عزف نسائي.. اعاد الجماهيرية للمسرح الجاد

هذا العرض المسرحي فاجأ الكثيرين، فأبدوا اعجابهم كما لم يبدوه مجتمعين بعمل اخر، عمل يدعو الى الحياة، الى الامل، الى نبذ الكراهية والقسوة، حمل رؤيته الاخراجية بـ (بجنون بديع) سنان العزاوي لمدة سنتين واشتغل عليه لاشهر، عانى خلالها ما عانى، فكان مولودا معافى اعجب الناظرين.

لمناسبة يوم المسرح العراقي، احتفى المسرحيون العراقيون بعرض مسرحية تحمل عنوان (عزف نسائي) اخراج الفنان سنان العزاوي عن نص لمثال غازي، وتمثيل الفنانتين هناء محمد واسماء صفاء، بحضور جمهور كبير جدا، حيث كانت الخشبة هو موقع جلوس الجمهور بثلاث اضلاع فيما بقي الضلع الرابع مفتوحا على صالة العرض حيث امتد فوق المقاعد جسر طويل يؤدي الى نهاية الصالة، والعمل يدور في فلك الواقع العراقي وما حدث على الساحة من تداعيات على مدى سنوات طويلة تمتد الى ابعد من الزمن العراقي الجديد، من خلال امرأتين من زمنين مختلفين، امرأة متطرفة دينيا (نزر) الفنانة (هناء محمد) واخرى شابة راقصة هي (حياة) الفنانة (اسماء صفاء)،وقد اشتغل الممثل على البناء الصوري فأجاد كثيرا وهو ما ادهش المشاهدين على الرغم من التكرار الذي في العمل الذي جعل العرض يستمر لاكثر من ساعة ونصف، لكن الملل لم يتسرب الى النفوس كون العمل تنوع في حواراته والاهم ان الممثلتين اجادتا بشكل مميز، فالفنانة الكبيرة هناء محمد اكدت حضورها الجميل وأثبتت قدرتها على التحدي والمطاولة رغم العناء واعباء الحديد الذي تحمله وهو من اكسسوارات العرض، فيما نالت الفنانة اسماء صفاء لقب الكبيرة فعلا ابتداء من هذا العرض حيث اثبتت جدارتها وجرأتها وأبدعت في ان تكون صنوا لزميلتها هناء، فكانت الاثنتان متناغمتين ومنسجمتين في عزف انغام جميلة ومتعددة لاسيما في انتقلاتهما ما بين التراجيديا والكوميديا، جعلت المشاهدين يصفقون كثيرا مثلما ضحكوا كثيرا ايضا، ويمكن القول ان العرض اعاد الجماهيرية للمسرح الجاد.
وعلى الرغم من النجاح الذي نالته المسرحية،الذي منحها تمديدا لمدة اسبوع للاقبال الكبير عليها، الا ان ما برز على سطح المضمون العام للعمل ان المؤلف والمخرج لم يتفقا على الفكرة في خطوطها العريضة، بمعنى ان النص اشتغل عليه المخرج من جديد ليذهب به الى ابعد ما اراد المؤلف،كما ظهر ذلك جليا، وهو ما ألتبس على المخرج الذي حاول ان يذهب بالنص الى شاطيء الامان لكنه لم يستطع لان الافكار كانت على غير واقعها،كما انه ترك فراغات لم يوضحها في قضية المرأة المتطرفة والتغيير الذي حدث فتركها غائبة عنه ومتحزمة بحزامها الناسف الذي لم تكن ثقافته معروفة قبل عام 2003.
يبدأ العرض بالمرأة المتدينة المتطرفة التي تعيش في بيت مظلم حولته الى سجن، ترتدي (حزاما ناسفا) تشده على وسطها، وتعلق في عنقها (مسبحة) كبيرة، تردد أيات من القرأن الكريم بصوت عال،وهي تتحرك في الجهات المختلفة وتعلق الاقفال في سلاسل تملأ المكان، ومن ثم يلعلع صوت اطلاقات نارية كثيفة خارج البيت،فترد عليها بالقول (وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى)، ومع الرصاص تأتي شابة لتطرق الباب وهي تقول (افتحوا الباب، راح اموت، صارت مواجهات بالشارع) فتسألها المتطرفة من وراء الباب (انتم منو) وانا من ( ذولة ولا من ذولاك ) (لا من هؤلاء ولا من اولئك)، وتعود تسألها المتطرفة (انت من اين؟) فترد عليها الاخرى: وماذا تفرق عندك، افتحي الباب الله يخليك)، ومع كثافة الرصاص، تدخل الشابة عنوة الى البيت، الشابة محجبة وترتدي عباءة نسائية سوداء،وحين تسأل المتطرفة لماذا لم تفتح لها الباب تجيبها بالاية الكريمة (قل اعوذ برب الناس..) ولان البيت مظلم، تعلن الشابة عن خوفها من الظلام وتحاول ان تتفتح الشبابيك، لكن المرأة المتطرفة ترفض، وتبدأ محاورات مختلفة فيما بينهما عن الدين والدنيا، وفيما تحاول المتطرفة ان تصلي صلاة العشاء، كانت الشابة تنزع ملابسها لتظهر بملابس راقصة، وتبدأ بممارسة شيء من الرقص وتخرج من جيبها (جمبارات) الرقص، وحين تسلها المتطرفة عن عملها ترد بالقول (راقصة، معلمة رقص بملهى، يعني ساقطة، يعني دايحة)، فتحاول المتطرفة ان تطردها من من بيتها، فتقول لها الشابة (اليس في قلبك رحمة، ما تخافين من الله، حتى لو كان كلب يعوي في الشارع،كان لازم ادخليه) فترد عليها المتطرفة (حتى الكلب انظف منك)، ثم تسألها عمن ارسلها اليها، فتقوم بتقييدها، وتحقق معها، لكن الشابة تتوسل بها، فترأف بحالها، ومن ثم تكشف كل واحدة منهما عن هويتها، تكشف الشابة اولا، فهي زوجة وام لولد لكن زوجها وولدها قتلا من قبل مجهولين (كل ذنبهم، مذهبهم ليس نفس المذهب)، وتم تهجيرها من بيتها، فغادرت العراق بحثا عن ملاذ، فتتعرف على رجل (جاءني الذي دق لي صدره ووعدني وقال يحميني) ظهر انه (قواد)، يعلمها الرقص لتعمل في ملهى ليلي هناك، لكن السلطات هناك سفرتها الى العراق لان (جواز سفرها متجاوز) عادت لتشتغل راقصة، اما المتطرفة فتكشف انها في زمن النظام السابق تتعرض للاعتقال بتهمة الانتماء الى احد الاحزاب الدينية مع اخوتها بعد ان هدموا البيت، وفي المعتقل (ماذا انزع؟ ملابسي، استروا علي، انا مثل اختكم، حضرة الضابط،انا تهمتي الانتماء لحزب ديني وليس دعارة، شلون ؟؟؟ شلون نفس الشيء)، ولكن يتم اغتصابها جماعيا، وبعد توسلات (قالوا لي ارقصي لنا، اي.. ارقص لكم، شكو بيها، ارقص لكم، انتم لا تعرفون من انا ؟ التي ترقص لكم ابنة شهيد)، (ابي مات بحرب، قالوا له لازم تدافع عن الوطن، ولكن لا احد دافع عن عرضه بعد ان مات باسم الوطن)، (قالوا لي انت واخوك غوغاء، كيف ابي يموت شهيدا من اجل الوطن، وانا واخي غوغاء؟)، وتقترب احداهن من الاخرى اكثر لاسيما انما يعانيان مشكلة واحدة وان اختلف الزمنان، وتستذكران اياما صعبة وتبوحان لبعض بقصص مرت عليهما، بعد ان تتفقان على العيش معا، ويطلع الفجر ومعه تدعوان الله وتتباريان في الكلام (يا الله ارجع لنا المحبة والعطف، ارحمنا برحمتك الواسعة، الله طلعت الشمس، طلعت اي طلعت الشميسة على وجه عيشة، الله، كل شيء يبين بالشمس، الشوارع،البيوت، السيارات، الناس، كل شسء صافي ودافي، كل شيء واضح وحنون، ولكن انا بعدني خايفة، وانا ايضا خايفة، ولكن مع الشمس لا يوجد خوف، طلعت الشمس،ماكو خوف، ماكو خوف، ماكو خوف، هل انت جوعانة ؟ ياااا.. ميتة من الجوع، كأن صار سنين لم يدخل شيء في بطني، شنو رأيك نفطر (نتريك ) سوا، اي.. ولكن البيت لا شيء فيه يؤكل، ولا يهمك، انا سأذهب لاجلب قيمرا وصمون وانت اعملي الشاي، لا تخافين، الفلوس التي اجلب بها الاكل فلوس حلال، فلوس اخر قطعة ذهب امتلكها، حلقة زواجي بالحلال) لكن الشابة تحاول الخروج بملابس الراقصة، تنهرها المتطرفة، فتعود لترتدي عباءة، ولكن ما انت تغادر حتى يدوي صوت رصاصة، فتقتل الشابة، وبعد موقف تراجيدي تقرر المرأة المتطرة ان تخرج (راح اطلع، راح اطلع للشمس، للنور، اكيد هناك الف واحدة مثلك محتاجة للحضن الدافي، وراح ادعو لك بكل صلاة، ان يفغر ذنبوك، ويغفر ذنوبنا، وذنوب كل امة محمد)، وترتدي عباءة بيضاء وتتجه نحو الشمس (الضوء) في اعالي المسرح، وقد تم مد جسر طويل من الخشبة الى اقصى القاعة، مع موسيقى حماسية، فيما خرج مع توجه (هناء محمد) الكثيرون ممن يرتدون السواد في اشارة الى خروج الذين يشبهون حالة المرأة المتطرفة الى الحياة.
بعد نهاية العرض حاولنا استطلاع اراء عدد من المعنيين بالمسرح لمعرفة وجهات نظره فيه وما قدمه المخرج وما أدته الممثلتان.
يقول المخرج الكبير الدكتور صلاح القصب: سنان مخرج مهم، وتشكل تجاربه الاخراجية على مستوى الشباب فضاء ابداعيا كبيرا، العمل تجربة جريئة على مستوى الصورة وعلى مستوى التفكير الجمالي وعلى مستوى السينوغرافيا والتقنيات، العمل مهم جدا وشكل ظاهرة مهمة جدا في حركة المسرح الشبابي لذلك فأنا مندهش لهذه التجربة الكبيرة والجريئة، الشباب هم جيل المستقبل، جيل مهم، وسنان واحد من المهمين في حركة المسرح اضافة الى الاسماء الشبابية الاخرى.
وأضاف: انا اميل دائما الى تكوين الصورة، المضمون عندي هامش، فالصورة عندي اهم من المادة الادبية، فكانت الصورة كبيرة، اكبر من منظومة الخطاب، هذا هو العمل المسرحي، هو منظومة صورية اكثر مما هو منظومة ادبية.
اما الفنان فاضل عباس اليحيى فقال: من المؤكد ان هذا العمل هو من جملة نصوص كثيرة قرأها سنان العزاوي.. وأستقر على ان يشتغل على نص مثال غازي، العمل هو بكر به قبل سنتين واشتغله في سورية، ويبدو ان المطبخ الخلفي الذي اشتغل فيه سنان بعقله ووعيه ورصده لكل متغير وثابت في حياتنا المشتركة وضميرنا الجمعي، قدر ان ينتج هكذا عنف جميل، والعرض ينتمي الى مسرح القسوة، وفيه كثير من القسوة، على الذات، جلد الذات، ولطن بطريقة دراماتورجية هائلة، اولا الثقل على الممثلتين هناء واسماء كبير، ثم الانتقال من حالة الى حالة، وهم مسوا كل جرح، المغلق فتحوه والمغلق رتقوه، وعادوا ليفتحوه، يعني انهم مروا على وجع عراقي طويل، ازمان عراقية طويلة، ملأى بكل ما نتوقعه اولا نتوقعه.
واضاف: اشتغالات المخرج على الفضاء كان مهما، المفاجآت كثيرة على مستوى المكان، حتى توقعنا ان هناك خطورة على الممثلتين، ولكنهما بحرفية عالية تعاملا مع الاكسسوار الثقيل الذي هو حديد وسلاسل، واذن.. كم من جهد تم بذله، جهد عضلي وجهد من الانتباه، وهذا يحسب الى خبرتهما، ثم ان مجيء اسماء صفاء من منطقة التلفزيون خرجها من كليشة التلفزيون ووضعها في هذا المكان الذي ملأته، وهذا الفضل فيه يعود اليها والى سنان، وهذا هو التحدي الكبير ان يخرج الممثل من كليشة التلفزيون ويدخل في خلق عرض حي يكسر كل كليشة، وهذا يحسب لاسماء المرعبة، الى جانب خبرة قديمة للفنانة هناء محمد، فهما من مدرستين مختلفتين، وزمنين مختلفين، هناء تمثل جيلا سابقا واسماء تمثل جيلا حديثا هو الان يتشرب بفنون الخشبة الصعبة، على مستوى الصوت وعلى مستوى اكتشاف الجسد، فلم يبق شيء لم تجربانه وهذا يحسب لهما، ولسنان ايضا، وقد اوقعتنا الممثلتان بشرك مبتكر ان اللحظة مبتكرة من عندياتهما، ونسينا المخرج في لحظة، ومن ثم يرجع سنان ليهيمن.
فيما قال المخرج المسرحي حسين علي صالح: عمل جميل جدا وممتع وانا احيي سنان بحرارة لانه عرف كيف يستغل هذا المكان وحوّل خشبة المسرح فعلا الى بيت حقيقي كنا نحن جميع المشاهدين مشاركين في العرض، وهذه الصالة الكبيرة حولها الى جسر بعيد للامل، واحيي اسماء صفاء بكل الجهد الذي قدمته وأحيي المتألقة الكبيرة هناء محمد لهذا الجهد الكبير، وانا اعد هذا العمل مفخرة وانتصارا لكل فناني العراق ومسرحييه، وتهنئة لهم من القلب والتمنى ان تكون عروضنا العراقية مثل هذا العرض لانه يستحق الثناء والاحترام.
وقال الفنان قحطان زغير: عمل جميل ورائع وكبير على الرغم من ان النص بسيطا الا ان المخرج استطاع ان يعطي اهمية وحقا لهذا العمل في عالم التجريب وعالم الواقعية ومزج الكثير من الامور، والعمل جميل بممثلتيه هناء واسماء، وقد اعجبني كثيرا على الرغم من بعض الامور البسيطة، اما موضوعة العمل فهي متداولة في قصص عالمية ومصرية وعراقية ولكن الاخراج هنا غير متداول وعالجها سنان العزاوي معالجة رائعة وفلسفية، مبارك لدائرة السينما والمسرح هذا العرض ومبارك للجميع.
في الاخير.. توقفنا عند بطلة العرض الفنانة هناء محمد التي تحدث لنا عن شخصيتها قائلة: الشخصية التي اديتها هي شخصية المرأة المتطرفة، واحتاجت الى جهد عضلي وفكري وجسماني، سألوا المخرج سنان العزاوي مرة عن هذه المرأة المتطرفة بالدين، فقال: تحتاج الى عشر ممثلات شابات يمثلونها، ولكن كل هؤلاء مجتمعون في هناء محمد، فالشخصية مركبة، وتتحول من حالة الى حالة، وباللحظة تتغير 90 درجة او 180 درجة، حبيبة، حاقدة، ظالمة، محقق، ملاكم، محبة، مسامحة، تدق طبول الحرب، حتى تلاوة القرآن كان لها ترتيل، وهو انذار للحرب، انسانة سوية، وغير هذا انا مقيدة، فالمسبحة التي اضعها على عنقي وزنها اكثر من 10 كيلوغرامات، لانها من حديد، بينما الشخصية الثانية هي راقصة، بنت ليل، وهذه ادوار السهل الممتنع بالنسبة للفنانة اسماء صفاء لان لديها هذا الاتجاه، على الرغم من اننا نحتنا من اجل ان نكون بهذه الصورة الجميلة، وهي بذلت جهودا كبيرة.
واضافت: استمديت القوة القابلية على هذا الاداء من الله يبحانه وتعالى اولا، ولم يعطني القوة الا الله، ومن ثم حبي للمسرح، فالشخصية كانت من كوميدية الى تراجيدية الى صعود، انا تكفيني هذه السلاسل، لان كل قفل فيها يغرز في صدري، حبي للمسرح وللناس يهون علي كل هذا.

عبدالجبار العتابي

http://www.elaph.com

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *