المسرح والجمهور في الخليج العربي

عبد العزيز السُّرّيع من أبرز روّاد الكتابة المسرحية في الكويت، بل هو، وشريكه الكبير المخرج صقر رشود (الذي انقصف في عز شبابه) أول ثنائي مشترك بين كاتب ومخرج، في تفاعل خلاق، وفي صوغ درامي، يخدم المسرحة، والأدوات السينوغرافية.


وعبد العزيز السُّريّع، أكثر من كاتب، هو باحث وناقد، وشريك أساسي في النهضة المسرحية الكويتية والخليجية والعربية، وعقل منظّم للتظاهرات الفنية والمسرحية وللندوات السجالية. ونذكر أنه كان الأمين العام للمجلس الوطني الكويتي، حقق فيه إنجازات ثقافية مهمة، ومن ثم تنكب مسؤولية الأمانة العامة لمؤسسة البابطين.
عبد العزيز السُّريّع، أصدر كتاباً بعنوان “حديث المسرح”، وهو كأحد صناع المسرحيين الطليعيين، يعرض مختلف “أدواره” في هذه “الصناعة الثقيلة” وهي صناعة الحركة المسرحية الكويتية منذ بداياتها الحداثية التجريبية مع الراحل صقر الرشود وحتى الآن.
إن الكتاب بمثابة شهادة حيّة كمثقف وكمشارك في الحالة الثقافية في الكويت منذ بدايات استقلال الدولة الكويتية الحديثة عام 1961.
وفي هذه الفترة من ستينات القرن الماضي قدّم السُّريّع كما تقول الشاعرة السورية سعدية مفرج في المقدمة أعمالاً مسرحية تعتبر من تجليات تلك الصورة، ومرآتها العاكسة، والتي ارتبطت بالتحولات الاجتماعية التي أصابت المجتمع الكويتي.
فقدم في أعماله “معالجات دراسية راقية لها، متنبئاً ببعضها بأثر هذه التحولات كل مجريات المستقبل الكويتي في معظم ظواهره الكبرى وتشكيلاته التفصيلية. هذا الكتاب الصادر حديثاً في الكويت لا يقدم فيه المؤلف جمعاً لأعماله على هامش المسرح فقط، بل ليقدم أيضاً من خلاله صورة واضحة عن الحركة المسرحية في الكويت كما عاشها وكابدها وساهم في انتاجها، من خلال تقديم شهاداته الحية عن أبرز رجالات المسرح الكويتي، من كويتيين وعرب. وهنا، الى شهاداته، تبرز ذائقته النقدية المرهفة لتعزز رؤاه الفنية، ليتعدى الى شذرات مميزة من بعض تفاصيل المسرحين الخليجي والعربي”.
الكتاب شهادة حية للزمن المسرحي الجميل في الخليج والعالم العربي.
نختار هنا مطالعة لعبد العزيز السُّريّع واردة في الكتاب بعنوان “المسرح والجمهور في الخليج العربي”.
ب.ش. 
تعتبر الدعوة القومية التي ظهرت في العالم العربي مع تباشير القرن الماضي إحدى إفرازات الفكر الغربي، وقد تم تداول هذا الفكر بين نخبة من الطلبة العرب الذين تخرجوا في المدرسة الحديثة التي هي إحدى مؤسسات الغرب الثقافية، وقد كان المتعلمون الجدد هم أول الحاملين للعدوى القومية لأنهم كانوا الأكثر احتكاكاً بالغرب الذي حقق مشروعه القومي، وعلى الرغم من أن الدعوة القومية هي نتاج الفكر الغربي فقد كانت الأكثر عداء للغرب والتصدي له.
فعندما تحول الفكر الغربي من فكر تنويري الى فكر عنصري توسعي كان الفكر القومي ذا الخلفية الدينية هو المتصدي الأساسي لعدوانية الغرب، فعلى الرغم من أن هذا الفكر مستورد ـ وقد لقي بسبب ذلك حملة ضارية من قبل ممثلي الفكر التقليدي ـ كان يلبي حاجات الواقع العربي الأساسية، ففي مواجهة الهيمنة الغربية كان هذا الفكر يدعو الى استقلال الارادة السياسية، وفي مواجهة التفتت كان ينادي بالتضامن والوحدة، وفي مواجهة التخلف كان يعمل على نشر التعليم والتحديث، واذا كان الفكر القومي قد بدأ نخبوياً لدى مجموعات منعزلة من المثقفين ذوي الأصول البرجوازية الكبيرة ورفع شعارات فضفاضة، واتبع أسلوب المساومة فلقد انتهى به الأمر الى الرضا بالدولة الإقليمية الحديثة كمستقر لنضاله مع بقاء بعض الشعارات العامة التي تعزّي النفس ولا تهدد الواقع.
وظلت الدعوة القومية دعوة إصلاحية تتبناها النخب المثقفة حتى الأربعينات من القرن الماضي حيث اتخذت الدعوة القومية مساراً آخر، حين شهدت بعض الجامعات العربية وبعض الكليات الحربية تغلغل الفكر القومي بين طلبتها الذين ينتمون في أصولهم الى البرجوازية الصغيرة. لم يكن الطلبة في هذه الفترة نخبة معزولة بل كانوا طليعة مفكرة تبحث عن ساعدها العملي في الطبقات الشعبية المهمشة, من عمال وفلاحين، وقد تخلت عن النهج الإصلاحي وآمنت بالثورة طريقاً الى بناء مجتمع جديد، وبالتطابق بين الدولة والأمة. كانت الدعوة القومية تنادي بصراع غير متهادن: صراع خارجي مع قوى الهيمنة الغربية التي كانت تسعى لإبقاء الوطن العربي مفتتاً ومهمشاً وخاضعاً لمشيئتها، وصراع داخلي مع القوى المتسلطة والمتصالحة مع قوى الهيمنة الخارجية، ومع حراس الماضي الذين يريدون الحفاظ على التقاليد حتى الميتة منها.
وعندما وصلت هذه القوى الى مركز السلطة في مصر تسارعت عملية التغيير بصورة مدهشة ففي فترة لا تتجاوز عقداً واحداً تم الجلاء والإصلاح الزراعي، وتمصير الاقتصاد، وكسر احتكار السلاح، والوحدة مع سوريا، وإسقاط حلف بغداد، والمناداة بالحياد الإيجابي، وبدء البناء في السد العالي، والسير في مشروع التصنيع، وتوفير خدمات التعليم والصحة والسلع المدعمة للطبقات الشعبية، وكان الحدث التاريخي الفاصل تأميم قناة السويس ثم رد العدوان الثلاثي الذي جعل من التيار القومي مهيمناً على الشارع العربي، هذا التسارع في التغيير كان يثير الإعجاب والتأييد لدى الجماهير الشعبية التي استقطبها المشروع القومي وشعاراته التي بدأت تنتقل من حيز النداء الى حيز الواقع، وكانت الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي مرحلة نهوض قومي وتفاؤل كبير بالمستقبل، ولكن هذا النهوض لم يخل من عثرات، فاعتماد الحركة القومية على الصراع بدلاً من الحوار في جميع خطواتها جعلها تخوض معارك أكبر من طاقتها في بعض الأحيان، او معارك في غير مكانها مما أدى الى أن شاب المد القومي بعض الجزر أحياناً، وبعض التوقف، مما جعل القلق مصاحباً للتفاؤل لدى أصحاب البصيرة، ولكن المشروع القومي وإن أصيب بهزائم في معاركه الخارجية يبقى مشروعاً قائماً لأن الواقع ما زال يتطلبه. وقد صاحب المد القومي تغيير في البنية الطبقية للمجتمع، فمجانية التعليم والخدمات أدت الى دخول أبناء الطبقات المهمشة الى ساحة الفعل والتأثير، والى حدوث حراك اجتماعي واسع، وهذا الحراك الاجتماعي الذي ترافق مع انتشار التعليم وتوسعه وتدخل الدولة في توفير وسائل الثقافة الجماهيرية يتفق مع قدرة الطبقات الشعبية أدى الى ازدهار أدبي في جميع الفروع، وكان المسرح أحد هذه الفروع التي شهدت نهضة حقيقية في الستينيات وقد عبّر المسرح عن هذا التغيير الذي ألمّ بالمجتمع وما رافقه من صراع وسلبيات وإيجابيات.
الخليج والمسرح
تأخرت منطقة الخليج عن المركز العربي في دخول العصر الحديث أكثر من قرن من الزمن وبقيت منطقة شبه مغلقة تعيش على إيقاع القرون الوسطى الرتيب حتى بدايات القرن الماضي، حيث بدأت أشعة التحديث تنفذ ببطء في هذه المنطقة وتواجه مقاومة كبيرة من سدنة التراث، ولذلك فإن المسرح الذي بدأت تظهر تباشيره في المركز العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر كان عليه أن ينتظر في منطقة الخليج حتى منتصف العقد الثالث من القرن الماضي، ولقد ولدت الإرهاصات الإولى للمسرح الخليجي في الكويت والبحرين مترافقة مع تباشير القومية الشعبية. وكانت الحاضنة لكليهما المدرسة الحديثة، واعتمد كلاهما على الطلبة كمبشرين بعهد جديد في السياسة والثقافة.
وكان المسرح نتاجاً للتأثر بالغرب ولذلك ووجه بمقاومة شديدة من قبل المحافظين، ولكنه كالفكر القومي كان يعبر عن حاجة اجتماعية، ولذلك لم تفلح مقاومة المحافظين في وأده بل رسخت جذوره في التربة شيئاً فشيئاً، بدأ المسرح ملحقاً بالمدرسة، يمارسه بعض الطلبة الهواة في المناسبات ويعتمد على امكانات بسيطة حيث بدأ المسرح في البحرين في منتصف العقد الثالث من القرن الماضي وقدمت مدرسة الهداية الخليفية أول مسرحية وهي “القاضي بأمر الله” سنة 1925م.
بينما ظهرت المسرحية الأولى في الكويت عام 1939 في ظل المدرسة المباركية، وكان الطلبة والأساتذة هم القائمون بالعمل المسرحي تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً.
كان الطلبة كطليعة مثقفة للمجتمع هم حضنة آماله وأحلامه، وقد عبر الطلبة من خلال اختيار موضوعات مسرحياتهم عن الحلم القومي الكبير وإن بصورة رومانسية ساذجة، ففي الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي حيث بقي المسرح مؤسسة غير مستقلة ملحقة بالمدرسة أو بالنادي نجد ان موضوعات المسرحيات في معظمها هي موضوعات تاريخية، فالتاريخ بما فيه من قمم في الشخصيات والعهود وما فيه من وهاد يصبح المادة التي تعرض أمام أنظار الطلبة للتواصل بتاريخهم، تاريخهم المجيد أو المتعثّر ليكون ملهماً لهم حتى تعاود الأمة ظهورها على مسرح التاريخ بعد أن انزوت في هامشه.
ولذلك نجد وفرة في هذه المرحلة من مسرحيات مثل: “امرؤ القيس”، “وامعتصماه”، “عبد الرحمن الداخل”، “الرشيد وشرلمان”، “خروج العرب من الأندلس”، “إسلام عمر” ولم يكن المسرح في الخليج قادراً على النهوض كمؤسسة مستقلة في النصف الأول من القرن الماضي بسبب قلة عدد المتعلمين، وافتقار الأنظمة الحاكمة الى الموارد المالية.
ولكن منطقة الخليج شهدت منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي انقلاباً اجتماعياً كبيراً موازياً للانقلاب الذي حدث في المركز العربي، وكان هذا الانقلاب بسبب ظهور النفط وما وفره من عائدات ضخمة في منطقة قليلة السكان، ففي عقد من الزمان تقريباً حدث تغيّر كبير شمل مظاهر الحياة المختلفة، انفتحت البلاد للتأثير الخارجي بعد أن كانت شبه مغلقة، وأصبحت منطقة جاذبة لهجرة كثيفة بعد أن كانت منطقة طاردة، وتوفرت خدمات شبه مجانية في التعليم والصحة والسكن، وحلّت الرفاهية محل شظف العيش.
وقامت الأنظمة بعد أن امتلكت فائضاً مالياً بإحداث نهضة تعليمية وثقافية بإنشاء المدارس والجامعات والمكتبات ووسائل الإعلام المختلفة، وهذا أدى الى ظهور شرائح واسعة من المتعلمين والمثقفين الذين استفادوا من هذه الطفرة ووظفوها لصالح وطنهم وأمتهم.
في هذه الفترة الذي ساد فيها المدّ القومي، أصبح الشارع الخليجي وعماده طلبة المدارس متأثراً الى حد كبير بالشعارات القومية، وقد أدى المدّ القومي في الخليج الى سعي الأنظمة الى نيل الاستقلال والى الالتزام بسياسة الحياد الإيجابي والتضامن العربي، وإنشاء صناديق التنمية لمساعدة الدول العربية الفقيرة، وأثر شعبياً في ظهور البرجوازية الصغيرة التي استفادت من مجانية التعليم والخدمات كقوة تشعر بنفسها وحقوقها وتطالب بالديموقراطية لتكون مشاركة في صنع القرار السياسي، وفي نصيب عادل من الثروة.
وإذا كان تأثير المدّ القومي لم يتجاوز حدوده الدنيا في دول الخليج في الجانب السياسي، وظل ينتهج الأسلوب الإصلاحي بسبب أن الثروة الفائضة قللت من حدة التناقض الطبقي، ولكون الطبقة العاملة في الخليج من الوافدين، فإن المظهر الثوري للطبقة الدنيا من المجتمع تتبدّى في الثقافة، خصوصاً في المسرح.
برز المسرح كمؤسسة مستقلة له دور العرض الخاصة به، وله ممثلون محترفون، ومؤلفون محليون وجمهور دائم في الخمسينات والستينات من القرن الماضي مع انتشار المدّ القومي، وقد ساهم في ذلك تدخل الدولة التي ساعدت الفرق المسرحية، وأنشأت معهداً للمسرح، وكذلك ظهور فئة المتعلمين الحديثين الواسعة التي هي المهاد الحقيقي للمسرح جمهوراً وكتاباً.
وكما استفاد المسرح في المركز العربي من الصراع الداخلي ليكون مادة له فإن المسرح في الخليج استفاد من الصراع داخل الأسرة الخليجية الذي احتدم من خلال عاملين مفاجئين: الثروة التي هبطت على الأسر بما رافقها من انفتاح ووفرة وتخلخل في القيم، ثم انتشار التعليم الحديث وما استتبع ذلك من ظهور عادات وقيم جديدة. هذه السرعة في التغيير أفقدت الكثير اتزانهم وأوجدت انقطاعاً على مستويين بين طراز الحياة التقليدية وطراز الحياة الحديثة وبين جيل الآباء وجيل الأبناء. وهذا الانفصال ولد صراعاً حاداً داخل الأسرة الخليجية أصبح مهاداً خصباً للمعالجة المسرحية.
فبعد أن كان المجتمع الخليجي المستقرّ في النصف الأول من القرن الماضي يبحث عن موضوعات مسرحياته القليلة في التاريخ البعيد أو في التراث الشعبي، وجد المؤلف في مجتمعه المنقسم في النصف الثاني من القرن الماضي مادة جاهزة للمعالجة، فالمجتمع المنقسم بين ماضيه وحاضره، وبين التطور والثبات، وبين الآباء والأبناء، وبين المقيمين والوافدين، أصبح محطّ أنظار كتاب المسرح.
ففقدان الاتزان الذي سببه التطور المفاجئ، والتطور العشوائي أوجد مواقف وشخصيات مضحكة تصلح للمعالجة الكوميدية، والفواجع التي انتهى اليها الصراع داخل الأسرة وفّر مادة للمعالجة الدرامية. وسنجد من عناوين مسرحيات المرحلة طغيان المشكلات الاجتماعية: “مدير فاشل”، “مطر صيف”، “على ناس وناس”، “خبير أسكت” و”تقاليد”.
كان الجمهور الذي وفد الى المسرح في غالبه من الشرائح التي أنتجها التعليم الحديث، وهذه الشرائح التي كانت عماد التيار القومي في الوطن العربي، لم تكن تأتي الى المسرح لنسيان همومها أو لمجرد التسلية بل كانت تجد في المسرح مدرسة أخرى تتعلم فيها، وترى فيه تجسيداً لما تعانيه من مشكلات حياتية، ويعبر عن كثير من آرائها في النقد الاجتماعي والسياسي. وكان كتاب المسرح وهم فئة أخرى من متعلمي البرجوازية الصغيرة ومن نشطاء التيار القومي يجدون في الكتابة المسرحية وسيلة يعبرون من خلالها عن معارضتهم للوضع القائم. وإذا كان النقد الاجتماعي الذي مثلته المسرحية الخليجية هو في غالبه نقداً اجتماعياً يتناول الأسرة، ولكنه في تعبيره الضمني هو نقد سياسي، وهو تعبير عن معارضه غير مباشرة لتحديث مصطنع وعشوائي، ولتوزيع غير عادل للثروة، ولاحتكار القرار السياسي لفئة محدودة، ولتحويل المجتمع الى مجتمع استهلاكي غير منتج، وللفساد المنتشر في الإدارة الحكومية.
وإذا كانت الفئة المتعلمة من البرجوازية الصغيرة قد وجدت نفسها في حالة إقصاء عن المراكز المؤثرة وعن سلطة القرار، ولم تحصل على نصيبها العادل من الثروة، فقد اتخذت من المسرح سلاحاً لتقدير برجوازية السلطة، ولإثبات وجودها، وقد وجدت هذه القوى الاجتماعية في المسرح البديل الحقيقي للحرية الغائبة وللمعارضة كما يقول الدكتور إبراهيم غلوم، وإذا كان المسرح الخليجي قد التزم التفاؤل في بداياته المبكرة من خلال مسرحياته التاريخية، فقد عبر خلال مرحلة الاحتراف والمد القومي عن القلق والانقسام الذي لازم الحركة القومية من خلال صراعاتها الداخلية وانكساراتها، فالشخصيات لم تعد جاهزة وثابتة بل أصبحت شخصيات تعاني من الصراع الداخلي والانقسام، عاجزة عن اتخاذ القرار الحاسم في كثير من الأحيان، ولذلك فإن الختام كثيراً ما يكون مفجعاً وقاتماً.
هكذا رافق المسرح الخليجي في بداياته بدايات التيار القومي، واستوى على سوقه مزدهراً مع غلبة التيار القومي، وعبر عن آمال وهموم الطبقات الشعبية في الخليج، وقدم نقداً لمجمل الأوضاع السائدة فيه بعد الانقلاب النفطي وإن كان مدخل هذا النقد من الباب الاجتماعي، ومثل معارضة البرجوازية الصغيرة لبرجوازية السلطة، وإن بقيت غاية المعارضة إصلاح الأنظمة القائمة وليس الثورة عليها.
العولمة والمسرح الخليجي
ظهر مصطلح العولمة في العقود الأخيرة من القرن الماضي بعد دخول الغرب في الثورة الصناعية الثالثة وهي الثورة التي تحققت في مجال المعلومات والاتصالات كرافعة للتقدم السريع في جميع المجالات.
والعولمة في أفضل صورها هي دعوة الى التفاعل والتعاون بين شعوب العالم بما يؤدي الى الازدهار الاقتصادي والثقافي القائم على المساواة واحترام الخصوصيات والإيمان بالتعددية، وتتمثل في الحوار المتكافئ بين الحضارات، وهي في أسوأ صورها تمثل هيمنة دول الشمال المتقدمة اقتصادياً وثقافياً على دول الجنوب المتخلفة، تقوم على مفهوم الصراع بين الحضارات بما يؤدي الى استلاب الدول الضعيفة ثقافياً واقتصادياً ومحو شخصيتها وتحويل العالم الى مركز مهيمن والى أطراف تابعة.
وتغليب صورة على أخرى يعتمد على موازين القوى الدولية، وعلى مدى سيطرة النزعات الإنسانية في دول المركز المتقدمة أو النزعات العنصرية.
والعولمة لم تعد شعاراً مرفوعاً بل أصبحت واقعاً جديداً يواجهه العالم ويعيش فيه، فالعولمة الاقتصادية التي كانت نقطة البدء، تتمثل اليوم في الشركات متعددة الجنسيات وفي منظمة التجارة العالمية، وفي صندوق النقد والبنك الدوليين وفي التكتلات الاقتصادية الكبرى كالاتحاد الأوروبي “والنافتا” و”الآسيان” وفي سيادة مبادئ الخصخصة، وتحرير التجارة ورؤوس الأموال. والعولمة السياسية تتمثل في المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان، وفي سيادة مبادئ الليبرالية السياسية، والتعددية وحقوق الإنسان، والحفاظ على الأقليات الإثنية واللغوية، ولكن الجانب البارز في العولمة اليوم هو الجانب الثقافي الذي يتمثل في انفجار المعلومات وتدفقها المستمر من خلال الانترنت والمحطات الفضائية والهواتف النقالة، وثورة الاتصالات التي ربطت العالم في تواصل مباشر وفوري، وجعلت الثقافة السمعية البصرية تحل مكان الكتاب وتتدفق على أطراف العالم بكثافة في كل لحظة، وبما أن وسائل الإعلام الرئيسية في غالبيتها ملك الدول المتقدمة، فإن هذه الوسائل تعمم على العالم أسلوب الحياة الغربي بكل قيمه ورموزه وبشكل جذاب مما يقلل من الحس النقدي لدى المشاهد ويسوغ انتقال هذا الأسلوب ليصبح الأسلوب الأوحد المهيمن على العالم مما يهدد الهوية الثقافية لدول الجنوب بحيث تصبح مجرد مستهلكة ليس للسلع الغربية فقط بل للعادات والقيم وطرز الحياة المختلفة.
والسؤال الملح الذي نواجهه كأمة لها تاريخ حضاري وهوية ثقافية خاصة هو كيف نتعامل مع هذا الواقع الجديد المفروض علينا؟
ان سياسة اغلاق الأبواب ومنع وسائل الاتصال الحديثة امر غير ممكن بل مدمر ويؤدي الى الاختناق والوقوع فريسة سهلة لكل القوى المعادية.
فنحن مجبرون على التعامل مع هذا الواقع الجديد بارادتنا ام بدون ارادتنا. والعولمة الثقافية ليست شراً مطلقاً وليست خيراً مطلقاً أيضاً، بل هي مزيج من اللونين الأبيض والأسود، ويمكننا أن نفيد من النواحي الإيجابية التي تتمثل في الاطلاع على الأحداث العالمية أولاً بأول، والتواصل مع ثقافات العالم مما يثير فينا روح المنافسة، حيث إن الإبداع والتجديد الثقافي لا يتم إلا من خلال التلاقح بين الثقافات، والانغلاق الثقافي يؤدي الى الركود وشيوع التكرار والتقليد، كما يمكننا الاستفادة من الدعوات الى احترام حقوق الانسان، والتعددية السياسية، والحفاظ على الأقليات، وهي مبادئ كانت الأساس في تقدم الغرب.
أما الحفاظ على الهوية فهو مبدأ حق يراد به باطل لدى بعض الفئات المتحجرة في عالمنا. فالهوية أولاً ليست معطى جاهزاً ومنغلقاً بل هي تتجدد باستمرار من خلال التفاعل مع البيئة المحلية ومع العالم الخارجي، وإذا كانت هناك ثوابت لكل أمة فإن هذه الثوابت تتخذ أشكالاً وأساليب جديدة في كل عصر، والهوية تغتني بالتفاعل وتختنق وتذبل بالانغلاق واذا كانت هناك في الغرب قوى تسعى للهيمنة والاستلاب، وتحويل التفاعل بين الحضارات الى صراع تكون نتيجته نفي الحضارات المختلفة وبقاء حضارة واحدة فإن ضعفنا هو الذي يتيح لهذه القوى أن تتغلب في المجتمعات المتقدمة، فالقوى الصغيرة لم يعد لها شأن في عالم اليوم، والتكتلات الكبرى هي التي تفرض رأيها، وإذا أردنا أن يكون لنا دور ورأي في عالم اليوم فعلينا أن ننتقل من التفتت الى التوحد، اي تكوين تكتل اقتصادي عربي وتكتل ثقافي عربي بحيث تتوفر لنا الامكانات والطاقات لنكون أنداداً للدول الكبرى، ولنفرض على القوى العنصرية في الغرب أن تتخلى عن لغة الصراع الى لغة الحوار، وعن لغة النفي والاستلاب الى لغة التعاون والتعددية، وعن لغة الهيمنة القطبية الى لغة الاحترام المتبادل والمساواة.
واذا انتقلنا الى المسرح الخليجي ودوره في مرحلة العولمة، فإن هذه المرحلة تظللنا والمسرح الخليجي قد أصبح مؤسسة راسخة له دوره وجمهوره ومؤلفوه المحليون وإبداعاته، والعولمة الثقافية تفتح أمام المسرح الخليجي آفاقاً واسعة من خلال الاطلاع على المسلسلات الجديدة وعلى المسرحيات في مختلف بلدان العالم. وهذا يعد كسباً كبيراً للمسرح، وإذا كان لكل مجتمع قضاياه الخاصة فإن ميزة المسرح الخليجي أنه انغمس في مشكلات البيئة المحلية وعالجها من خلال منظور نقدي ويمكنه أن يفيد من طرق المعالجة المختلفة التي تزدهر في بلدان العالم إذ إن الفن ليس له موطن فهو رسالة عالمية، وقابل للانتقال عبر الحدود والقوميات، والاشكال الجديدة للمسرح تراث انساني، وهي ملك للجميع، وكل شعب يمكن أن يطوعها لقضاياه الخاصة ما دامت هذه الأشكال ملائمة لعرض مشكلاته، وليست مجرد أزياء تستخدم للتباهي دون أن تقدم أي إضاءة للبيئة المحلية.
المونودراما في دول 
مجلس التعاون الخليجي
لا يوجد الكثير من الكتابات حول المونودراما باللغة العربية، وتعريفها الواضح أنها مسرحية الممثل الواحد (رجلاً كان أو امرأة) وهي كما شهدتها وقرأتها تعتمد على البوح وعلى قدرة الممثل وجاذبيته.. فلا ينفع معها ممثل محدود القدرة إلا اذا كان ذا حضورٍ طاغٍ وقبول وحظّ.. ولا بد أن يكون منسق العرض أو مخرجه من المؤمنين بقدرة هذا النوع من المسرحيات على التواصل وحمل الأفكار والأحاسيس ولا بد لكاتب النص من خبرة واسعة وقدرة عالية على الابتكار والابداع، خياله لا يحدّ وعنده بعد نظر وحسن اختيار للموضوع الصالح لهذا النوع الصعب من المسرح. 
يقول نيتشه: “إن الشرط الأساسي لكل فن درامي هو هذا الدافع الجموح لتقمص المرء أجساماً وأرواحاً أخرى يحيا بها ويعمل، والكاتب المسرحي الحق هو كل من شعر بهذا الدافع وأخذ بفتنة ذلك التقمص”.
إن اكتمال هذه العناصر وتضافرها وتعاونها أمر ضروري لتقديم عمل اقرب الى الكمال ولكن الأمر الذي لا يقل أهمية عن ذلك هو المكان والحضور (المتفرجون) فهذا النوع من المسرح يحتاج لمتذوق ومثقف ولا يعني ذلك فرضية أن العمل متحذلق وفيه ادعاء وتعالٍ على المتفرج العادي، لكنه يحتاج لمتفرج مدرّب ومحب لفن المسرح، ولعل خير مثال للجمهور المتذوق المهيّأ أولئك اليونانيون القدماء الذين يشير إليهم رينان قائلاً ليس له موطن فهو رسالة عالمية، وقابل للانتقال عبر الحدود والقوميات، والأشكال الجديدة للمسرح تراث انساني، وهي ملك للجميع. وكل شعب يمكن أن يطوعها لقضاياه الخاصة ما دامت هذه الأشكال ملائمة لعرض مشكلاته، وليست مجرد أزياء تستخدم للتباهي دون أن تقدم اي اضاءة للبيئة المحلية.
ومن ناحية موضوعات المسرح فإن زوال الحواجز بين دول العالم والقوميات يطرح قضايا جديدة لم تعرفها المرحلة القومية، فالصراع الحضاري أو الحوار الحضاري بحسب درجة التفاعل يفرض نفسه كثيراً في المجتمعات كقضية راهنة لها تأثيراتها في مختلف جوانب الحياة بسلبياتها وإيجابياتها. والمؤلف المسرحي الذي يراقب التحولات الاجتماعية بعين الصقر لا بد أن يلاحظ هذه التغييرات ومن ثم يتناولها في إبداعات جديدة وبذلك تغتني الساحة الثقافية، والمشهد المسرحي.
وإذا كان الانفتاح يؤدي الى الضياع والانهيار لدى الشخصية الضعيفة فإنه يؤدي الى تعزيز الثقة بالنفس والاغتناء لدى الشخصية القوية، والى هذا ندعو.

 

عبد العزيز السُّريَّع

http://www.almustaqbal.com/


شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *