يوسف وهبي… عميد المسرح العربي إبهار السينما ابتلع المسرح

هل إذا ذهبنا إلى الحديث عن المسرح نكون قد ابتعدنا عن طرح المواضيع الجادة، وانتحينا صوب اللهو والتسلية وتضييع الوقت؟أم أن موضوع المسرح هو في صلب القضايا الجادة والأساسية في حياتنا وحياة كل الشعوب؟ فالمسرح عندنا قد مر منذ بداياته بأطوار

متعددة شأنه شأن جميع مجالات الثقافة،لكنه هو الوحيد الذي تعرض لعمليات قمع عنيفة، كما تعرض لعمليات تشويه مركزة، فمن مسرح التهريج إلى مسرح الإستعراض المبتذل، إلى محاولات تشكيل مسرح عربي جاد، أصدرت السلطات السياسية حكمها على من يشتغل بالمسرح أنه إنسان فاقد الأهلية ولا يؤخذ بشهادته في المحاكم ،شأنه شأن «كشاش الحمام» و«الحمالين الذين يحملون فوق طاقتهم»، غير أن وجود المسرح في تاريخ الحضارات الإنسانية كان قد لعب الدور الأول والأساس في نقل الفكر الفلسفي والإجتماعي والسياسي منذ حضارة الإغريق مرورا بروما وصولا إلى عصر الأنوار حيث كان المسرح هو الوسيلة الرئيسية لإيصال أفكار عصر الأنوار،إلى أوسع فئات الشعب من رواد المسارح، التي كانت تعرض في الساحات وعلى نواصي الطرقات، وتجول الفرق في المدن والأرياف، حيث لم تكن طباعة الكتاب قد توسعت لتصل إلى العدد الأكبر من الناس، وحيث أن الناس لم تكن قد تمكنت بعد من القراءة على نطاق واسع، كان «شكسبير وموليير وأبسن» في مسرحياتهم هم كتاب الشعب المفتوح،  لقون إليه الكلمة المهذبة بعد صقلها، والرواية المحشوة بالأفكار الإجتماعية والأخلاقية وطبيعة النفس البشرية وتناقضاتها من أجل تهذيبها ووضعها في إطارها الإنساني الصحيح، كانت مسرحيات هؤلاء العمالقة تعرض في الهواء الطلق، وتجول في أنحاء البلاد، وتناقش من قبل الجمهور مثلما كان يحدث في مجلس «أثينا» لم يكن الشعب بعيدا عن صنع مسرحياته التي وضع إطارها المؤلف بناء على أفكار الفلاسفة والمصلحين، ويقول الفنان المسرحي الكبير «يوسف وهبي» الذي سوف نعرض لقصة كفاحه، وهو المؤسس للحركة المسرحية العربية، أن عشقه للمسرح تفتح لديه بعد أن شاهد مسرحية في سوهاج للمسرحي اللبناني الأصل «سليم القرداحي»، فقرر الإنتماء إلى المسرح، أي اعتماد أسلوب التواصل الجماهيري الواسع لدفع الناس إلى التفكير والمناقشة فيما يعرض عليهم من أفكار وآراء، كان المسرح العربي في تلك المرحلة يغلب عليه طابع اللهو والتسلية والغناء، ولعل هذا قد جاء إليه من قصور الأمراء والسلاطين، الذين كانوا يطلبون هذا النوع من أنواع الترفيه، ولما كان الناس على دين ملوكهم، فقد سرت إليهم عادة هذا النوع من التهريج، إلى جانب ذلك كانت تعرض مسرحيات ذات طابع تاريخي بانسجام مع الوعي القومي الذي بدأ في تلك الحقبة،فكانت المسرحيات التي تعرض تحمل عناوين مثل (خليفة الصياد،هارون الرشيد، صلاح الدين الأيوبي، صدق الأخاء،أصدقاء السوء)، إلى جانب تلك العروض كانت هناك فرقة (نجيب الريحاني وعلي الكسار)وكان يوسف وهبي يعتقد أن مسرح الريحاني والكسار يتمثلان بالشعر الراقص الذي سوف يودي بالمسرح إلى الهاوية، بعد عودته من أوروبا، واطلاعه على فن المسرح ورسالته التثقيفية، وبقي التنافس شديدا بين الإتجاهين المسرحيين، كل منهما يسعى إلى جذب الجمهور، إلى فهمه لرسالة المسرح، على الرغم من ذلك فإن مسرح يوسف وهبي هو الذي يعتبر المؤسس للحركة المسرحية العربية في العصر الحديث، فما هي قصة هذا الكفاح، وإلى أي مدى لعب مسرح يوسف وهبي دور ناقل الثقافة العصرية للجماهير.
يوسف وهبي وقصة الكفاح الطويل لبناء المسرح
هو «يوسف عبد الله وهبي» المولود في محافظة الفيوم على شاطىء بحر يوسف وقد سمي تيمنا بذات الإسم، في 17 تموز- يوليوعام 1900، والمتوفي في 17 تشرين الأول – أوكتوبرعام 1982، إثر أزمة قلبية مفاجئة خلال علاجه في مستشفى المقاولين العرب  من كسر في عظام الحوض نتيجة سقوطه في الحمام،في منزله بالقاهرة، والده عبد الله وهبي باشا،من أعيان الفيوم،قام بعدة مشاريع إصلاح للأراضي بالتعاون مع رائد الإقتصاد المصري طلعت حرب، وقام بإنشاء مسجد كان الأكبر في المنطقة ،عرف بإسم «مسجد عبد الله بك» كانت رغبة الأب أن يتابع ولده عملية الإصلاح والتطوير في الزراعة، لكن الإبن كان يرى عملية الإصلاح في مكان آخر، هو المسرح، الوسيلة الفضلى للتواصل مع الناس وبث روح التطور في عقولهم،أخذ بالأداء المسرحي حين شاهد عرضا مسرحيا لفرقة المسرحي اللبناني المتجولة «سليم القرداحي» في مدينة سوهاج،فأخذ يلقي المونولوجات ويؤدي التمثيليات في النادي الأهلي والمدرسة، ولرغبته بالإحتكاك بالناس والجمهورعمل مصارعا في سيرك الحاج سليمان، ما يكشف إحساسه  المبكر في أهمية  التواصل مع الناس، عندما اشتد خلافه مع والده رأى أن يتابع طريقه الذي اختطه بالسفر إلى «إيطاليا» مركز الفنون المزدهرة في ذلك الزمن، وبتشجيع من رفيقه وصديق عمره «محمد كريم»، ليدرس التمثيل على الممثل الإيطالي «كيانتوني»، وليطلق على نفسه إسم «رمسيس» طالت غيبته في «إيطاليا» مدة أربع سنوات،عاد بعدها إلى «مصر» حين وردته رسالة عاجلة من والدته تخبره فيها أن والده يحتضر ويريد أن يراه، فعجل بالعودة لكن الوالد كان قد فارق الحياة، وقد أخبرته أمه وإخوته، أن آخر مانطق به أبوه السماح له والرضا عليه،لم تكن بداية عمل «يوسف وهبي» مثل غيرها من بدايات ممثلي المسرح، فهو ابن عائلة من الطبقة العليا، وقد ورث عن والده مبلغا كبيرا من المال هو عشرة آلاف جنيه ذهبية، وهو خريج معاهد التمثيل الإيطالية، إذن فهو يستطيع مسلحا بتلك الإمكانات أن يبدأ في تحقيق حلمه الذي رافقه منذ صغره، وقد لمس عند عودته، ولدى احتكاكه بالفنانين زملائه مدى البؤس والحاجة التي يعيش فيها هؤلاء الفنانون الذين لا يقلون إيمانا عنه بضرورة تطوير المسرح والنهوض به، كان احتكاكه المباشر بزملائه الفنانين، حين بدأ العمل في فرقتي «حسن فايق» و«عزيز عيد»، في نهاية العشرينات أنشأ «فرقة رمسيس» بالإسم الذي تسمى به وضمت (حسين رياض، أحمد علام، فتوح نشاطي،مختار عثمان، عزيز عيد،زينب صدقي،أمينة رزق ،فاطمة رشدي، علوية جميل) حيث قدمت الفرقة أكثر من ثلاثماية رواية، مؤلفة ومعربة ومقتبسة، فأصبح بذلك يعرف بأستاذ المسرح العربي، بدأ بمسرحية «المجنون» باكورة أعماله المسرحية، على مسرح «راديو» عام 1923، وقد نقل الموسيقى التصويرية قبل رفع الستار، عن تجربته في إيطاليا، أما العمل المسرحي الذي ثبته عميدا للمسرح، هو مسرحية «كرسي الإعتراف» التي نقلها إلى السينما من أجل تخليدها، إلى جانب عدة أعمال أخرى كان المعين الذي استقى منه مسرحياته أالتراجم والإقتباسات عن أعمال (شكسبير، موليير، وأبسن)، أهمها: عطيل، سر الحاكم بأمر الله، يوليوس قيصر، الطمع، الدنيا مسرح كبير، الكوكايين، بيومي أفندي، هاملت، غادة الكاميليا، أولاد الشوارع، كليوباترا. وقد نقل معظم مسرحياته إلى السينما، التي رأى فيها مجالا لتخليد تلك الأعمال.ويختصر عشقه للمسرح في عنوان مذكراته «عشت ألف عام»، فقد كانت حياته مليئة بالأحداث، عشق للفن لا حدود له، علاقات غراميات متعددة، لقاءات مع العظماءفي الفن والأدب، الثراء الفاحش والفقر المدقع، الإتهام بالقتل، العناية الإلهية والنجاة من الموت، المافيا الإيطالية.
بداية ابتلاع السينما للمسرح على يد العميد
كما بهرت السينما الملايين في العالم، وحولت أنظارهم عن الخشبة إلى الشاشة، كذلك كان تأثيرها على يوسف وهبي، الذي سرعان ما حول نشاطه إلى العمل السينمائي، فبدأ ببناء «استديو رمسيس» قبل أن ينشىء «طلعت حرب» «استديو مصر» وأنشأ مع «محمد كريم» شركة سينمائية بإسم «رمسيس فيلم» بدأت عملها بإنتاج الفيلم الصامت «زينب» بطولة بهيجة حافظ، عام 1932، ثم بإنتاج فيلم «أولاد الذوات» الذي كان أول فيلم عربي ناطق، وفيلم «الدفاع» 1935 مع نيازي مصطفى، بعد ذلك قدم «المجد الخالد» هذه المرةكان هو الكاتب والمخرج والبطل،ثم ما لبث أن ترك الإخراج للمخرج «توجو مزراحي» بعد نجاح أفلامه تلك، قدم فيلم «غرام وانتقام» الذي أخرجه بنفسه، ولاقى نجاحا باهرا، مع النجمة «أسمهان» وكان ثاني أفلامها وآخرها، الذي توفيت قبل أن تتمه، وقد حصل يوسف وهبي على لقب البكوية من الملك فؤاد بعد حضوره لهذا الفيلم، في السينما حاول «يوسف وهبي» أن يركب المركب الصعب، حين عمل من أجل تجسيد شخصية الرسول في السينما،بتمويل من شركة «ماركوس» الألمانية، وبتشجيع من «مصطفى كمال أتاتورك» نفسه، حيث جوبه باعتراض واسع من الأوساط الثقافية والدينية والشعبية، وقد هدده «الملك فؤاد»بسحب الجنسية المصرية منه وذلك عام 1930.
إنه من المفارقات العجيبة، أن نهضة المسرح الجاد والعالمي، يكون نصيبها أن تنتهي على يد مؤسسها بالذات، ذلك ما يحتاج إلى أجوبة كثيرة، على سؤال واحد،ترى هل أن البيئة السياسية والإجتماعية والثقافية لم تسمح للرائد أن يكمل طريقه؟ أم أن إبهار السينما للجمهور وتحوله نحوها كان هو العامل الأقوى؟ أم أن الإعتماد شبه الكلي على النتاج المسرحي الأجنبي، وغياب الكتاب المسرحيين المحليين هو ما وضع الرائد أمام حائط مسدود، لم يرأمامه سوى إحالة مسرحياته إلى سجل الأرشيف بالسينما ،بعد أن جفت بئر الإنتاج العالمي؟ إن المسرح في مهمته الأساسية، في تقديري، هي التواصل مع الجمهور بقضاياه، وهذا ما بدأه «يوسف وهبي»، وعندما لم يكن هناك من ينقل قضايا الجمهور إلى المسرح، ضمر وجوده، وعاد ملهاة تنفس الغضب وتمحو الآلام ولكن بصورة مؤقتة.
محمد صالح أبو الحمايل

 

http://www.aliwaa.com


شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *