محمود المليجي … نجم رحل بـ 750 عملاً فنياً

حفل الزمان الجميل بابداعات عمالقة الفن والغناء في عالمنا العربي الى جانب نجوم العالم الغربي فقدموا الكثير خلال مسيرتهم التي كانت في بعض الأحيان مليئة بالمطبات والعثرات. منهم من رحل عن هذه الدنيا مخلفاً وراءه فنّه فقط، وآخرون ما زالوا ينبضون عطاء الى يومنا الحالي.

البعض من جيل اليوم نسي ابداعات هؤلاء العمالقة وتجاهلوا مسيرة حافلة من أعمال تركتها بصمة قوية، وفي المقابل يستذكر آخرون عطاءات نجوم الأمس من خلال الاستمتاع بأعمالهم الغنائية أو التمثيلية، وقراءة كل ما يخصّ حياتهم الفنية أو الشخصية.
وفي زاوية «بروفايل» نبحر في بحار هؤلاء النجوم ونتوقف معهم ابتداء من بداياتهم الى آخر مرحلة وصلوا اليها، متدرجين في أهم ما قدّموه من أعمال مازالت راسخة في مسيرة الفن… وفي بروفايل اليوم نستذكر أهم محطات الممثل الراحل محمود المليجي:

اشتهر الممثل المصري الراحل محمود المليجي بأدوار الشر التي أجادها بشكل بارع، ودور رئيس العصابة، كما لعب شخصية الطبيب النفسي، وقدم أدواراً أمام نجوم السينما المصرية.
انضم المليجي في بداية عقد الثلاثينات من القرن الماضي إلى فرقة الفنانة فاطمة رشدي، وبدأ التمثيل من خلالها، وكان يؤدي الأدوار الصـــــغيرة، مثـــــل دور الخـــــادم، وكـــــان يتقاضــــى مرتباً قدره 4 جنيهات.
ولاقتناع فاطمة رشدي بموهبته المتميزة رشحته لبطولة فيلم سينمائي اسمه «الزواج على الطريقة الحديثة»، بعد أن انتقل من الأدوار الصغيرة في مسرحيات الفرقة إلى أدوار الفتى الأول، إلا أن فشل الفيلم جعله يترك الفرقة وينضم إلى فرقة رمسيس الشهيرة، عمل فيها ابتداء من وظيفة ملقن براتب قدره 9 جنيهات.
ولد محمود المليجي في الثاني والعشرين من ديسمبر عام 1910، في حيّ المغربلين، أحد أقدم أحياء القاهرة الشعبية وأشهرها، وهو من أصل كردي، ونشأ في بيئة شعبية حتى بعد أن انتقل مع عائلته إلى حيّ الحلمية، وبعد أن حصل على الشهادة الابتدائية اختار المدرسة الخديوية ليكمل فيها تعليمه الثانوي. وكان حبه لفن التمثيل وراء هذا الاختيار لأن الخديوية كانت تشجع التمثيل، فمدير المدرسة لبيب الكرواني كان يشجع الهوايات وفي مقدمتها التمثيل، فالتحق المليجي بفريق التمثيل بالمدرسة، حيث أتيحت له الفرصة للتتلمذ على أيدي كبار الفنانين، أمثال أحمد علام، جورج أبيض، فتوح نشاطي، عزيز عيد، والذين استعان بهم مدير المدرسة ليدربوا الفريق.
المليجي روى ذكريات أيام التمثيل بالمدرسة: «في السنة الرابعة جاء عزيز عيد ليدربنا، جذبتني شخصيته الفذة وروعة إخراجه وتطور أفكاره، وكنت أقف إلى جانبه كالطفل الذي يحب دائماً أن يقلد أباه، وقد أُعجب بي عزيز عيد وأنا أمثل، ومع ذلك لم يُعطنِ دوراً أمثله، وكان يقول لي دائماً (إنت مش ممثل… روح دور على شغلة ثانية غير التمثيل)، وفي كل مرة يقول لي فيها هذه العبارة كنت أُحس وكأن خنجراً غرس في صدري، وكثيراً ما كنت أتوارى بجوار شجرة بفناء المدرسة وأترك لعيني عنان الدموع، إلى أن جاء لي ذات يوم صديق قال لي: إن عزيز عيد يحترمك ويتنبأ لك بمستقبل مرموق في التمثيل، فصرخت فيه مَنْ قال لك ذلك؟ أجاب إنه عزيز عيد نفسه… وعرفت في ما بعد أن هذا الفنان الكبير كان يقول لي هذه الكلمات من فمه فقط وليس من قلبه، وإنه تعمَّد أن يقولها حتى لا يصيبني الغرور، وكان درساً لا يُنسى».
وفي أحد عروض فرقة المدرسة المسرحية، كان من بين الحاضرين الفنانة فاطمة رشدي، والتي أرسلت تهنئ المليجي بعد انتهاء العرض على أدائه الجيد لدور «ميكلوبين» في مسرحية «الذهب»، ودعته لزيارتها في مسرحها حيث عرضت عليه العمل في فرقتها بمرتب قدره أربعة جنيهات شهرياً. عندها ترك المليجي المدرسة لأنه لم يستطع التوفيق بينها وبين عمله في المسرح الذي كان يسيطر على كل وجدانه. فقدم مع «فاطمة رشدي» مسرحية «667 زيتون» الكوميدية. كما مثل دور «زياد» في مسرحية «مجنون ليلى»، وكان أول ظهور له في السينما في فيلم «الزواج» العام 1932 الذي أنتجته وأخرجته فاطمة رشدي، وقام هو بدور الفتى الأول أمامها.
وبعد أن حُلَّت فرقة فاطمة رشدي، عمل المليجي كملقن في فرقة «يوسف وهبي» المسرحية. ثم اختاره المخرج «إبراهيم لاما» لأداء دور «ورد» غريم «قيس» في فيلم سينمائي من إخراجه في العام 1939.. كما أنه وقف في العام 1936 أمام «أم كلثوم» في فيلمها الأول (وداد)، إلا أن دوره في فيلم «قيس وليلى» هو بداية أدوار الشر له، والتي استمرت في السينما قرابة الثلاثين عاماً، فقدم مع فريد شوقي ثنائياً فنياً ناجحاً.
وكانت نقطة التحوّل في حياة «محمود المليجي» في العام 1970، وذلك عندما اختاره المخرج يوسف شاهين للقيام بدور «محمد أبوسويلم» في فيلم «الأرض»، فقد عمل في ما بعد في جميع أفلام يوسف شاهين، وهي: «الاختيار»، «العصفور»، «عودة الابن الضال»، «إسكندرية ليه» و«حدوته مصرية».
وتحدث يوسف شاهين عن المل0يجي، فقال: «ان محمود المليجي أبرع من يؤدي دوره بتلقائية لم أجدها لدى أي ممثل آخر، كما أنني شخصياً أخاف من نظرات عينيه أمام الكاميرا».
وقد ترك المليجي بصماته في المسرح أيضاً منذ أن اشتغل مع فاطمة رشدي، والتحق في ما بعد بفرقة إسماعيل ياسين، وبعدها عمل مع فرقة «تحية كاريوكا»، ثم فرقة المسرح الجديد، وبذلك قدم أكثر من عشرين مسرحية، أهمها أدواره في مسرحيات: «يوليوس قيصر»، «حدث ذات يوم»، «الولادة»، ودور «أبو الذهب» في مسرحية أحمد شوقي «علي بك الكبير».
ودخل المليجي مجال الإنتاج السينمائي مساهمة منه في رفع مستوى الإنتاج الفني، ومحاربة موجة الأفلام الساذجة، فقدم مجموعة من الأفلام، منها على سبيل المثال: «الملاك الأبيض»، «الأم القاتلة»، «سوق السلاح»، «المقامر»… وبذلك قدم الكثير من الوجوه الجديدة للسينما، فهو أول من قدم فريد شوقي، تحية كاريوكا، محسن سرحان، حسن يوسف وغيرهم.
ومثل محمود المليجي مختلف الأدوار، وتقمص أكثر من شخصية: «اللص»، «المجرم»، «القوي»، «العاشق»، «رجل المباحث»، «البوليس»، «الباشا»، «الكهل»، «الفلاح»، «الطبيب»، «المحامي»… كما أدى أيضاً أدواراً كوميدية.
كان عضواً بارزاً في الرابطة القومية للتمثيل، ثم عضواً بالفرقة القومية للتمثيل. وهو فنان صادق مع نفسه، تزوج من رفيقة عمره الفنانة عُلوية جميل العام 1939 وبقي مخلصاً لها على مدى أربعة وأربعين عاماً حتى وفاته. كان إنساناً مع زملائه الفنانين، وأباً روحياً لهم، ورمزاً للعطاء والبذل والصمود أمام كل تيارات الفن الرخيص، بالرغم من أنه اضطر للعمل في أعمال تجارية في السبعينات مثل «ألو أنا القطة» – إلا أنه يعد رمزاً لفنان احترم نفسه فاحترمه جمهوره.
رحل محمود المليجي في السادس من شهر يونيو العام 1983 وهو في سن الثالثة والسبعين، على إثر أزمة قلبية حادة بعد رحلة عطاء مع الفن استمرت أكثر من نصف قرن، قدم خلالها أكثر من سبعمئة وخمسين عملاً فنياً، ما بين سينما ومسرح وتلفزيون وإذاعة. وكما يموت المحارب في ميدان المعركة، مات محمود المليجي في مكان التصوير وهو يستعد لتصوير آخر لقطات دوره في الفيلم التلفزيوني «أيوب»… فجأة، وأثناء تناوله القهوة مع صديقه عمر الشريف، سقط الملــيجي وســـط دهـــشة الجميع.
أطلق عليه الفنانون العرب لقب «أنطوني كوين الشرق»، وذلك بعدما شاهدوه يؤدي الدور نفسه الذي أداه أنطوني كوين في النسخة الأجنبية من فيلم «القادسية» بالاتقان نفسه بل وأفضل.. وأيضاً أداؤه في فيلم «الأرض»، فقد أدّى فيه أعظم أدواره «محمد أبوسويلم» وهو مكبَّل بالحبال والخيل تجرّه على الأرض محاولاً هو التشبث بجذورها، ولم تكن روعة المليجي في فيلم «الأرض» تكمن في الأداء فقط، بل في أنه كان يؤدي دوراً معبّراً عن حقيقته، خصوصاً عندما رفض تنفيذ هذا المشهد باستخدام بديل «دوبلير»، وأصرّ على تنفيذه بنفسه. لم يكن قط مجرد ممثل، بل كان فناناً.
عاش ليقدم لنا دروساً في الحياة من خلال فنه العظيم. كانت معظم أدواره، حتى أدوار الشر، تهدف إلى مزيد من الحب والخير والإخلاص للناس والوطن… كان مدرسة فنية في حد ذاته، وكان بحق أستاذاً في فن التمثيل العفوي الطبيعي، البعيد كل البعد عن أي انفعال أو تشنج أو عصبية. كان يقنع المتفرج أنه لا يمثل، ومن ثم اكتسب حب الجماهير وثقتهم.

 

إعداد رشا فكري

http://www.alraimedia.com

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *