مسرَحَة عالم البحّارة في تجربة عبد الرحمن المناعي التغيرات الاجتماعية وأثر الطفرة المالية في حياة الإنسان القطري

في كتابه “المسرح في قطر”، الصادر عن منشورات الهيئة العربية للمسرح عام 2009، يؤرخ الدكتور حسن رشيد لبداية المسرح القطري الحقيقية بعرض مسرحية “أم الزين”، للكاتب عبد الرحمن المناعي (1948- …)، وإخراج المخرج الأردني الراحل هاني صنوبر عام 1975.

 

 

 

 

يعزو حسن رشيد هذا التأريخ إلى أسباب عدة: أبرزها أن عناصر العرض المسرحي قد اكتملت بهذه المسرحية، وأنها الحد الفاصل بين ما كان يُقدم قبل تاريخ عرضها وبعده، ذلك أنها تناولت التغير الاجتماعي الذي طرأ على المجتمع الخليجي، وأثر الطفرة المادية، ودور اكتشاف النفط ومدى تأثيره في حياة الإنسان القطري والخليجي على السواء، كما أنها جسدت ما أفرزه الوضع الجديد من علاقات هشة وسط الإنسان البسيط، وأبرزت الظواهر السلبية في المجتمع.
تدور أحداث مسرحية “أم الزين” في أواخر حقبة الغوص بحثاً عن اللؤلؤ، حين يتبنى النوخذة بو راشد الأخوين حمد وشريفة إثر موت والديهما، فيربيهما مع ابنه راشد وابنته أم الزين. يكبر الأربعة على حلم زواج حمد من أم الزين وراشد من شريفة. وفي رحلة الغوص الأخيرة يصطحب النوخذة الولدين، لكن عاصفةً قويةً تضرب البحر فيغرق راشد، ويسدل الستار على مرحلة كاملة من مسيرة الشخصيات والقرية، ويبدأ عصر جديد بذهاب حمد إلى العمل في شركة البترول، وارتداء شريفة الملابس السود حزنا على راشد، وانتظار أم الزين عودة حمد ليتزوجها، إلاّ أن الطفرة المادية التي يشهدها المجتمع تغيّر النوخذة فيملأ الطمع والجشع نفسه، ويزوج ابنته من عجوز ثري، وحين يرجع حمد يواجه الحقيقة المرة، حقيقة ضياع حلمه، لكنه يظل متمسكاً بالأمل، مؤكداً أنه لن ينسى أم الزين، ولا البحر، ولا كل من التهمته أمواجه.
لكن في مقابل اعتبار جل الباحثين أن مسرحية “أم الزين” شكلت أبرز علامات المسرح في قطر، كما يقول الدكتور رشيد، تؤاخذ الباحثة والكاتبة المسرحية العمانية آمنة الربيع (في مخطوطة أطروحتها لنيل الدكتوراه) البنية الدلالية لهذه المسرحية على أنها تعبّر عن ظاهرة حنين إنسان المجتمعات الخليجية خاصةً إلى القديم أو العتيق، وتصفه بأنه حنين لا ينفصل عن ظاهرة النوستالوجيا العربية العامة. فشخصيات المسرحية تنعى حاضرها وتحّن إلى ماضٍ ينطوي على الكثير من الظلم والاضطهاد، ويُستعبد فيه “نواخذته” الغواصين. إلاّ أن الباحث البحريني الدكتور إبرهيم عبد الله غلوم لا يرى، في كتابه “المسرح والتغيّر الاجتماعي في الخليج العربي”، أن لجوء الكتّاب، خاصةً أصحاب الرؤية المستبصرة، في الخليج العربي إلى الماضي يشكّل محض تمجيد له، أو بحثاً عن نقاء العهد القديم، أو يستلهم الحياة الاجتماعية الأولى للآباء والأجداد، من أجل بعثها، أو التعبير عن الشوق إليها، كما يفعل الرومنطيقيون عادةً، بل يهدف إلى استثماره في إضاءة الحاضر، والدعوة إلى تغيير النظام الاجتماعي الراهن.
كتب المناعي بعد “أم الزين” نحو خمس عشرة مسرحية منها “باقي الوصية” 1976، “هوبيل يالمال” 1976، “يا ليل يا ليل” 1979، “هالشكل يا زعفران” 1982، “مقامات بن بحر” 1987، “زنزانة البحر” 1989، “رسائل بو أحمد الحويلي” 1993، “شدو الظعاين” 2008، “اللؤلؤة بين الدشة والقفال” 2010، “كرك” 2012، و”مهرة” 2013. ويُلاحظ أن الكاتب بدأ تجربته بالكتابة عن المجتمع البحري (مجتمع الغواصة والبحارين والنواخذة وتجار اللؤلؤ)، وهو المجتمع التقليدي القديم في الخليج العربي، وتناوله في نصوص أخرى، في سياق جدل الماضي والحاضر، وانتهى إليه في نص “مهرة”. لكن المناعي ليس وحده من ركز على هذا المجتمع، بل جل كتّاب المسرح في الخليج، ويُعزى ذلك إلى أسباب عدة أبرزها: الطاقة الدرامية الكامنة في أعماق الحياة الاجتماعية الماضية، وتحول صورة المجتمع القديم إلى ضرب من المواجهة لما يختمر تحت السطح، وبحث عن جذور الصراع الاجتماعي.
في مسرحية “مهرة”، التي أخرجها المناعي لفرقة الدوحة المسرحية وعرضها في مهرجان الدوحة المسرحي الثاني (نيسان 2013)، تجري الأحداث قبل أيام قليلة من انتهاء موسم الغوص على اللؤلؤ حيث اجتاحت في أول الليل عاصفة قوية مصحوبة بأمطار غزيرة المنطقة الوسطى من الخليج آتية من الشمال الغربي، تسببت في غرق عدد كبير من السفن، كما تسببت في دمار كبير على الأرض للبيوت والمزارع، ثم تركز المسرحية على حكاية مهرة التي فقدت والدها في هذا الحادث وتكافح من أجل بدء حياة جديدة من خلال الخروج من أزمة فقد الوالد، وفي الوقت نفسه التخلص من مطاردة ابن عمها لها الطامع في ثروتها التي ورثتها عن أبيها، حيث يقف معها القلاف (صانع السفن)، الذي كان يعمل مع والدها، وبمساعدة أهل الحي وأصدقاء والدها، إلى أن يتعافى جرحها وتنكشف أطماع ابن عمها.
تُعد مسرحية “يا ليل يا ليل” من أنضج مسرحيات المناعي التي تدور في إطار المجتمع البحري القديم، وتتناول أصداء الموروث الشعبي في قلب قرية خليجية صغيرة، ليرتفع المؤلف بشخصياتها وأحداثها وعقدتها الدرامية من سياقها المحلي إلى آفاق إنسانية عامة تتمحور حول قضية استغلال القوي، الذي يمتلك وسائل الإنتاج، لمجموعة من البشر الضعفاء، الذين لا يملكون غير قواهم العضلية، بشتى أساليب الإكراه والإرهاب.
تبدأ أحداث المسرحية بعدما أعفى التاجر ومالك المراكب والسفن بو فلاح، البحارة من العمل مقابل حصولهم على نصف أجورهم الشهرية. وبذلك جعلهم يمضون أوقاتهم جالسين في المقهى الذي يمتلكه، أيضاً، مستسلمين للكسل والخمول. على رغم الذل الذي يعيشونه لا يريد بعضهم معرفة سر منعه من العمل، ما دام يتقاضى أجره من دون أن يبذل جهداً. وفي مقدمة هؤلاء البحارة بو جابر، الانتهازي الذي يسعى دائماً إلى كسب ود التاجر، وشعاره الأثير هو: “لا تقف ضد الرياح، اخفض رأسك تنج”. في مقابل هذه الشخصية يرسم المناعي النموذج الثوري المناقض لها تماماً، وهو بو مسعود، الذي يدرك ألاعيب التاجر ونياته الشريرة، والمحرض الدائم للبحارة على الوقوف في وجهه حفاظاً على حقوقهم ورجولتهم وكرامتهم المهدورة، وهو كثيراً ما يستفزهم بأسلوب الرجل الحكيم المثقف القادر على تحليل واقعهم المتردي، حتى ليبدو أنه يتحدث بلسان الكاتب ورؤيته الفكرية. كما أنه الوحيد، أيضاً، الذي لا يهاب التاجر، فنراه لا يتردد في توجيه اللعنات إليه أمام أنظار البحارة، والكشف عن أفعاله الخبيثة، والسخرية منه، ومقارعة حججه ببراهين دامغة.
ثمة شخصية ثانية، يبرز دورها في الفصل الثاني من المسرحية، هي شخصية مبارك، الشاب الذي يصطف إلى جانب بو مسعود، ويرتبط بعلاقة حب نقية مع فرحة ابنة خميس السقاء، الأمر الذي يبعث في نفس التاجر مشاعر الحقد ضده، ويدفعه إلى اختطاف حبيبته، زاعماً أنها فتاة شابة وجميلة، وليس من العدل أن تعيش مع السقاء، الذي يشك في أبوته لها، في بيت خرب. وبوصفه (أي التاجر) ولي نعمتها فقد قرر أن تسكن في بيته حفاظاً على شرفها! وعندما يواجه بو مسعود ادعاءه بالرفض يصدر أمراً قسرياً بإجراء محكمة شعبية لإضفاء مظهر قانوني على اغتصاب فرحة من أبيها، ولكي يضمن كسب القضية يلجأ إلى شراء ذمم البحارة من طريق تقديم موعد دفع أجورهم ومضاعفتها، وإعفائهم من الديون المترتبة عليهم في المقهى. هكذا ينتهي كل شيء كما خطط له، حيث يعلن زواجه من فرحة، متحدياً إرادتها وإرادة حبيبها مبارك. لكن شعور الأخير بالصدمة والإهانة يدفعه إلى محاولة استعادتها بالقوة، فيعترضه تابع التاجر بضربة سكين في صدره لتنتهي المسرحية نهاية مأسوية لا تخلو من أمل يعتمل في نفس بو مسعود بانتصار الخير على الشر.
من الناحية الدلالية يمكن أن تُقرأ المسرحية من منظور واقعي وآخر رمزي، فإذا ما نظرنا إلى الصراع القائم بين التاجر والبحارة بوصفه صراعاً طبقياً فحسب بين مجموعة من الأجراء، ورب العمل مالك وسائل الإنتاج، فإن ثيمة المسرحية تبدو واقعيةً مألوفةً، يمكن أن نقع عليها في مئات الأعمال الأدبية العربية والعالمية، أما إذا نظرنا إلى شخصية فرحة بوصفها علامةً رمزيةً تشير إلى فرحة أهل القرية، وتساءلنا عمّن يريد سرقتها، فإننا نستطيع أن نرفع الرمز إلى ما هو أعمّ وأشمل، بحيث تصبح القرية مرادفةً لمنطقة الخليج العربي بأسرها، وتصبح فرحة معادلاً لتطلعات أبنائها.

 

عواد علي

http://newspaper.annahar.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *