الفن في وجه الأمن وشرطته الاختصاصية

ليست المرة الأولى تهدد الرقابة “الأمن الفني”، وتوهن نفسيته في لبنان. إلا أن المنع الذي تعرضت له مسرحية لوسيان بورجيلي، “بتقطع أو ما بتقطع”، ترافق مع خطاب

 

بوليسي ضدها، أكان في مكاتب الأمن العام، أم على التلفزيون، في حديث لمسؤول شؤون الإعلام في الأمن العام، العميد منير عقيقي، لبرنامج “الحدث” على قناة “الجديد” (حلقة 3 أيلول 2013).

رفضت الرقابة المسرحية، موجِّهةً إليها تهمة “المسخرة” على المديرية العامة للأمن العام، التي اعتُمدت كمعيار تصنيفي. الرقابة هي ضد الكوميديا، ولاسيما السوداء منها، التي تنتقد أفعالها وسلوكياتها في حق الفن، والتي غالباً ما تمارَس بدون الإتكاء على قانون واضح.
في ممارسته الملتبسة، يؤكد الأمن العام أنه ضد الفن على الدوام، بحيث لا يمكن أن ترسو العلاقة بينهما على تسوية أو على حياد إيجابي. بل أكثر. فالأمن العام، في تدخله الرقابي، يدفع العمل الخلاّق نحو الإمتثال، والإحتذاء بمقاييسه، التي من المعلوم أنها لا تسمح بسوى إنتاج النص المكرور والمُعاد، الذي يؤدي دوره في التسطيح والتبسيط، إخفاء للواقع وتمثلاته المأزومة.
منع الأمن العام المسرحية لأنها لم تنصع لمقاييسه الرقابية، بل تهكمت عليها، وسخرت من غموضها، الذي تبدده الواسطة. أما حجة الرقابة فكانت انقطاع النص عن الواقع، بحيث أن المشاهد الحاضرة فيه، لا تحصل في مكاتب الأمن العام. فليس من حق المؤلف الكتابة عن أحداث متخيلة، لم تقع في دوائر الرقابة من قبل. على الكاتب والمخرج التزام “واقع” الأمن، ونقله إلى خشبة المسرحية بدون مبالغة أو مغالاة. إذ كان من الضروري أن يشير بورجيلي في النص إلى أن الرقابة لا تمنع النصوص، ولا تتعامل مع كتّابها بأخلاقية الشرطة، بل تهابهم، وترجو منهم الإنتباه إلى هذه المسألة أو تلك في أعمالهم، حرصاً منها على خيالهم الفني.
ذلك، أن الأمن ماكينة نقدية، وليس آلة رصدية وإخضاعية: لقد زوّر بورجيلي الواقع الأمني بـ”مسخرته” المسرحية، وأفرط في تزييفه. هذا ما تريد الرقابة أن تقنعنا به، لكن هيهات. فهي أقل قدرة على الإقناع، وأبعد عن التدليل والبرهنة. أولاً، لأن الفن دائماً على حق. ثانياً، لأن الجهاز الأمني، على خلاف الرائج في الخطاب المدرسي، يرعب، ويرهب، ولا يحافظ على الأمن نفسه. فهو ليس ضد الفن فحسب، بل ضد ذاته أيضاً.
حين قرر الأمن العام الدفاع عن قرار منع المسرحية، أكد في برنامج “الحدث” أن الرقابة لم ترفض النص من تلقاء ذاتها، بل استعانت بـ”اختصاصيي” المسرح، كي لا يكون قرارها تعسفياً. فمسرحية بورجيلي، بحسب مسؤول الرقابة، تشذ على قاعدة التأليف المسرحي، التي تنص على الإنطلاق من حال معينة، أو واقعة محددة، من أجل المبالغة في تقديمها بارودياً. تالياً، لم تستند المسرحية إلى حدث واقعي، بل نقلت “واقعاً خيالياً غير صحيح”. لذا، وهنا المفاجأة، لم يقدر الأمن العام على إخضاعها للرقابة، فأحالها على “الاختصاصيين”، كي يقف على آرائهم النقدية، ويأخذ بقراراتهم حيالها.
لم يقدر الأمن العام على منع مسرحية بورجيلي من تلقاء قانونه الخاص، لذا لجأ إلى المعرفة الفنية، فبات النقد في خدمة الأمن. كأن الرقابة تتوجه إلى الكاتب والمخرج، وخلفه “مارش”، بالقول إنها ستستعمل كل الوسائل كي تعوق العرض. هذا القول المفترض، عبّر عنه العميد عقيقي، حين رأى أن المسرحية شكلت “تحدياً” للأمن العام. إذاً، النص يتحدى المؤسسة. الأول، لا واسطة له، والثانية، تستعين بالنقد “الاختصاصي” كي تحسم المعركة.
إلا أن النقد لم يكن فنياً البتة، بل كان جائراً ومتعسفاً أكثر من فعل الرقابة نفسه، إذ مالت كل الآراء إلى إهانة لوسيان بورجيلي، ووصفه بالمهلوس، والمريض، والتافه، والسخيف، والمفتقر إلى النضج والفكر العميق. أما نصه فأثبت “الإختصاصيون” الأربعة، الذين صدف أنهم اتفقوا جميعهم على رأي واحد، أنه نص “صبياني، عبارة عن تعتير كلامي، يدعو للشفقة والإستغراب، وبعض جمل الحوار فيه مركبة بهلوسة تشهيرية تدل على انعدام مستواه الفني”. كما أنه نص يسيء، بـ”مخيلة” كاتبه، و”شطحات أفكاره اللاواعية”، إلى مؤسسة الأمن العام. تالياً، المسرحية “لا علاقة لها بالمسرح، بل صنف كلام ركيك، فضلاً عن كونها غير مستوفية الشروط من حيث البناء”. هذا، ويدعو صاحب الرأي الرابع إلى تشديد الرقابة على الفن في لبنان، مؤكداً، بحسب ما جاء في الورقة، أنه “مع التحرر الموضوعي للرقابة، لأننا، وعلى رغم الرقابة الموجودة، نرى أن الشاشات وخشبات المسرح، تعج بالتفاهات وتكرس الزمن الساقط، فكيف بالحري إذا رفعنا الرقابة نهائياً”.
صاحب هذا الرأي، الذي من المفترض أنه “اختصاصي”، يدعو الأمن العام إلى تحمل مسؤوليته النقدية، والبحث في كيفية الإنتهاء من التفاهات الفنية. كما لو أن الأمن هو المسؤول عن نقد الفن وتقويمه.
“الاختصاصيون”، يؤدون أدوارهم الأمنية في حقل الفن، وعندما تضعف أدواتهم النقدية، البالية في الأساس، يستعينون بالأمن المؤسسي كي يمنع هذه المسرحية أو تلك، ويحافظ على نظريتهم الفنية، التي يصح وصفها بـ”الركيكة والمثيرة للشفقة”. فالأمن العام ليس الوحيد يراقب النصوص المسرحية، بل ثمة “اختصاصيون” يمارسون أدوارهم الترهيبية في ميدان المسرح وغيره من الفنون.

 

ر. ع.

http://newspaper.annahar.com/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *