هانس أندرسن… قلم ساحر ومخيلة خصبة

ساحرة هي الطفولة ببراءتها وشيطنتاتها، مذهلة في حكاياتها وأسرارها، مشوقة في قصص العفاريت والجن، العمالقة والأبطال، الطيبين والأشرار، ولا تخلو طفولة أحدنا من قصص أبهرته وحركت أحاسيسه ورغبة كامنة في معرفة المزيد وربما تغير

مجرى أحداث الرواية بما يشتهي، من منا لم يستمتع بأمسيات يلتف فيها حول جدته للإنصات إلى حكاية ما قبل النوم الحافلة بالأسرار والغموض، ومن منا لم يلتصق بصدر أمه لتروي له حكاية فلة والأقزام السبعة، قد تكون القصة من وحي خيال اللحظة أحياناً وقد تكون روتها من قبل إحدى الجدات، يستذكر الكثير منا تمدده في السرير بجانب والده ليقص عليه حكاية عقلة الأصبع أو الأمير المسحور، ولا تكتمل الرواية إلا بانتصار البطل في النهاية وإغفاءة هانئة نحلم فيها بقصة اليوم التالي، وكنا نتساءل دوماً إذا ما كانت تلك الرواية قد حدثت حقاً، وإن كان أبطالها وشخصياتها موجودين أم من وحي الخيال، ولا بد أن سرد قصص الأطفال ليس بالأمر السهل، كما أن مخيلة الطفل أذكى بكثير من أن نستطيع إغراءها وخداعها بقصص لا تشبع شغفه وترضي أحلامه، فلا بد أن يكون راوي الحكاية ممن يتمتعون بأفق واسع ومعرفة لطريقة تفكير الطفل واستيعابه

 

وإذا ما تعمقنا في التاريخ وبحثنا عن جواهر القصص الخيالية تطالعنا العديد من الأسماء اللامعة التي شكلت انعطافات جريئة ومؤكدة في مجال الحكايات الخرافية، بدءاً من الفرنسي جان دي لافونتين الذي تأثر بحكايات إيسوب اليوناني ومشى على نهجه في الكثير من أشعاره إضافة إلى تطويره لفن صياغة القصة الخرافية مبتعداً عن الوعظ الجاف كما جرت العادة سابقاً إلى تمكين القارئ من تجرع الحكمة الكامنة وراء القصة بسلاسة ورشاقة، مروراً بالأديب الروسي إيفان إندريتش كريلوف (1768-1844م) الذي تأثر بأدب لافونتين فترجمها إلى اللغة الروسية وألف العديد من الحكايات الخرافية التي لاقت تقديراً واستحساناً، ومن ألمانيا نذكر جوتهلد إفرايم لسنج ( 1729-1781م) كأهم الأدباء في عصر التنوير ومؤلف مسرحية «ناتان الحكيم» التي تضمنت خليطاً من الشخصيات المنتمية إلى مذاهب مختلفة وتصدر أبطالها شاشات السينما العالمية لاحقاً كشخصية القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي والمحارب المقدام ريتشارد قلب الأسد، وصولاً إلى الدنماركي هانس كريستيان أندرسن الشهير كأهم وأبرع صانع للقصص الخيالية وروايات الأطفال التي توارثتها الألسن على مر الأجيال.
طفولة تعيسة
الروائي هانس أندرسن المعروف بحكاياته التي لطالما أبهرت الأطفال ورسمت الضحكات على وجوههم لم يحظ بطفولة سعيدة كما توحي كلماته وقصصه، إذ إنه ولد عام 1805 ليجد نفسه ابناً لماسح أحذية معدم، ووالدة أمية تعمل بكيّ الملابس وغسلها في بيوت الأغنياء، فقر مدقع أحاط بهانس وعائلته ولم تجد البسمة طريقها إلى وجهه إلا من خلال حكاية ما قبل النوم التي كان والده يقصها عليه، ليغرق في أحلامه بعالم أجمل لا بؤس فيه. وكلما زادت سني حياة أندرسن أمعن في الشقاء أكثر إذ توفي والده باكراً جداً ما اضطره لبدأ العمل وكسب الرزق، تدرج من صبي لنساج ثم حائك، إلى أن عمل في مصنع للسجائر وهناك بدأت معاناته الجديدة مع أقرانه في العمل، حيث كان أندرسن غريب الهيئة والأطوار، رث الملابس، وإذ كان طفلاً لا يحب المدرسة بقدر ما يحب مسرح دماه وعالمه المتخيل وجد فيه زملاء الدراسة الفتى المناسب للإهانة والازدراء والتعنيف، إلى أن عهد بتربيته إلى ناظر المدرسة الذي أساء معاملته بحجة التقويم، فصقل شخصيته البريئة بسوط من حديد تركت بالغ الأثر في مخيلته الطفولية ليكون الناظر الوحش الشرير الذي صوّره هانز في كثير من حكاياته اللاحقة.
احتباس النغم وانطلاق القلم
لما بلغ أندرسن الرابعة عشرة سافر إلى كوبنهاجن بحثاً عن وظيفة كممثل مسرحي إذ وهبه اللـه صوتاً قوياً ملائماً للغناء فنجح في الالتحاق بالمسرح الملكي الدنماركي، إلا أن سوء الحظ الملازم له حط برحاله على طبقات صوته فاحتبس النغم الأثير ما أخرجه من الفرقة لاحقاً. تمتع هانز بموهبة شعرية وأدبية لافتة فالتفت إلى كتابة المسرحيات والشعر، إلا أن موهبته الطاغية كانت كتابة القصص الخيالية وربما لجأ إلى ذلك كنوع من التعويض عن أحلامه الكبيرة التي لم تستطع حياته البائسة أن تمنحه إياها، فكان الألم محركاً لقلمه والبؤس محرضاً لأفكاره لينتج أعظم الروايات والقصص التي تحلق بالصغار والكبار على السواء في عالم السحر والخيال، وتبحر بهم في محيط واسع من الأسرار والغموض لم تكن لتتشكل لولا إبداع هانس، تميز أسلوبه بالرشاقة وحس فكاهي طاغ تجلى في معظم أعماله، وذكاء في الحبكة وبراعة في الأسلوب، يجمع النقاد على أن الكاتب سعى بأدبه إلى إدخال الضحكة التي افتقدها إلى وجود الأطفال رغم أنه لم يكن يهوى الأطفال بشكل عام ويقول أندرسن في معرض توضيحه لفحوى قصصه «حكاياتي الخرافية هي للكبار كما هي للصغار في الوقت نفسه، فالأطفال يفهمون السطحي منها، على حين الناضجون يتعرفون على مقاصدها ويدركون فحواها. وليس هناك إلا مقدار من السذاجة فيها، أما المزاح والدعابة فليست إلا ملحاً لها».
في داخل كل منا طفل صغير
الملاك، ملابس الملك الجديدة، الأسرة السعيدة، طفلة عود الثقاب، الحورية الصغيرة، الأميرة وحبة الفاصوليا، الحذاء الأحمر، أميرة الثلج، عقلة الأصبع، فرخ البط القبيح، الإوزات البرية، بائعة الكبريت، كلها عناوين لحكايات لطالما قرأناها بشغف وأنصتنا إليها بانبهار ولم ندر يومها أن هانس أندرسن هو من وهبنا هذا العالم الساحر، وهو الذي لم يمتلك أقل قدر منه في حياته الواقعية، فكان دائماً يقول: «إن معظم ما كتبته هو انعكاس لنفسي. استقيت كل شخصية من الحياة الواقعية. وعرفتهم جميعاً».
استطاع أندرسن أن يعبر عن ذلك الطفل الغافي في أعماق ذواتنا، فأطلق خيالنا وحرر أفكارنا، كما أنه عبر من خلال شخصيات قصصه عن قدرة وصفية عميقة قدمها في قالب تشويقي مثير مضمناً رواياته جوانب الخير والشر، السعادة والشقاء، النفاق والنبل، والكثير من التناقضات الموجودة في عالمنا، فانتقد السلبيات ومجد الكرم والإباء والعنفوان والصدق، واستطاع أن يرسم صورة للمجتمع بأسلوب ساخر، فكاهي وخيالي محبب.
ترجمت قصصه إلى أكثر من 150 لغة حول العالم، كما استوحى منتجو التلفزيون والسينما الكثير من رواياته لتتصدر الشاشات وتسلب الألباب، احتل أدبه مكانة رفيعة في العالم، وبقي يكتب حتى بلغ السابعة والستين من العمر، وكأن البؤس والسخرية التي أحاطت بحياته لم تكن بكافية، إذ سقط في عام 1872 عن فراش نومه لتكتمل حلقة العناء ويصاب برضوض في جسده تركت آثارها حتى وفاته عام 1875 ليرقد بسلام في عالم السكينة الأبدية وتبقى حكاياته تطوف عالم الخيال الواسع حولنا وتذكرنا كم أحبنا صغاراً وكباراً.
ديالا غنطوس

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *