ثأر الكترا

في زيجة ملطخة بالدم ، قفز رجل من الظلمة الغادرة إلى الضوء ليستبيح فراشا لم يكن له مع امرأة خانت زوجها الغائب الذي ما أن  يعود إلى بيته فجأة ، حتى يجد من أحبها

 

، تُبدل وردة الحب الحمراء بفأس غادرة أراقت دمه المتلهف ، مختلطا بماء بركة الاستحمام !  وهناك في قصره المنيف فتاة تنتظر أتاها اليتم مبكرا تاركا آثار الغيظ والأسى على نفسها الرقيقة وهي ترى فراش أبيها ، تختلط فيه الشهوة الخائنة لأم فاسقة مع مجون رجل غادر ، حياة جديدة في بيت متهاو ، تركت في وعيها علامة فارقة من التهميش والألم النفسي لا ينمحي إلا بوجود من يأخذ بالثأر أو الانتقام من أمها وعشيقها القاتل . كل هذه الأحداث فتحت شهية الكثير من الكتاب والمفكرين الذين أرادوا فهم الانحراف الذي تميل إليه المرأة المتزوجة إزاء زوجها وما يتركه هذا السلوك الشاذ من آثار نفسية في وعي الأبناء الباطن الذي يؤثر على سلوكهم الواعي سلبا أو إيجابا ، حتى ان( فرويد ) أحد علماء النفس المعروفين ، أوجد مركبا نفسيا يؤثر على سلوك الفتيات في أعمارهن المبكرة ، أسماه (عقدة الكترا) الفتاة المعروفة في الأساطير اليونانية ، والذي عرفه : تعلق الابنة بوالدها وشعورها بالعداء نحو الأم على اعتبار أن الأم منافس لها على قلب الأب .
وبغض النظر عن صحة هذا الرأي ، فقد كانت حكاية الكترا مادة أساسية لنصوص تراجيدية لدى (اسخيلوس) و(سوفوكلس) و(يوربيدس) الذين نظر كل واحد منهم إلى الحكاية من زاوية درامية مستقلة  مما أوجد  تنويعا مسرحيا من حيث الإنتاج والتأويل ، صحيح أن الأصل الفكري للحكاية واحد ، لكن الصياغة وتقرير الأفعال جاءت مختلفة إزاء مفهوم الثأر وجدوى انتقام الكترا من القاتل والزوجة الخائنة التي أعانت عشيقها (ايجستوس) على قتل زوجها الشرعي (أكاممنون) اذ نجد اسخيلوس يفسر الموضوع وكأنه قدر حتمي لا اختيار أمامه ، لان الإنسان مفطور على الصواب لكن الخطأ عائد لقدر الهي يدفع الإنسان لارتكابه ، لذا ينبغي أن يكون العقاب بأمر الهي أيضا وما الكترا وأخوها أوريستس ، سوى أداتي تنفيذ العقاب الالهي وإتمامه . أما ( سوفوكلس) فقد نظر للموضوع من زاوية أن الخطأ الذي يرتكبه الإنسان عائد إلى جهله بالخير الأخلاقي الذي يقوم على المعرفة والحكمة ، لذا فان العقاب أو الثأر جائز حتى يستفيق الناس من نومة الجهل ، وعندئذ نسعى إلى إيجاد مجتمع مثالي . أما ( يوربيدس) فقد فسر الموضوع من منظور أقرب للواقعية منه إلى  الإلهي أو المثالي الأخلاقي ، أذ يبين أن الإنسان يعيش وسط ضغوط اجتماعية واقتصادية ونفسية تدفعه إلى ارتكاب الأخطاء ، لكنه بالرغم من معالجته المغايرة ، وجد أن الثأر والانتقام جائز ، والسبب الذي جمع هؤلاء الكتاب على ضرورة الثأر ، هو تنوير الناس على معرفة هذا الموضوع ومحاولة تغييره أو تجاوزه مستقبلا ، لان المسرح اليوناني كما يعبر عنه ( جورج تومسن ) في كتابه (اسخيلوس واثينا ) هو مؤسسة تعليمية وأن التراجيديا ضرب من الصراع الداخلي يفيد على البناء الاجتماعي ، وهذ يظهر جليا في هذا الحوار الذي يدور بين الكترا وأخيها أوريستس :
اوريستس : محنة أليمة دفعني إليها أوجستوس الذي ذبح أبي بمعونة من أمي اللعينة !
ألكترا : (منادية أمها ) هلمي إلى صراطك ، إلى صراط دمعك ..  وأنا أمزق بأظافري جلدي ، وأضرب راسي الحليقة حدادا على موتك ! 
وفي العصر الحديث ما زالت حكاية (الكترا) تستهوي الكثير من الكتاب المسرحيين والذي ظهرت في نصوص لها تأويلاتها النفسية والاجتماعية فهذا الشاعر (هوو فون هوفنتال 1874-1929) يكتب مسرحية الكترا ، في حين نجد( ريتشارد شتراوس ، 1864-1949 ) يحولها الى أوبرا ، وفي سنة  1938 أصدر جان جيرودو (1882- 1944) مسرحية بعنوان الكترا تبدأ بعرض الكترا وهي معزولة في ركن من أركان القصر ، تفكر في كيفية التخلص من أمها وعشيقها ، ولكي يتخلص منها اجستوس ( عشيق أمها) يسعى إلى تزويجها من بستاني ، ثم جاء الكاتب الأمريكي (يوجين أونيل ، 1888- 1953) فأصدر مسرحية بعنوان (الحداد يليق بألكترا) فيها عالج مفهوم الثأر والانتقام من ناحية نفسية وبيولوجية ، إذ رأى أن مصير الإنسان هو دورة لا تنتهي من الخطيئة والبناء ، وهنا نجد تأثير نظرية التحليل النفسي لدى فرويد على الكاتب ، لإنتاج نوع جديد من البطل المأساوي يناسب الأفكار والثقافة المعاصرة .
إذاً ثمة قضية كبرى شغلت شعراء المآسي عبر العصور تتعلق بواقع الإنسان وهو يواجه مصاعب ما تتطلب منه الانتقال من الهدم إلى البناء ، حتى وان كان في ذلك هلاكه ، لذلك أصبحت (الكترا) رمزا للتضحية  الذي يحدد ملامح التوازن النفسي القائم على القصاص ، الذي يسعى أو  يحاول جمع شتات الإنسان في وسط اجتماعي متهالك ، الأمر الذي أكسب الشخصية الدرامية بعداً من الامتياز تباينت هالته من كاتب لأخر ، فأسخيلوس أحاط شخصيته المحورية ( الكترا ) بالرصانة والفخامة ، و سوفوكلس وهبها توازنا وحماسة أخلاقية ، في حين أوجد( يوربيدس) نموذجا أقرب إلى الواقعية منه إلى المثالية ، كل هذا التنويع سببه إعطاء بعداً من الـتأثير الصادق على المتلقي مع اختلاف واقع الإنسان في الزمان والمكان .

 

د. جبار خماط حسن

http://www.almadapaper.net

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *