تجليات الحداثة في النص المسرحي المعاصر في عمان

هل يستحق المؤلفون هذا الاهتمام؟

سؤال أسعى منه خلاله تقريب إجابة، ليست قاطعة ولا نهائية عن النصّ المسرحي المعاصر في عمان. فعبر يومين وضمن جلستين على منصة النادي الثقافي وبرعاية وتنظيم من المنتدى الأدبي أثيرت الأسئلة والقضايا عن هذا النص المسرحي بما له وما فيه واحترز الباحثون عن التطرق لما يؤخذ عليه. وفي الوقت الذي قدم فيه الباحثون الدكتور نادر مصطفى القنة من الكويت، والدكتور محمد بن سيف الحبسي، والدكتورة كاملة بنت الوليد الهنائية، والدكتورة لطيفة بلخير من المملكة المغربية، والأستاذة عزة بنت حمود القصابية، والدكتور سعيد بن محمد السيابي أوراق عملهم وتناولوا بالشرح المستفيض وبالتحليل المتعمّق سبر أعماق النصوص، ظلّ شح النصوص المسرحية، وقلة كتّابه، طيرا ينعق في سماء عمان.
وقد أثارت أسئلة المتدخلين هاجسا وقلقا مشروعين، فإذا كان النص المسرحي المعاصر قد تبلورت عناصره لدى بضعة كتّاب، فلماذا لم يخرج هذا النصّ إلى خشبات المسارح العربية والخليجية إلى اليوم؟ ولماذا ظل تنفيذه محدودا لمخرجين عمانيين فقط في المهرجانات المسرحية الخارجية والتي تخضع لموسمية معروفة؟ ولماذا لم يتم إلى اليوم إخضاع هذه النصوص لفيض من الدراسة والنقد المؤسساتي؟ أو حتى يدخل دوريا إلى حيز الورش والمختبرات، محليا وخليجيا وعربيا؟
وبالرجوع إلى أوراق الباحثين قد نعثر على ما يجعل المؤلف المسرحي مزهوا بنفسه وبنصوصه اليتيمة، ومطمئنا ثلاث سنوات قادمة على الأقل .. ولِمْ لا؟ وقد قالها نادر القنة صراحة حينما أعلن وبقوة في ورقته المعنونة (إسطاطيقية التركيب الدراماتورجي وفلسفة البناء الجروتسكي في النص المسرحي العماني المعاصر) في معرض حديثه عن الحداثة الغربية: إن أول اشتراطات الحداثة أن تكون ديمقراطيا، وأن تشتغلَ على موضوع الحرية، وأن تكون الحرية هي شاغلك.. وبدأ مشروع الحداثة بمرتكزات من أهمها إعلاء شأن الفردية والعقلانية، والإيمان المطلق بفكرة التقدم الإنساني المطرد، والتسليم بمبدأ الحتمية في التاريخ وفي الطبيعة وهذه سنجدها عند عبد الكريم جواد، وفتح باب البحث العلمي والمعرفي واسعا أمام التحليل والتفسير والتأويل، ورفض سلطة الميتافيزيقية اللاهوتية ووصاياها على العقل البشري سنجدها عند بدر الحمداني، وجعل فكرة التجريب العلمي كمصدر من مصادر المعرفة عند صالح الفهدي، وإطلاق حرية التفكير والتعبير فليس هناك بحث علمي بمعزل عن حرية التعبير وحرية التفكير سنجدها عند آمنة الربيع، وعبد الغفور البلوشي له تماس مع ذلك، والسيادة الليبرالية للإنتاج ورفض فكرة الاحتكار المعرفي والاجتماعي والسياسي والثقافي، وتقبّل الآخر والاحتفاء بالتعدد الأيديولوجي، هذه أفكار التنويرين… وهذه الدراسة المسحيّة لكل المنتج الجمالي الأسطاطيكي لهذه البنية داخل هذا المُرّكب العالمي تجعلنا جميعا نعترف صراحة وبوضوح أن كل النصوص المسرحية العمانية تدخل في إطار الحداثة بالمعنى الواسع، لأن لها علاقة بالواقعية وبالرمزية والتعبيرية والملحمية، كلها تعاطت مع هذه المذاهب ولا يوجد نص مسرحي عماني خارج هذه الأطر…”، وعند هذه النقطة يزهو الكاتب المسرحي بنصه الحداثي. وهذا الإعلان أعادني إلى ما كتبه فسيفولود مايرخولد في كتابه (في الفن المسرحي)، أنه ” لا ينبغي على الكاتب المسرحي المعاصر أن يعتقد أنه إذا ما تخلّص من المخرج سوف ينجو من عبوديته للممثل”! فيا للهول! ويسرد مايرخولد ما رواه لهم الناقد فاليري مكسيم “كيف أنه ذات مرة لم يعجب بعض المستمعين والممثلين، أثناء البروفات، فكرة اتفق الجميع على اعتبارها كريهة على الآلهة وطالبوا بحذفها. فغضب لذلك يوربيدس وهرع إلى خشبة المسرح وأخذ يصرخ: اخرسوا أيها البلهاء. ليس لكم أن تقرروا ما تحبه الآلهة أو تكرهه في أشعاري. فأنتم أبعد من أن تفهموا شيئا. لقد قدمت لكم مأساتي لا لتعلموني وإنّما لأعلمكم!”
والنكتة الظريفة هنا تدعو للغرابة صدقا! فما قدمه مايرخولد أنه سعى للكشف عن جدلية العلاقة القائمة ما بين المؤلف والممثل والمخرج. وتاريخيا هي علاقة تخضع لتقاطعات متداخلة: من كاتب يرى أنه خالق النص، ومخرج يتصدى دراماتورجيا لإعادة خلق ثانية، وممثل يتصور أنه صانع العرض وبطله أمام الجمهور. وإذا كان في تخيل أي مؤلف مسرحي أن تحّكم الممثل به سيكون مشدودا بحبل رخو سهل الانقطاع لأسباب إنتاجية، إلاّ أنه في النهاية لا يوجد ممثل مسرحي بلا نصّ، مثلما لا وجود لنص بلا خشبة ومخرج، وعنف الموقف يبرز في أن المؤلف المعاصر قد أعلى من شأن نصه، وأيّ تدخل لا يكون في مصلحة النص من أي جهة أو مؤسسة أو فرد، ليس التعامل معه سهلا، وهذا ما نفهمه من غضبة يوربيدس العظيمة. وبالرغم من ذلك فمهما تصرف الممثلون والمخرجون بالنص، من قص ولصق وتعديل بالاتفاق مع المؤلف، أو بتلفيق وبخروج عن النص في لحظة الفعل المسرحي أمام الجمهور، فإنّ ما تفعله الرقابة تاريخيا بالنصوص هو الأسوأ. وغضبة الشاعر الإغريقي يوربيدس الذي أجّله التاريخ ومؤلف روائع مسرحية وصل إلينا 17 مسرحية قصيرة من أصل يُعتقد أنها 92، وذاع صيت أهمها: الضارعات، إلكترا، الطرواديات، افيجينيا في تاروس، والفينيقيات، إنما تصدر من مناخ إغريقي عام سادته الفلسفة في عصره، وقُدمت على خشباته أعظم المسرحيات الخالدة، وهذا ما يجعل غضبته مبررة. أما المؤلف المسرحي اليوم فالأحوال لا تسير معه إلاّ للأسوأ.
وينبني تجديد النصّ المسرحي المعاصر على تشكلات متداخلة تؤطرها الحداثة وما بعد الحداثة. وهذا ما أكده جّل الباحثين المنتفعين بنتاج حضارة أوروبا المعرفي وما أجمعوا عليه. فمع تسارع إيقاع المتغيرات العالمية الكبرى في النصف الأول من القرن العشرين أخذت أفكار الحداثة بالبروز إذّ قامت كما يُلخصها الدكتور شاكر عبدالعظيم “برسم مسارات جديدة للإنسان امتلك عبرها رؤيته الجديدة للعالم ولنفسه (في عصر النهضة الأوروبية ومن ثم عصر الأنوار)، تلك الرؤية التي اختلفت عن العصر الكلاسيكي، حيث حاولت الحداثة الاعتماد الكلي على النزعة الإنسانية والتشريع للإنسان بذاته، فأصبح الإنسان هو المركز، كما حاولت التأسيس بناء على العقلانية وإقصاء المتخيل الأسطوري والميتافيزيقي، مما أدى إلى قيام الثورة الصناعية والعلمية في كافة المجالات في الحياة الأوروبية”، ومن ناحية أخرى بلغ تأثير ما جاءت به الحداثة من تيارات على واقعنا المسرحي تأثيرا كبيرا، وعند هذه النقطة يرى الدارسون أن جذور التأثير قد انطلقت منذ الستينيات وأنا ما قدمه المخرجون من عروض، وسبقهم نصوص المؤلفين، قد أسهم بقدر هائل في تجديد دماء مسرحنا العربي، فتفردت بعض التجارب بإبداع صيغ إخراجية جديدة بجماليات مستلهمة من الفنون التشكيلية والبصرية ومخزون اللاوعي، بالضبط كما حدث الخرق مع النص نفسه، برفض قولبته. والمدهش أننا في عُمان بدأنا الكتابة العلمية للمسرح بنصوص تقليدية شابها التأليف العماني تارة، والتأليف بأيد عربية تارة أخرى، وتجربة مسرح الشباب خير دليل على ذلك، دون أن تتوفر دراسة نقدية بمنهجية صارمة شاملة لنقد البدايات، لنجد أنفسنا كتّابا ومخرجين على أعتاب الحداثة_وكم تبدو المقارنة صارخة بين الطوي لمنصور مكاوي والبئر لآمنة الربيع_ وبدل أن تكون نصوصنا مبنية على تطور موضوعي، إذا بها ترتمي في محاضن الحداثة. والمتأمل لمعطيات التأليف المسرحي المعاصر يجده نتاج ظروف موضوعية عانت منها نشأة المسرح في عمان ولازمته، وأوضحها انقطاع التواصل مع تجربة النادي الأهلي لظروف مادية وفنية، وعدم وجود التراكم النصيَّ مسرحيا بفقدان نصوص للنادي الأهلي بسبب الإهمال الوظيفي، وغياب الجدليات اللازمة لتحريك الفعل المسرحي، بين جمهور متعطش للفرجة المنتظمة، وتذبذب في مكان العرض والبروفة، إضافة إلى غياب التأليف الحّر سواء في المسارح أو مع الورش أو في الهواء الطلق. وأتت ورقة الدكتور سعيد وعنوانها (تأثير المهرجانات على النص المسرحي في عمان) لتؤكد أن بعض الهواجس المسرحية في طريقها للاستمرارية، من ذلك مثلا عدم وجود خريطة تخطيطية للمسرح بشكل عام، وتذبذب الفعل المسرحي بارتكازه على المهرجانات وعدم توفر المسؤول المُحب للمسرح، ولكن مغامرة كتابة النص على قياس مهرجانات معينة هي الضربة القاضية للنص المؤلَف؛ فخطورتها في شقين: الأول أنها تكرس لأشكال إخراجية ولمدارس تجريبية محددة. والثاني إنها تنتصر لأخطر تجليات مابعد الحداثة، ألا وهي انتفاء المعنى. وإذا كنت لا أستطيع، لا أنا ولا غيري، تأكيد هاتين النقطتين في مناخنا المسرحي، لأن ما يكتبه بعض المسرحيين الشباب الذين قرأت نصوصهم ما زالوا يتغنون بالتقاليد الاجتماعية المُهيمنة وبمشكلات المجتمع الاعتيادية (البحر والزواج والبحث عن وظيفة وموضة البنات وتقليعات الشباب)، وحتما لهم جمهورهم الذي لن يتخلى عنهم، كما يتجلى عدم غياب المعنى لدى بعض المسرحيين عند تكريسهم للمسرح الشعبي. فلا خوف عند هذه النقطة من وجود مسافة بين ما هو عتيق وكائن، وما هو هجين وحداثي في النص المسرحي المعاصر. وأقول هذا باطمئنان انطلاقا من أن ثقافة الكتابة المسرحية لم تتأسس إلى اليوم على جدليات معرفية في الفلسفة وفي الفكر، وليس لها مواقف صادمة مع الأصالة والحداثة، ولم تترب ضمن تناقضات بنيوية حادة في المجتمع، وربما هذه الأسباب هي التي تجعل المسؤولين الثقافيين في استغراب ودهشة حينما يُقبل الشباب وهم في عمر الزهور على تناول مضامين مسرحية عن الذبول والجفاف والجوع والسوداوية؛ ومنطلق المسؤولين في ذلك أن الكتّاب المسرحيين يعيشون في تنمية مجتمعية متصاعدة، ويتمتعون بالأمن والسلام، ويعملون في وظائف حكومية، ويحصلون على امتيازات كثيرة. ما الذي نخلص إليه؟ ضمن هذه الندوة طالبنا بتوصيات نافذة، توصيات تقف على تتبع مغامرة الفعل المسرحي، تأليفا، وترصد التحولات التي عرفتها ممارسة هذه الكتابة، واتضح ذلك فيما طلبه الدكتور القنة بإقامة ندوة مخصصة للنقد الأدبي والفني في النص المسرحي في عمان، ولا نريدها أن تكون حكرا على النص المعاصر، بل شاملة لعموم التجربة، وقد دعا سعادة الدكتور خالد بن سالم بن سعيد السعيدي أمين عام مجلس الدولة وراعي الندوة أن تتبنى اللجنة الوطنية للشباب تنفيذ هذه التوصية.

 

آمنة الربيع –

http://main.omandaily.om

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *