سقط المحروس وعاشت المحروسة

سيظل التاريخ بأحداثه العجيبة مصدرا من مصادر الإلهام لفن المسرح بوجه خاص‏,‏ وسائر الفنون بوجه عام‏,‏ حيث تحمل قصص التاريخ دلالات نابضة بالحياة‏,‏ربما تعين علي فهم الواقع أو التنبؤ بما قد يجري في المستقبل‏.‏

والكاتب أبو العلا السلاموني واحد من عشاق التاريخ المصري خاصة الإسلامي منه, وله أكثر من مسرحية مستلهمة من أحداث ذلك التاريخ, منها, رجل القلعة, ومنها ايضاالمحروس والمحروسة التي يقدمها المسرح القومي من انتاجه علي مسرح ميامي لمخرج شاب مبدع نجح في وضع بصمته الخاصة بين نجوم الإخراج المسرحي في مصر, وهو شادي سرور الذي ملأ المسرح بالحركة الضرورية المبررة وبالإيقاع السريع مستخدما كل أدواته من ديكور وملابس وموسيقي واستعراضات واضاءة وحركة ممثلين, لخدمة الفكرة والحالة المسرحية المتوهجة التي حملها عرض المحروس والمحروسة ويتناول ابو العلا السلاموني في مسرحيته فترة حكم الملكة شجر الدر لمصر والخليفة المستعصم بالله لبغداد حاضرة الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت, ويفترض المؤلف علي عكس ما جري في أحداث التاريخ أن المستعصم بالله ووزيره الأول قد هربا متنكرين والتقيا بعامة الشعب في حانة حيث تقوم فرقة من المشخصاتية بتجسيد قصة شجر الدر بالطبع من وجهة نظرهم ويختلف معهم مدافعا عن موقف الخليفة ورؤيته ثم يضطر لمسايرتهم فيؤدي في اللعبة دوره الحقيقي كخليفة ومعه وزيره الأول ابن العلقم وجسد الفنان القدير أحمد راتب دور الخليفة المستعصم بذكاء وفهم شديدين,حيث أظهره رجلا شديد العناد والقسوة واستطاع من خلال تلك القسوة والصلابة أن يضحكنا علي شخصية الطاغية الذي لا يري إلا نفسه ويقتنع بأنه ظل الله علي الأرض.. بينما هو في واقع الأمر أقرب للحمقي والمجانين, وقدمت الفنانة سوسن بدر دور صهباء صاحبة الحانة ودور الملكة شجرة الدر القوية المؤمنة بشعبها والتي قررت عندما حاصرها الخونة قبل اغتيالها ان تطحن تاج الملك وتلقي به من شرفة القصر لجموع المصريين المحتشدين لتحيتها حتي لا ينزع التاج من لا يستحقه وحتي يعود الحكم الي الشعب صاحب الفضل علي كل الأمراء والحكام, وفي هدوء وثقة وبصوت يرتجف من المعايشة والصدق تصف سوسن بدر مشاعر الملكة المصرية شجر الدر لتؤكد أنها هي الأخري ملكة عرشها هو خشبة المسرح وتاجها هو استقبال الجماهير لأدائها البسيط والمقنع. وقدم شادي سرور نفسه ممثلا في دور الوزير الأول ابن العلقم الذي يقف منافسا لاثنين من غيلان المسرح ـ بحد التعبير السائد.. لكنه يصمد بينهما بل ويجاريهما في انتزاع الضحكات الذكية دون الخروج عن طبيعة الشخصية, أما النجمة المتألقة لقاء سويدان فهي تحمل بكل تأكيد مقومات الفنانة الاستعراضية الشاملة والجادة في الوقت نفسه, حيث تؤدي الاغاني بإحساس مرهف ودون تطريب علي رغم أنها في الأصل مطربة كما تتحرك في الرقصات برشاقة كالفراشة.. وعلي مستوي التمثيل استثمرت تعدد أدوارها بين ريحانة فتاة الحانة, وزوجة الملك لويس التاسع وأم علي زوجة أيبك الأولي, ومترجمة هولاكو قائد التتار لتبرهن علي حجم موهبتها وقدرتها علي التنويع من الأداء والخروج من شخصية لأخري بمنتهي المهارة والذكاء.. وقد اسهمت أشعار سامح العلي في تعميق رؤية المؤلف, بل لا نبالغ إذا قلنا إن اشعار سامح قد اضافت للنص أعماقا ومساحات من الجدل ضاعفت من قيمته الفكرية, فضلا عن متعة الأغاني في ذاتها.. ولم تكن هذه الأغاني لتؤدي دورها لولا تفهم وتشرب الموسيقي لها, وهنا يجب أن نشيد بألحان وغناء الفنان المبدع سامح عيسي.. ويبقي في النهاية أن نؤكد عودة المسرح القومي قريبا بإذن الله الي مجده القديم بفضل وجود مجموعة كبيرة من الشباب الموهوب جدا,والذي يحتاج إلي مزيد من العروض تكشف عن قدراته وكنوزه الكامنة, وهم أحمد عثمان هولاكو ومجدي رشوان أيبك وهشام الشربيني قطز وحمدي حسن الباحث عن حذائه الضائع, ونجوم المستقبل اسماعيل جمال وعمرو بهي ووليد الهندي ومحمد عبد العزيز واحمد يوسف.. والمسرحية تؤكد باختصار ان كل الحكام المغرورين المدججين بالحرس قد سقطوا بينما عاشت أرض المحروسة شاهدة عليهم.

 

http://www.ahram.org.eg

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *