الاتصـــــــال التمثيـــلي والمكــــان

يُعد الاتصال في الواقع أساس وركيزة وجود المجتمع الإنساني ، فلا ينشأ مجتمع إنساني إلا بتواصل أفراده في حدود الرقعة الواحدة، ومعرفة معنى الاتصال في وجودهم المشترك  الذي يتداخل فيه

 

الاستيعاب الإنساني لمعطيات المكان ، وعلاقة الإنسان بالآخر بوساطة تطوير أسلوب التفاهم والتقارب بين المجتمعات يهدف إلى التعايش والترابط عبر وسيط الاتصال المستند على خصائص  وطبيعة ذلك المجتمع.  
فالمعطى النفسي للمكان في عملية الاتصال يُحدد ملامح بيئة العرض المسرحي بوصفه حياة في حالة تجربة ، يمكن تقبلها أو رفضها تبعا للأهداف والدوافع، والتعامل الخاص للممثل مع المكان هو الأقرب إلى هذا المفهوم ، إذ يكون التصوّر التجريبي للممثل مع المكان على نحو فعلٍ تمثيلي له دوافعه وأهدافه ، وهو أمر لا يكون عشوائيا ومن دون سيطرة ، بل يحتاج إلى مقدار من المعالجة الإدراكية والجسمانية التي تسمح للممثل أثناء اتصاله بالمكان من تحويله من موجود قبلي يعيش في الذاكرة  إلى منتج بُعدي يتم الحصول عليه بوساطة التمارين التي تبيـِّن أو تقيس مقدار الميل أوالتعايش العقلي والعاطفي لدى الممثل اتجاه المكان. 
وثمة نظريتان تعبِّران عن حالة التواصل أو الانفصال عن المكان ، تقول الأولى إن المرء يتخيّر من محتوى الوسائل ما يتوافق مع حاجاته النفسية العقلية، وتقول الأخرى إن عقل المرء يرفض ما يتناقض ومحتواه من المعرفة ويتقبّل ما يتفق ومحتوى العقل، وبالتالي  فان عمليات  التكرار التي تقوم عليها التمارين ليست إلا سبيلا يُراد منه الحصول على الضبط التلقائي لعمليتي التعلم والتذكر الأمر الذي يجعل من الاستجابة التمثيلية حاضرا مستمرا غير منقطع ينتقل بالممثل من حيزه الخاص ( الشخصية ) إلى الاتصال بالحيز العام للموقف التمثيلي (البيئة المسرحية ) وعندما يبدأ الممثل بنقل استجابته تلقائياً إلى العالم الخارجي ( الفضاء المسرحي ) التي تتخذ صورا للأداء متنوعة ، فوجهها المنظور هو الحركات ، ووجها المسموع هو الكلمات ، أما وجهها النفسي فهو العواطف ، فالمجهود أو النشاط التمثيلي هو مجموع العلاقات التي تتخذ طابعا اجتماعيا محددا نتيجة لتحوِّل نشاط الممثل إلى فعل اجتماعي يؤثر بطريقة ما على أداء الممثل الآخر.. وللحصول على أداء تمثيلي فعال ينبغي تعرُّف الممثل على مبادئ إنتاج الأداء التمثيلي وعلاقته بالمكان ،  فالمفهوم الاجتماعي  للعلاقة المتبادلة بين الممثل والمكان تدخل في باب التفاعل الرمزي،  فالممثل (actor) يقوم بدوره الاتصالي مع المكان بوصفه عنصرا يساعد على التناغم الجسماني وتوازنه مع الموجودات المادية والبشرية على خشبة المسرح ، لذلك يكون للمكان في العرض المسرحي ضوابط تكوينية تؤثر على سلوك الممثل معه ، فالسلوك المكاني لدى الممثل هو التفاعل مع المحيط بما يحتويه من أشياء ، وأن سبب تحقق العلاقة بينهما هو وقوع المكان ضمن الجهاز الإدراكي الحسي ، حيث تعمل الطبيعة الإدراكية للإنسان (الممثل) على تحويل المثيرات الحسية وليس نقلها فقط كما هو موجود لدى الحيوان ، وهذا التغير في طابع المثيرات الحسية ، له ما يقابله لدى الممثل مع المكان  فهو يقوم بتحويل الصورة المادية الثابتة للمثير الحسي (المكان) إلى مستوى فضائي له خصائصه الدلالية الجديدة والناتجة عن انطباع أو استعمال أو علاقة الممثل معه ، ويمكن أخذ مثال على ذلك غابة (برنام) من مسرحية (مكبث) أليست هي مكاناً للخضرة ومسكناً  لبعض الحيوانات – كما هو معلوم لدينا- لكنه يتحوّل بدلالته حين نكتشف أن الغابة محض جنود تتحرك باتجاه القصر ، لذلك نرى مكبث يصيح : هذه غابة برنام تأتي ..” تسلحوا ، تسلحوا ، تسلحوا  ” إذن يكون المكان أمام الممثل مدخلا فنياً يتم نقل صورته من الحالة الفيزيائية المحددة إلى فضاء تعبيري  يساعد الممثل على تنظيم وحدات أدائه وبحسب فترات زمنية محددة ، ولأننا لا يمكن أن نرى الأشياء من دون مكان حاوٍ لها ، لذلك تكون الموجودات المسرحية بمثابة السبب أو الباعث النفسي في جعل العلاقة مع المكان متوازنة وفعالة ، وهذا الاتصال بالمكان المسرحي لا يقصد به خلق الإيهام المسرحي أو جعله غير حقيقي لدى الممثلين ، بل يُفسَّر بأنه ترابط سببي وواقعي ملموس بين الممثل والمكان يخضع لتصورات المعالجة المسرحية . 
وعلى الرغم من اختلاف أشكال الخشبة المسرحية – العلبة والمسرح المقتحم والحلبة والبيئة – فان العلاقة بين الممثل والمحيط التمثيلي لا تتبدل أو تتغير ، لأن الممثل على خشبة المسرح يتأثر بأي شيء موجود في محيطه وهو بهذه السيطرة في التعامل مع المكان يكون معه في لحظة مباشرة تجعل من اتصاله واحداً بغض النظر عن اختلاف خشبة المسرح ، وبخلاف هذا التوجه الأدائي فأن الممثل يبتعد عن اللحظة الأدائية والقيام بالدور والتحكم بردود أفعاله تجاه المثيرات الخارجية المادية والبشرية على خشبة المسرح ، لذلك يُفترض بالممثل حين يتصل بالمكان أن يعتقد بالتعايش مع فكرة المكان التي تسمح له بضبط تعامله التمثيلي مع الفضاءات المكانية المتغيرة أثناء الأداء بوساطة علم الحركة والإيقاع، لذلك حين يتعامل الممثل مع المكان كونه ضرورة فنية وليس مساحة فيزيائية ثابتة ، فانه يتحوّل إلى مكان لإبداع العرض المسرحي يتخذ شكلا مسرحياً مباشراً أمام الجمهور .

 

د. جبار خماط حسن

http://www.almadapaper.net

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *