المسرح فن التمثيل وسحر الممثل.. ابتكار وتجريب وبحث

في الجزء الأول من مقالتنا هذه تحدثنا عن التصنيفات التي وضعها المعلم المسرحي ستانسلافسكي عن الممثلين واليوم نتواصل للتعريف بتلك التصنيفات فنبدأ

الحديث عن ممثلي العرض والذين ينطلقون من فرض يقتضي من الممثل ان يكون عديم الإحساس في العرض المسرحي لا في التدريبات وتبرير هذا الفرض لديهم يتأتى من كون الممثل لا يمكنه ان يؤدي الدور مرتين متتاليتين بنفس النجاح والاهمية من حيث موازنة المشاعر والحفاظ عليها وفي الحديث عن الممثل في هذا الصدد تعقد الجدل في مهمة الممثل حين اثار الفيلسوف الفرنسي دينس ديدرو ( 1713 _1784 ) قضية الموضوعية الذهنية التي كان يرى فيها ( ان التناقض الظاهري في الممثل يكمن في انه لكي يؤثر على الآخرين يتحتم عليه ان يظل  هو نفسه باردا وخاليا من التأثر ) ومعنى ذلك ان يكون الممثل كثير الذكاء وذا صوت مدرب جيدا وتلقائيا في الحركة متمكنا من حرفيته الخارجية اما ما يخص بناء المشاعر الحية من الداخل والتي تحرك ادوات التعبير عند الممثل

الجزء 2
فلم يكن يوليها من الاهتمام بقدر ما استحقته الحرفية الخارجية منه اذ أكد بشكل رئيس على أهمية التناول الظاهري في التشديد على استخدامات الجسد والصوت والإيماءة والنبرة والمحافظة على التقاليد والأساليب الحرفية ان الدافع الذي يكمن وراء ذلك هو تحقيق ( وحدة الأداء ) انطلاقا من تقليد ( النموذج المثالي )الذي يصل اليه الممثل بعد ما يكونه في خياله كشكل خارجي كامل من خلال  التمارين والذاكرة وممثلو العرض يدعون الى لفظ الإحساس وتجنبه باعتباره يشكل ضعفا في التنظيم فموهبة الممثل لا تكمن في الاحساس بل في ترجمة العلامات الخارجية للاحساس ترجمة امينة دقيقة كما يؤكد ديدرو ويضيف ( ان الممثل ليس مرادفا للشخصية انه يؤدي دورها ويحسن اداؤه بحيث تظنون انه الشخصية ذاتها الايهام من اجلكم انتم اما هو فيعلم تماما انه و الشخصية اثنان لا واحد ) ويعتقد المعلم ستانسلافسكي ان هذا النوع هو ما يصح تسميته بـ ( الحلو او الجميل ) ولكنه بلا عمق انه يؤثر بشكل مباشر واني لكنه لايملك السطوة الحقيقية المعهودة في فن التمثيل اي ان الشكل فيه يكون اكثر جاذبية من موضوعه او محتواه انه يؤثر على العيوب ويخلبها وعلى الاذان ويدغدغها ولكنه لا يمس الروح وباختصار فأمه يرضيك ولكنه لا يملؤك لقد أدرك ستانسلافسكي جمود هذا الاسلوب من اساليب التمثيل لافتقاره للمضمون الداخلي الذي ينبغي ان يتسلح به الممثل وجاء هذا الادراك بعدما خاض تجربته الاولى في الاخراج لمسرحية ( ثمار المعرفة ) للكاتب تولستوي حينما كتب بصدد تقييمها ما يأتي ( لقد انتقلنا بسعينا الثوري نحو النتائج الخارجية للابداع مباشرة واهملنا أهم مرحلة فيه ولادة الاحساس وبتعبير اخر بدأنا بتجسيد احساسنا دون ان نعيش المضمون الروحي الذي ينبغي التعبير عنه بالشكل الفني لقد انتقل الممثلون الى الشكل الخارجي مباشرة دون ان يعرفوا الطرق الاخرى ) ان المعلم ستانسلافسكي تبنى فن الممثل على فن الحدث المسرحي بتدفقه وديناميته لان ما يكتسب القوة والامتاع على الخشبة هو ذلك المتجسد من خلال الحدث فالحدث هو الوسيلة الرئيسية في التعبير المسرحي من خلال حدث عضوي فعال وقصدي ينسج الحياة الداخلية للشخصية ويكشف المعنى الفكري والانتاجي لذا( فممثلو العرض) يعنون بالنتائج المعبر عنها بالاشكال الخارجية ولا يجسدون العملية العضوية للحدث اذ ان كثيرا من   الممثلين ينظرون ويسمعون ويتحركون ولكنهم في جوهر الامر لا يدركون ذلك الذي يحيطهم بمعنى انهم معطلو الحواس فأبداع الممثل العرض لايتجاوز انتاجه شخصية مسرحية شرطية بقناع مسرحي وان كان ( ممثل العرض)  يعايش دوره الا ان هذه المعايشة هي وسيلة للوصول الى انجاز الصورة الخارجية التي يعيد انتاجها عن طريق الحركات العضلية 
ونواصل الحديث عن اصناف الممثلين لنتوقف عند( الممثلين الاليين) وهم الذين لايعيشون ولا يعرضون ادوارهم اذ انهم مجرد انماط مكرره يستجيرون بالايدي وبتعبيرات الوجه او الايماءة والاشارة والصوت لكي تسعفهم بايصال ادوارهم وهم مجرد اقنعة منبهة لمشاعر غير موجودة انهم يحتفظون بمخزن جاهز لكل عاطفة فهم في الحالات العصبية مثلا يكشرون عن اسنانهم ويديرون عيونهم ويقلبونها عند الغيرة ويزيدون وجوههم سخفا وانخسافا عند البكاء انهم يلتجئون الى مشاعر رخيصة ومسرحية ميتة وبذلك يقلدون العواطف انهم يدركون ان الشخصية الممتلئة بحاجة الى نمو طبيعي في التجسيد وغياب الادراك هذا جاء نتيجة فرضهم لعواطفهم في بواكير اعمالهم فمنذ البداية تراهم يقفزون الى عناصر التشخيص باعتمادهم على انماط جاهزة بدلا من النمو التدرجي الحي والطبيعي للشخصية انهم كما يصفهم روبرت لويس (مندفعون لارتداء معاطفهم في أول يوم عندهم وبعد ذلك في غضون التدريبات يحاولون ارتداء البستهم الداخلية ان التمثيل عندهم لا يتعدى كونه مجرد محاكاة سطحية للسلوك البشري برصيد جاهز من الحركات والتشنجات لا باعتباره ( عملية خلق فني) انهم يترجمون افكار المؤلف بالصيغة التي تتواءم ومعطيات انماطهم الخاصة ) وبذاك تجيء هذه الافكار باهتة مفتقدة للاحاسيس والمشاعر تخضع لقوالب صنعوها وفق الطلب وبطرق مختلفة لقراءة الدور وطرق الالقاء والتكلم ومن ذلك المبالغة في رفع النغمات وخفضها في اللحظات الحساسة في الدور والتي يتعمدون اداءها في تهدج عاطفي متكلف او تنميقات صوتية حماسية يفتعلونها بطريقة خاصة ولذلك فان الممثل الالي بالرغم من تمثيله شخصيات عدة نجده ذا بعد واحد وذلك نابع عن غياب الفهم الحقيقي للمهنة التي تعتمد على جانبين رئيسيين في ابداع الشخصية الجانب الذي صاغه المؤلف والجانب الذي اضافه الممثل .
ومن الحديث عن المعلم صاحب الطريقة ستانسلافسكي في تصنيفه للممثلين وانواعهم ننتقل لمفهوم الممثل وفن الاداء لدى معلم اخر وصاحب نظرية مهمة في فن المسرح والذي يقف على النقيض مع المعلم الروسي انه الالماني بريشت ومسرح التغيير والتغريب ان هدف التكنيك ذي التأثير التغريبي الذي جاء به برشت يهدف الى الايحاء للمشاهد بعلاقة تحليلية انتقادية تجاه الاحداث المصورة اما الوسائل فتكون فنية ان تحرير خشبة المسرح وصالة العرض من كل ما هو سحري وتحطيم كل انواع الحقول المغناطيسية يعد شرطا ضروريا لتطبيق تأثير التغريب لهذا فقد رفض بريشت كل المجادلات الرامية الى اقامة جو على المسرح يتعلق بمكان الحدث مهما كان نوع المكان كما رفض كل المحاولات الرامية الى اثارة مزاج معين عن طريق استخدام الكلام الموقع ( الايقاعي )انه لم يعمد الى اثارة محددة للجمهور بواسطة الامزجة الجامحة للممثلين ولا الى سلب عقولهم بواسطة التمثيل شبه الطبيعي هو لم يسع الى ان يضع الجمهور في نشوة كما لم يسع الى ان يوحي اليه اوهاما كما لو انه يحضر مشاهدة فعل لم يحفظ مقدما عن ظهر قلب انه ضد ايقاع الجمهور في الوهم وهو يتبع الطرق التالية في تحقيق التغريب :
ان كل ما يتعين عرضه على المتلقي يجب ان يصاحبه تظاهرة واضحة للعرض يجب ان يطرح جانبا ذلك التصور حول الجدار الرابع الذي يفصل بين المتلقين وخشبة المسرح اي الغاء حالة الايهام التي تزعم ان كل الاحداث التي تجري على خشبة المسرح تحدث كما لو ان المتلقين لاوجود لهم داخل القاعة ومن هنا جاء التعارض ما بين التكنيك المستخدم لدى ستانسلافسكي والمعتمد في مسرح بريشت ومع ذلك فلا يتعين على الممثل وهو يسعى الى عرض شخصيات معينة واظهار تصرفاتهم ان يرفض نهائيا حالة التقمص انه يستخدم هذه الوسائل في مستوى معين يمكنه من تقديم الحالة التصويرية لتصرفات الشخصية التي يمثلها دون دخول في حالة الايهام .
ولايضاح الصورة بشكل اكثر سعة سيكون لنا تتمة للحديث عن فن التمثيل ومسرح بريشت .

 

عواطف نعيم

http://www.almadapaper.net/a

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *