مسارح بيروت تاريخياً… تأسّست واجتذبت.. أثّرت وتأثّرت مصرياً

إذا أردت أن تؤرّخ للحركة المسرحية في بيروت، أو لتشييد مسارحها، فإنك من الصعب أن تفصل هذا التاريخ عن تاريخ المسرح في مصر، فالمسرحيين

 

اللبنانيين هم أنفسهم المسرحيين المصريين، غرست البذرة في بيروت لكنها نمت وألقت في مسارح الإسكندرية والقاهرة، وأي مؤرّخ لتاريخ المسرح في مصر عليه أن يبدأ من بيروت وصولا إلى أرض الكنانة، المجتمع والبيئة اللتين شكلتا التربة الصالحة لنمو بذرة الفن التي غرست في بيروت، فأينعت جمالا بوادي النيل، من (سليم قرداحي إلى مارون نقاش وجورج أبيض وبديعة مصابني وعبد السلام النابلسي).
ثم كان الإياب لفرق الرواد المسرحيين تلك، وكبار المسرحيين المصريين والمطربين والفنانين، إلى بيروت التي استعدت لوفادتهم، فتهيّأت ببناء المسارح، على أفخم الطرز الأوروبية الحديثة في بناء المسارح وتجهيزها، لكن تلك النهضة في بناء المسارح لم تكن وليدة لحظتها، فقد جاءت تطويرا لتراث مسرحي شعبي عاش بين الناس وكوّن ضميرهم الثقافي لسنين متوالية، فقد عرفت بيروت بذور المسرح، في أشكال متعددة (كالحكواتي وكركوز وعواظ وخيال الظل) في المقاهي ،كقهوة القزاز في ساحة البرج وقهوة البسطة وقهوة عصور، وكانت تلك المقاهي تعرض في برنامجها الليلي الدائم بواسطة الممثل الوحيد الذي هو (الحكواتي) روايات مؤلفة عن بطولات الفرسان التاريخيين العرب أمثال (عنترة بن شداد العبسي)، أبو الفوارس، أو (تغريبة بني هلال) أو (حكاية الزير سالم) وقد تناول الحكواتية روايات (جرجي زيدان) «المملوك الشارد وشجرة الدر» وغيرها من القصص التي بدأت تظهر في تلك الحقبة عن التاريخ العربي والإسلامي.
كان (الحكواتي) يقوم بتمثيل الواقعة وينفعل معها حربا وقتالا أو سلما وهدوءا أو محبة وهيام، فيتلبس مختلف الشخصيات في شخصيته من عنترة إلى أخصامه، وأبو زيد الهلالي والزير سالم، فكان مقنعا للجمهور الذي يتفاعل مع الحكاية ويعيشها بكل تفاصيلها، ولعل النادرة التي تروى عن الرجل الذي ذهب إلى بيت (الحكواتي) يوقظه من نومه، بعد أن انتهى سرد رواية (عنترة) في تلك الليلة، إلى وقوع البطل في الأسر، ليطلب منه فك أسر الفارس أبو الفوارس في الحال، تظهر هذه النادرة مدى تفاعل الجمهور مع الواقعة المسرحية وتأثره بها.
كانت ليالي الشتاء وليالي رمضان هي مواسم المسرح للرجال الذين يلبسون أبهى حللهم ليكون حضورهم الدائم إحتفاليا بحضور ما يعرض عليهم من وقائع وأحداث، وغالبا ما كان الجمهور ينقسم فينحاز بعضه إلى هذا الفارس أو ذاك، كل حسب تفسيره، إذا كان الحق إلى جانب هذا أو ذاك، أما عروض (كركوز وعواظ) و(خيال الظل) فكانت للتسلية والترفيه عن النفس، ولا تلعب الدور التثقيفي التي تلعبه قصص الحكواتي ورواياته، كانت برامج «خيال الظل» تعرض في المقاهي وفي أماكن مغلقة، ولكن عروض «كراكوز وعواظ» بالإضافة إلى هذا كانت تجول في الشوارع والأحياء والساحات العامة، ليشاهدها الأولاد والبنات والنساء، الذين ليس باستطاعتهم زيارة المقاهي، وقد شكّل هذا النشاط، بداية المسرح المتجول، الذي أخذت تقوم به الفرق المسرحية فيما بعد، بعد (كركوز وعواظ) التي كانت (البذرة الأولى للدمى المتحركة) الذي اشتهر بإسم «مسرح العرايس»، وقد حضرت شخصيا عرضا رائعا لفرقة مسرح العرايس المصرية، وهي تعرض مقطوعة «الليلة الكبيرة» للشاعر «صلاح جاهين» وتلحين وغناء المبدع «سيد مكاوي»، وذلك على مسرح سينما «الأمير» في بناية العسيلي في بيروت خلف سينما «كابيتول».
كان (صندوق الفرجة) الذي يعرض من خلال نافذة بلورية، ما بداخله من صور لأبطال كان الأولاد يسمعون عنها من آبائهم (عنترة وأبو زيد الهلالي والزير سالم)، كانت الصور تظهر مكبّرة وملونة، تتحرك أحيانا وكأنها تقوم بالدور الذي يواكبه صاحب الصندوق بصوته بشرح المشهد، وكانت الموسيقى غالبا ما تواكب عرض الصور، كان هذا التطوّر يواكب إختراع السينما وبدء حضورها المتزايد.
ولادة المسرح في بيئته المسرحية الواسعة
هذا الجو الشعبي العام المتعطش للثقافة والمعرفة، عن طريق العروض المسرحية البسيطة تلك، كان يواكب ولادة بيروت، كمركز تجاري وسياسي وثقافي في المنطقة، وفي رحم تلك البيئة المتعطشة للمعرفة عن طريق إرهاصات المسرح الأولية، بدأت تتفتح المواهب وتزدهر، وقد عرفت تلك الفترة فرقا مسرحية لهواة عديدين، كانوا يقدمون عروضهم في سهرات عليّة القوم، أو أعراسهم.
كانت بداية المسرح الإحترافي، مع «مارون النقاش» الذي افتتح عصر التنوير المسرحي، بتشكيل أول فرقة مسرحية على النمط الغربي، وترجمة أولى النصوص المسرحية الغربية لتقديمها إلى الجمهور. كان مارون شاعرا رأى في المسرح «كتابا للثقافة الشعبية» فأقدم على خطوته الرائدة في ترجمة مسرحية «البخيل» لموليير، وعرضها في دارته، وقد حضرها رهط من عليّة القوم والقناصل، ثم ذهب إلى الإقتباس من المسرح الغربي ومن قصص (ألف ليلة وليلة).
بدأت الحركة المسرحية على النمط الغربي مع مارون نقاش، ولم يكن الواقع الإجتماعي يسمح بمشاركة المرأة بأي نشاط إجتماعي، فكيف أن تقف على خشبة المسرح لتؤدي أي دور، لذلك استعان بإخوته الشباب لتأدية الأدوار الأنثوية، بعدها يحدثنا «يوسف وهبي» أنه صادف في دمنهور فرقة تعرض قطعة مسرحية في الشارع يقودها رجل لبناني إسمه «سليمان قرداحي»، وكان لرؤيته لهذا العرض الأثر الكبير في عشقه للمسرح، لكن الخطوة المؤسسة، جاءت من قبل «جورج أبيض» الذي عشق التمثيل منذ صغره، وهو على مقاعد الدراسة، فكان ينشئ الفرق المسرحية في المدرسة ويؤدي الأدوار الصعبة فيها، لكن طموحه كان بسعيه لدراسة فنون المسرح من مصادره في أوروبا، فيمّم شطر مصر ليحظى لدى حاكمها وعليّة القوم فيها وجمهورها كل ترحيب ورعاية، فأرسله الخديوي إلى أوروبا، ليعود ويؤسس النظام المسرحي لأول مرة على النمط الغربي، هذا النمو لم يكن في تقديري ليحدث لولا وجود البيئة التي ربت هؤلاء على ثقافة المسرح منذ طفولتهم.
ملحمة بناء المسارح في بيروت
يكاد المرء يعجب، كيف بُني هذا العدد الهائل من المسارح الفخمة على الطراز الأوروبي الحديث في بيروت؟ يأتي الجواب من الشعور الطبيعي لدى مختلف الفئات أن البرزخ بين بيروت والإسكندرية يكاد يتلاشى، وإن البعد بينهما هو على مسافة خطوة، وأن الفرق أو الأجواق في مصر هي فرق مشتركة بين القطرين، لذلك فما علينا سوى الإستعداد لاستقبالها.
كانت الفرق المسرحية والمسرحيين اللبنانيين، يحاولون بكل جهد شق طريقهم، بتأسيس حركة مسرحية مستقلة، وقد اجتهد هؤلاء في مسعاهم، مما يوجب علينا تقديمهم في بحث آخر.
– المسرح الأول هو «زهرة سوريا» وقد سمي بهذا الإسم لأن «بيروت» كانت تسمى به منذ القرن الثامن عشر، فهو أقدم المسارح التي شيّدت، في العام 1887، أنشأه سليم آغا كريديه بالشراكة مع سليم آغا بدر، على التصميم الأوروبي النمسوي، ثم استثمره المسرحي يوسف بشارة لمدة ثلاث سنوات، ثم تحوّل إلى خليط من العرض المسرحي والسينمائي، في الحرب العالمية الأولى تحوّل إلى مركز إمداد للجيش العثماني، ليعاود نشاطه المسرحي حتى عام 1927 عندما اشتراه علي الحموي وحوّله إلى مقهى بإسم «الكريون» ومن ثم مخزنا للمواد الغذائية، في عام 1940 استثمره الممثلان «ناديا تقلا شمعون» و«علي العريس» وأطلقا عليه إسم «تياترو ناديا» ليتوقف عن العمل عام 1945، ليشتريه «عفيف كريدية» ويطلق عليه إسم «مسرح فاروق» ليرتبط إسم عائلة  «كريدية» ببناء المسارح، ويشتهر «عفيف كريدية» بظرفه وخفة ظله وطيبته التي كانت عنوانا لأهل بيروت، فكان رمزا لها، وتجاوبا مع ثورة الضباط الأحرار في مصر، يستبدل إسم المسرح ليصبح «مسرح التحرير».
شهد المسرح الذي بقي يعرف جماهيريا بإسم «مسرح فاروق» عروض العديد من الفرق المسرحية المصرية، أهمها «جوق أبيض» لجورج أبيض، و«فرقة علي الكسار» وغيرها العديد من الفرق المسرحية المصرية قبل أن يبدأ مرحلة التقهقر والإنهيار، فمنذ بداية الستينات بدأ المسرح يتحوّل إلى خليط من العروض المسرحية المبتذلة، تقدم فيها وصلات الرقص الشرقي والتمثيليات التي تعتمد التهريج مع محاولات لإستضافة فنانين مرموقين مثل «محمد عبد المطلب» وقد حضرت شخصيا إحدى تلك العروض، مع بعض الأصدقاء، وقد فوجئت بتقديم «الأراكيل» في الصالة وتجوال بائعي «البزورات والترمس والمرطبات» بين الجمهور، ولكن ما كان باديا وباقيا هو، التصميم الرائع لمقصورات «البونوار» و«البلكون»، التي تلف الصالة من أعلى فتعطي للمكان أبهة غابت عنها العروض المسرحية الرائعة التي شهدتها.
واستمر الإنحدار حتى عام 1971 حين تعرّض المسرح بسبب الإهمال إلى حريق قضى عليه، ثم كانت الحرب الأهلية التي أتت على ما حوله، وجاءت عملية إعادة الإعمار لتجهز عليه نهائيا.
– مسرح الرويال: في ساحة البرج عرف بمسرح «الشي دوفر» وقد أسسه الآغوان سليم كريدية وسليم بدر عام 1919، عام 1924 إنتقلت ملكيته إلى نقولا قطان وجورج حداد، ليصبح إسمه «مسرح رويال» ويتم هدمه في الخمسينات لتفتح الطريق بين ساحة البرج وشارع بشارة الخوري.
– مسرح الكريستال: هو أكبر المسارح البيروتية وأهمها، وقد عرف بتوأمته مع «مسرح فاروق» وملاصقته له في نفس الشارع، وقد بناه «سليم آغا كريدية» على قطعة أرض ورثها عن أبيه، على أحدث الطرق المسرحية الأوروبية، كان يحتوي على أضخم المقصورات، وغرف للممثلين، وكان في تصميمه أشبه بدار الأوبرا المصرية التي ذاع صيتها في ذلك الوقت، وقد قدّم فيه «جورج أبيض» معظم مسرحياته.
– التياترو الكبير، الـ «غروند تياتر»: بني هذا المسرح على طراز البناء المحيط بموقعه، على رأس شارع المعرض، الذي تحسبه أحد شوارع باريس، عند الزاوية التي تنفتح على ساحة السور «عصور» وساحة البرج وشارع المعرض الذي يوصلك بساحة البرلمان ويؤدي إلى مجموعة المساجد والكنائس التي تزدحم فيها المنطقة، وصولا إلى باب إدريس وشوارع «اللنبي وويغان وفوش»، بني هذا المسرح ليتميّز عن المسارح السابقة بطابعه الغربي المميّز، وكان على آخر معالم بيروت القديمة أن تغادر المكان ليكتمل الشارع بطابعه الأوروبي، حيث كان يشغل المكان مستودع للزوارق يملكه «عبد الله الشرقاوي»، إشتراه «جورج ثابت»، وأوكل للمهندس «يوسف أفتيموس» في نهاية العشرينات بناء مسرح على الطراز الحديث، ينافس «مسرح الكريستال»، وكان «يوسف أفتيموس» هو شيخ المهندسين الذي كان له النشاط الأكبر في بناء الدوائر الرسمية وغالبية القصور في بيروت، والتزاوج بين فن المعمار الشرقي والغربي، فكان «مسرح التياترو الكبير أو الغروند تياتر حسب ما كان يطلق عليه تمايزا عن المسارح الأخرى وإعطائه طابعه الغربي الحديث فكان شبيها بدار للأوبرا، رغم صغر حجمه عن باقي المسارح» وقد عرض فيه عام 1929مسرحية لفرقة «ماري بل وشارل بواييه» وقدّمت «الكوميدي فرانسيز» عدة عروض فيه، ووقف على خشبته عمالقة المسرح والطرب العربي «يوسف وهبي، أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، زكريا أحمد، أمينة رزق، وحسين رياض..
وفي إحدى النوادر التي تروى، أن «زكريا أحمد» أراد عرض إحدى قطعه المسرحية على خشبة هذا المسرح، لكنه فوجئ بقلّة الجمهور وفي الليلة التالية كذلك، حتى دبّ فيه اليأس وقرر التوقف عن تقديم عرضه فكان أن نصحه بعض المعارف، أن يذهب في اليوم التالي، وكان يوم جمعه، فيقرأ القرآن ويؤذن للصلاة، في المسجد العمري الكبير القريب من المسرح، وهذا ما كان حتى التمت الجموع من أنحاء السوق تسأل عن صاحب الصوت الرخيم، وفي المساء امتلأت الصالة وكان الوقوف أكثر من الجلوس.
– مسرح الأمبير: تم بناءه عام 1904، في مكان أحد «الخانات» التي كانت منتشرة في ساحة البرج، وقد تم تحويله إلى مسرح، بعد أن اشتراه «نقولا قطان وجورج حداد» عام 1920، وما يبدو لنا، أن تلك الشخصيتين قد لعبتا دورا مهما في بناء المسارح في بيروت، وقد عملا على تجهيز المسرح بأثاث من الخارج، المقاعد الوثيرة وفسحة الإستراحة والبار الذي يعرض مختلف الأصناف، وقد قدّمت عليه «فاطمة رشدي» «صديقة الطلبة» مسرحياتها، حتى عام 1929، حين تحوّل المسرح، إلى صالة عرض سينمائية، كانت السبّاقة عام 1930 في عرض أول فيلم ناطق، دعيت إليه أكابر شخصيات البلد.
استمر مسرح «الأمبير» الذي تحوّل إلى صالة سينما أمبير يمثل أفخم صالات ساحة البرج، حتى أتت عليه الحرب العبثية المدمرة منذ العام 1975.
بعض الموسيقيين والمطربين والفرق التي حضرت في مسارح بيروت
سيد درويش، زكريا أحمد، محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، محمد عبد المطلب.
الفرق: جوق أبيض «جورج أبيض»، فرقة رمسيس يوسف وهبي، فرقة نجيب الريحاني وزوجته بديعة مصابني، فرقة فاطمة رشدي – صديقة الطلبة، فرقة سليم وأمين عطاالله، التي عرفت بإسم «كشكش بك»، فرقة «عكاشة إخوان» الكوميدية، وقد لعبت على مسرح الكريستال، فرقة «علي الكسار» التي اشتهرت برواية «بنت فرعون»، فرقة «الشيخ زكريا أحمد» التي لعبت في «التياترو الكبير» .في وقت متأخر وفي الستينات، ظهرت محاولات لإعادة إحياء ساحة البرج والأسواق لتاريخها المسرحي، فعرضت على مسرح سينما «الأمير» في بناية «العسيلي» خلف سينما كابيتول، مسرحية الدمى الإستعراضية الرائعة «الليلة الكبيرة» للشاعر الكبير «صلاح جاهين» والموسيقار «سيد مكاوي» وقد حضرت هذا العرض الرائع، وفي سينما «ريفولي» قدمت بعض العروض المسرحية المحلية، لكن الحرب كانت لها بالمرصاد.
تنتهي هنا حكاية بناء المسارح، ولكن حكاية المسرح في بيروت لم تبدأ، وهي حكاية تصارع على جبهات كثيرة، خاضها ويخوضها مسرحيون كبار، نحن على موعد لسرد تاريخهم.
محمد صالح أبو الحمايل

http://www.aliwaa.com

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *