«أنت لست كارا» يفيض بالدلالات والتقلبات المنبعثة من الدراما البشرية

احتضنت القاعة الأولى بمعهد الشارقة للفنون المسرحية مساء أمس الأول، آخر عروض الدورة الثالثة والعشرين من مهرجان أيام الشارقة المسرحية، وهو عرض “أنت لست كارا” لفرقة مسرح الشارقة الوطني، ومن إخراج الفنان محمد العامري الذي اعتمد على نص مسرحية “جارا .. أنت لست جارا” للأديب التركي الشهير عزيز نيسين، كي يشيد فضاءه المسرحي الخاص، ويقدم عرضا فرجويا فائضا بالدلالات والإدانات، ومحتدما بالتقلبات والانعطافات المائلة للقسوة والمنبعثة من الدراما البشرية ذاتها، والتي تهيمن عليها الأنانية بنوازعها الفردية والجماعية.

عودة العامري

وكأن بمحمد العامري أراد بهذا العرض أن يؤكد على حساسيته الفنية العالية التي افتقدها جمهور الأيام في عرض “خلطة ورطة” ، وكأنه أراد أن يشير أيضا إلى أن ما حدث في الليلة الماضية كان مجرد محطة للنسيان، حيث أسهمت الظروف المعاكسة والقرارات الخاطئة وضغط التوقيت في عدم تقديمه لكامل قدراته الابتكارية وكامل رؤيته الإخراجية، التي تاهت وتشتت في مسرحية “خلطة ورطة”.

عاد العامري لعافيته المسرحية سريعا، وقدم في (أنت لست كارا) عرضا يصعق الحواس، ويضع المتفرج في قلب الحيرة الوجودية والآلام والمرارات الصاخبة التي عاشتها شخصية كارا، والتي جسدها الفنان عبدالله زيد ببراعة استثنائية وموهبة أصيلة ومتوارية أعاد محمد العامري اكتشافها وبعثها وتجسيدها في دور متجاوز لكل الأدوار التي رأيناها في عروض المسرح الإماراتي.

العرض

بدأ العامري عرضه من خارج صالة المسرح، من خلال سجادة حمراء مفروشة في الردهة الخارجية في مشهد استمر لأكثر من خمس دقائق رأينا فيه الجمهور المنتظر خارج الصالة، وهو يستمع لصوت غنائي شجي وحزين من خارج الكادر، تلته أصوات ثلاثاً ممثلين بميكروفوناتهم المضخمة للصوت، وكلّ منهم يتباهى بالمدعو “كارا” وبإنجازاته وبطولاته وموته شهيدا دفاعا عن وطنه الكبير، وكان الثلاثة يشيرون إلى أن “كارا” هو ابن مدينتهم، وأنه بات مثالا للقدوة والاحتذاء والسير على نهجه، وبدا واضحا وجود منافسة قوية بين الجميع لنيل شرف التحاق “كارا” بمدينتهم، رغم الأكاذيب والمبالغات والمعلومات المضللة التي أوردوها في خطاباتهم المفبركة.

ويلحق جمهور الصالة بالممثلين إلى قاعة العرض، حيث تنفتح الخشبة على نصب تذكاري ضخم يعلوه تمثال أشبه بدمية هائلة، ومع دخول فرقة عزف عسكرية مصحوبة بإيقاعات عالية يتوضح لنا بأن ثمة احتفال مهيب سوف يقام في المكان، وهو الأمر الذي يتجسد في حضور رئيس المجلس البلدي لمدينة ( يوطنبور)ــ جسّد دوره الفنان محمد إسماعيل ــ ومدير بلدية المدينة ــ الفنان حميد سمبيج ــ وقائد الحرس العسكري ــ الفنان أحمد عبدالرزاق.

ونستمع لرئيس المجلس وهو يلقي خطابا رنانا أمام نصب الشهيد “كارا”، ويقول للحضور “ لقد حصلنا على بطل” موضحا أن “كارا” كان من أقرب أصدقائه، وأنه تعلم منه الكثير من المثل والأخلاقيات التي تشجع على التضحية بالنفس من أجل عزة وكرامة الوطن، ويقرر رئيس المجلس أن يطلق على مدينته اسم (كارابور)، بدلا من (يوطنبور) تكريما لذكرى بطلهم الأسطوري، ويتكرر ذات الخطاب مع مدير بلدية المدينة ولكن بادعاءات ومبالغات جديدة في وصف الشهيد ومناقبه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى.

ومع انتهاء الحفل وانسحاب الحضور، وبقاء الرئيس والمدير لوحدهما، يتفاجآن بدخول شخص متشرد وسكير يدعي بأنه هو “كارا” ــ الفنان عبدالله زيد ــ وأنه لم يمت في الحرب، رغم كل الأهوال والتجارب المرعبة التي عايشها على أرض المعركة، وطاردته مثل الكوابيس الشرسة الملاصقة لهو في كل الأوقات، تثير اعترافات كارا دهشة المسؤولين الذين لا يصدقان أقواله على أساس أنه شخص ثمل وصعلوك يهذي بحكايات متخيلة ويتلّبس دورا لا يشبهه، ولكن مع احتدام هذا الموقف المريب والصادم، يبدأ المسؤولان في التقرب أكثر من “كارا” لمعرفة السر الذي يخبئه، ويستعينان بالجنود كي يستخرجوا من كارا وبممارسات عنيفة، ومن خلال تعذيب نفسي وجسدي مرهق وقاس، ما يخفيه من تاريخ شخصي غامض، ولاستجلاء المزيد من الاعترافات حول الحقيقة الغائبة التي لا يريد أحد اكتشافها وإماطة اللثام عنها، كي لا يتحول الاحتفال بالشهيد البطل إلى فضيحة مدوية، خصوصا بالنسبة للمسؤولين الكبار في البلدة ولأبنائها الذين باتوا يفتخرون، ويقتدون بهذا الرمز وبهذا المثال الذي لا يتكرر، وينتهي الأمر برئيس البلدة ومدير البلدية والجنود المحيطين بهم إلى قتل “كارا” وإعدامه بتهمة التجسس لصالح العدو، ومن ثم دفنه تحت الضريح، في رمزية بالغة ومعبرة عن قدرة البعض على استثمار الخديعة وتحويلها إلى حقيقة مجسدة إذا كانت قادرة على جلب المنافع الذاتية وإشباع نهمهم الشخصي وجشعهم المفرط.

استطاع محمد العامري، من خلال العرض أن يجسد المنهج الفكري لعزيز نيسين والقائم على مدّ الخطوط الحزينة التي تتحول إلى شبكة معقدة من العلاقات والصراعات بين الذات والذات، وبين الذات والآخر، والتي تأخذ شكل القسوة الظاهرية والإيلام الوجداني، وتتجه أيضا إلى السخرية السوداء الناقمة على‪ ‬التخلف البغيض والنفاق المستشري في المجتمع، واستعان العامري لتحقيق غايته الموضوعية والفنية إلى الإضاءة المكثفة في حالات استدعاء كارا لذاكرة الحرب ومروياتها الصادمة، وإلى الإيقاعات الصوتية الصاخبة والحية على الخشبة والمعبرة عن الإرهاب النفسي الممارس على المهمشين والصادقين اللذين لا يريد المستنفعين وأصحاب النزعات الشخصية أن تظهر أصواتهم، وأن ينتشر صدى آلامهم وأوجاعهم في المكان.

الأداء

واستطاع الفنان عبدالله زيد بأدائه المتمكن والمتماهي تماما مع شخصية “كارا” المعذبة والمحاطة بسوء الفهم والخيبات الاجتماعية المغروسة فيه مثل خناجر مسمومة، أن يستحوذ على حواس المتفرجين في الصالة، وأن يتماهوا هم أيضا مع آلامه الخفية والملموسة والموغلة في ثنائية جلد الذات وجلد الواقع المتسبب في دمارات هذه الذات وفي صدقها وصداميتها المحشوة في قالب إنساني متأرجح بين حياة تالفة وموت ناضج، ولشخص عدمي وهلامي لا مكان له فوق التراب، ولا حتى تحت التراب !

إبراهيم الملا (الشارقة)

http://www.alittihad.ae/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *