفنان الصعب .

*هل تبحث عن باب ما في هذه الرحلة المضنية المجهولة في عوالم واكوان غريبة ؟ ،أم انك  تشعر بأنك منزلق في تيه أو مندفع الى هذا التيه بوعيك واختيارك لان فيك تمرداً،  لذا تجد في هذا التيه  اتساعا وفضاء لاحدود له سيغمرك بالمفاجأت التي تبحث عنها ؟

-المغامرة الواعية في الحياة لها أهميتها  للفنان كما هي ضرورة التمرد  الفني  من أجل فهم الوجود . يجب ان تعيش الحياة بوعي   وان تخلدها في روحك  المبدعة و الإبداع  أفق مجهول  إذا لم تقوده  المغامرة ويقوده التمرد على جميع  قيم الخرافة والتخلف، ويكون الشك في جميع الثوابت هو مرشدنا  في الطريق الإبداعي الذي يحمل  سؤال الفلسفة .

وقد عبرت عن هذا الحلم والمجهول  بنص شعري هو  جزء من ديواني المعد للطبع:

منتظر
كنجمة في سماء نائية عن موسيقى الكواكب .
احلم ..انا ربيب الأرض / والنجوم المبحرة في فضاءآت هلامية .
عشت مدني ، /مدن الكبرياء /يتشرد أمام بواباتها آلهة المساء
يبحثون نهارا عن ظلال في الأفق ، /وأمام قلعتها انتظرت /شارة صوفية . . غريب أنت وتبصر في ظلام اللازورد ../ إذن سر بنا بعيدا
بعيدا أيها الغريب  . /”ولأ ني اعرف اؤلئك الذين يعيروننا النار السماوية ،/سأهديهم الالم المقدس ” /من أي أزمنة يأتي الحلم ؟
أمن عنفوان الحاضر ، أم غيبوبة الماضي ؟ . /أم تماهى أشنات المستقبل / في بحر يتلألأ بنجوم تفتنه بسريتها ؟ /من يطرق طبول الزمان ليلا؟ /ياليلي .. /ليل الشعراء /يرسمون أقدارهم بلا مبالاة /أمام بحيرة الرب /تنبت أجنحة خضراء . /قبل أن يدخلوا الغابة السرية بدماثة الحكماء /يمنحون الحوريات سر الفردوس . /النار أصل الوجود حالما تسكن البيت . /كل رؤيا نار ولا شئ أكثرتوهجا /من بريق الجمال ./النار أصل الوجود .

البحث عن الحلم
*تقول في نصك المسرحي (الرحلة الضوئية ) وعلى لسان الشخصية الرئيسية فان كوخ : “آه لو كان ثمة  حلم أو نارأو نبع ماء. “.. السؤال هنا :  عن ماذا  تبحث من بين هذه المفردات الثلاثة  ؟

بالضبط  ابحث عن كل هذا من خلال الإبداع ، البحث عن الحلم والنار ( ديناميكية  الحياة ) والنبع هو المرجع والذي تدخره في تلافيف الروح والوعي والضمير ليشكل لك الحلم الذي لا بد ان يكتمل في لحظات النضج الاخيرة ، كل هذا يشكل الحياة ، والعمل الفني بمجمل أهدافه هو البحث عن الحياة وكيفية تذوقها ،وسر الموت وما بعده ، العمل الفني وكل إبداع هو استجلاء سِرُّ الموت ،وما سِرُّ الخلود إلا  التمتع بالحياة وهذا ما قالته صاحبة الحان لكلكامش في إحدى دروب رحلته الكونية في البحث عن الخلود، فالحلم يغذي وعي الإنسان ، والنار تغذي الروح ،ونبع الماء يمنح الطاقة وديمومتها المستقبلية ،أن تحلم يعني انك تكتشف سر الخلود أي الرؤيا التي ستشكل عملك الابداعي،فالحلم هو العمل والابداع الذي يؤدي الى الخلود وهذا أيضا اكتشفه كلكامش في نهاية رحلته وهو أن الخلود هو العمل في الحياة ،وبالنسبة لي كفنان مفكر وباحث عن الحياة أجد أن الخلود يكمن في العمل الفني عندما تضيف سؤالا جديدا ًلمجموع  الأسئلة المطروحة في الحياة ،وما عدا هذا فهو تقليد مزيف .

*قد أكون مخطئاً في ما أذهب اليه من تحليل ولكن دعني أقول بأنني أجدك تنظر الى العالم من خلال رؤية تقترب من شكل الكوميديا السوداء ،هل يبدو في هذا  شيىء من الصحة ؟

نعم انا اسخر من القوانين ومن الانسان المزيف ومن الكائن الذي يتخلى عن إنسانيته من أجل أنانيته ومن الإنسان الجشع الأناني الآكول لكل شئ بما فيها حقوق الاخرين، أنا اسخر من عالم السماسرة الذين يساومون على مبادئنا ،اسخر من أصحاب العقول الصدئة ،اسخر من أؤلئك الذين يزيّفون الحقيقة ، وأؤلئك الذين ينظرون بعين واحدة ،أنهم الأشنات والديناصورات والبيروقراطية والجهلة ،انهم يشكلون عالما ً متوحشا ً لذا هو  بحاجة الى عين وبصيرة أخرى وبحاجة الى رؤيا جديدة، بالنسبة لي أجد أن الأنسان وبالذات المثقف أو المبدع و الفنان ذاتي النزعة  وليس كائناً أنانياً،  وما أعنيه:  أن الذاتية هي التفرد الأبداعي،فبيكاسو وفان كوخ ودالي وبودلير ورامبو وحتى بعض المبدعين العرب هم ذاتيون، لانهم يمتلكون حقيقة إبداعية ، وهم مخلصون لها ، ولا يتاجروا بها ، لأنهم من خلالها يحققون ذواتهم، وبالتأكيد فان المزيف لا يستطيع أن يحقق ذاته بإخلاص وإنما يهمه أن يشبع أنانيته .

*هنالك العديد من الشعوب مازالت تعيد انتاج طقوس مضى عليها الالاف السنين وهذا يبدو أمراً طبيعيا بالنسبة لها ، لانها جزء من معتقداتها وتكوينها ، ولهذا الامراسبابا وظروفا عديدة ، لكن عندما يتعلق الامر بفاضل سوداني ، الى اي مدى يذهب بهذه الطقوس عندما يعيد انتاجها ؟ والى ماذا يريد ان تصل السوداني من خلالها ؟

-الطقس بالنسبة لي هو احتفالية بالحياة وابتهاج بتلك الرؤيا التي تخفف من قسوة الحياة وتجعل منها وسيلة للحلم ، هنا علينا أن نستغل لحظات العيش كاملة بدون الترهل البشري الثرثار، أعني بدون الوجود الفائض والثرثار، يجب العيش بالوجود الخالص أو الصافي والنقي ، بهذا نحقق الديناميكية الوجودية ،وعكس هذا هو سكونية الحياة ، فمثلا في مسرحية الرحلة الضوئية وبالذات في طقس تحويل اللون الى نور ليضئ روح فان كوخ ، عمل ممثل الدور على التطهير بالنور حتى يتهيأ لهذا الطقس بمعنى أن جسد فان كوخ وجسد قرينه كانا مصبوغين بلونين مختلفين ،لهما تأثيرهما التصوّفي ،وهما الأزرق الشذري والأحمر ،وهما يمارسان الهمس الجسدي، يضيئهما عمود ضوئي من الأعلى ، ولكن عندما يغرقان في الظلمة يضاء جسديهما وكأنهما يشعان بنور خاص ،وفي ذات العرض المسرحي استخدمت بعض من مفردات الطقس العاشورائي الذي له علاقة بلطم الجسد شبه العاري حتى يتحرر ، بمعنى أني استخدم الطقس وهو في حالته المتحركة وليس في ثباته التراثي .

التجريب بصيرة متفردة

*لاشك انك تراقب وتتابع النشاط المسرحي في العراق ، وتجد ان هنالك العديد من الأعمال المسرحية التي يتم تصنيفها نقديا في باب التجريب ، فهل تجد اننا في العراق قد انجزنا شيئاً في اطار التجريب ، أم اننا نطلق التسميات والمصطلحات جزافا؟

-أي تجريب لا يمكن ان يتحول الى سلوك ثقافي عام إلا بعد أن يتحول الى ظاهرة ، والظاهرة تتحول الى ممارسة سلوكية ، واي ظاهرة لا يمكن ان يكون لها تأثير إلا بعد أن تؤثر في  نمطية الحياة والقوانين وتغيرها ،و التجريب هو ليس نجاح  او وعي متميز في هذا العمل أو ذاك وإنما هو خلق منهجية تجريبية جديدة في الثقافة والحياة ، وعندما تتغير الأنماط الثقافية المبدعة عندها تصبح ظاهرة فنية وثقافية ،أن التجريب هو التعبير الحقيقي وغير المُزيف لجوهر الحياة والتاريخ فمادامت الثقافة تراوح في ذات المكان فالتجريب يصبح غريباً عنا ، بمعنى أن التجريب هو التعبير عن زمن غير محسوس وغير ملموس وغير مكتشف ، وأيضا هو بصيرة متفردة ورؤيا بصرية تعبرعن تلك الرؤى غير المرئية وهو في ذات الوقت رؤيا للتعبير عن الأصالة الوجودية التي تتحدى قوة العدم أو الخراب الوجودي متسمة برؤيا بصرية متجددة وليس مكروره  . التجريب هو رؤيا غير مزيفة ومرآة صافية تعكس خفايا الروح وأسرار الوجود ،فأي تجريب  يبتعد عن هذه الحقائق يبقى ثرثرة غير مجدية . ولكن في المسرح العراقي هنالك جهود صادقة وجدية ومؤسسة على ثقافة رصينة كان أساتذتها أشخاص مبدعين مثل حميد محمد جواد وابراهيم جلال وجعفر السعدي وجاسم العبودي وبدري حسون فريد وسامي عبد الحميد  وقاسم محمد وغيرهم  أسسوا  اللبنات الأولى التي يطورها الآن مخرجون مثل صلاح القصب وفاضل خليل و كاظم نصار ومهند هادي و  احمد محمد عبد الأمير وغيرهم وقد شعرت ببهجة خاصة عندما شاهدت عروض شبابية لمخرجين شباب ينبؤون بمستقبل العرض المسرحي العراقي مثل الشاب محمد مؤيد وعلاء قحطان وأنس عبد الصمد وصلاح منسي وغيرهم .المشكلة في التجريب ليس فقط في المسرح العراقي وإنما العربي ،عموما يكمن في الفهم الخاطئ لمفوم الجسد وتحولاته ، حيث يفهم على أنه لغة خارج الروح أي مفردة خارجية تعبرعن الشكل فقط وتتخلى عن الشرارة الداخلية وجمرة الروح التي تحول الجسد الى لغة روحية وفكرية بحيث تؤثرعلى بصر وبصيرة المتفرج ، أنها لغة تحمل التأويل المضاعف للأشياء في فضاء المسرح ، وتبتعد عن كونها حركات سويدية مكرورة تعبر عن سذاجة هزيلة وتثيرالقرف والضحك .

*هل شعرت في لحظة ما ان رحلتك الطويلة هذه في البحث عن الجمال والحقيقة ذاهبة الى العبث او اللاجدوى ؟

احيانا نعم ….وخاصة  عندما تعيش في مجتمع تتحكم به الخرافة والطائفية لدرجة يصبح الجمال المزيف هو الذي يتنفسه الانسان ويتحول الى سلوك اجتماعي عام ،انظر الى موجودات جميع المؤسسات

والبيوتات حيث بُدلت رائحة زهور الجوري والرازقي بزهور وأعشاب بلاستيكية في حين كانت روح الأنسان تمتلىء برائحة الرازقي البغدادي  صباحا وهو ذاهب الى عملة ، انظر الى الإنارة الريفية الساذجة التي تخنق ليل بغداد وروحها ، وتمنح العراقي  رؤية تعتمد على عشوائية الذوق والسذاجة ،لماذا هذه الغشاوة التي توضع بعمد على عيون العراقيين ؟؟ اقصد بان كل هذا أصبح سلوكاً اعتاد عليه الإنسان ،وحتى نعرف كيف نفكريجب أن نمتلك القدرة في تمييز رائحة الطبيعة الخالصة عن الرائحة المزيفة  لنشم رحيق الطبيعة وعبقها ، فإستخدام الزهور المزيفة تدل على سايكولوجية بشرية مزيفة ، أما الزهور الطبيعية في مؤسسة السياسي  تمنحه قدرة على التفكير بدل تلك الزهور البلاستيكية ، كذلك الحال مع عشوائية الألوان  والإنارة في بغداد والمحافظات، أن تبني أو تجمِّل مدينة هذا يعني أن تبني تكامل  إنساني، وحتى نتخلص من الذوق السيئ الذي يغزو حياتنا كالطاعون علينا أن نفكر بالفنانين لكي يعيدوا لنا إحساسنا بالجمال ، ونمنح  أصحاب الذوق القدرة على إعادة الإحساس بهارمونيا  الجمال وهم قادرين على أن يرونا جمال العراق ، جماليا يجب ان نتذوق الحياة بأي شكل من الأشكال ، عندها ستكتشف مرادفاً آخر ضد اللاجدوى والعبث وهو ديناميكية الوجود ، أي ان تعيش الحياة ديناميكيا ، هذان الجانبان هما اللذان يشكلان جمال الرؤيا البصرية، الحياة تصبح عبثا عندما تفقد معناها وألوانها ورائحة الإبداع فيها ويفقد الإنسان جمال البصر والبصيرة ،البحث عن الحقيقة والجمال هي رحلة شاقة في الحياة مادام هذان الجانبان يشكلان معنى الحياة .

 

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *