رؤية ما لا يُرى

تبدو مشكلة التنبيه المسرحي في أول وهلة بسيطة، إذ يصعب أن يخطر ببال أحد أن ينكر ضرورة سيطرة الممثل على انتباهه سيطرة مطلقه تجعل منه سيد المشهد الذي

 

يؤديه أمام الجمهور، فالظروف الخاصة بالفن التمثيلي تضع أمام الممثل مطالب عديدة لا يمكنه الإيفاء بها من دون أن يمتلك زمام تنبهه بصورة مطلقة، إذ عليه أن يخضع جميع تصرفاته على المنصة للمتطلبات المسرحية والمرونة والإيقاع وجمال التركيز، وعليه أن ينسق تصرفاته وحركاته وإيماءاته مع تصرفات زميله على خشبة المسرح، ومع ما يحيط به من أشياء حتى الاكسسوارات وحركة الإضاءة ونوع الملابس وشكل المناظر والاكسسوارات. وعليه أيضا أن يأخذ بالحسبان فعل الجمهور وانتباهه لكل حركة من حركاته بأقل ما يمكن من الوسائل التعبيرية، فهل يستطيع الممثل في أي نوع من أنواع المسرح أن ينفذ كل هذه المتطلبات الذي يجد فيها مخرجو المسرح المعاصر العناصر الأساسية في بناء ممثل مسرحي متطور؟

يرى بوريس زاخوف أنّه إذا لم تكن عينا الممثل وأذناه جاهزتين لتلقي كل ما يدور حوله على المنصة بأشد ما يكون من الحدّة، فإنه لن يتمكن من الالمام باللحظة المسرحية، وليس بإمكانه أن يكون في صورة الموقف والمشهد المسرحي والصورة البصرية كما ينبغي أن تكون، وهكذا يبرز سؤال عن الاختيار الصحيح للموضوع الذي نحن بصدده، لكننا في واقع الأمر نعرف أن الممثل يضم في ذاته المبدع وإبداعه، أي الشخصية المسرحية، إذ تعيش هذه الشخصية حياتها، ويتجه انتباهها في كل لحظة معينة بحسب منطق حياتها الى هذا الموضوع أو ذاك، أما الممثل فبصفته إنسانا ومبدعا يعيش اهتماماته المختلفة عن اهتمامات الشخصية، فعلى سبيل المثال لا الحصر يريد الأمير هاملت في تراجيدية شكسبير الشهيرة «هاملت»، أن يمسك بعمّه الملك «كلوديوس» متلبسا بجرمه في قتل أبيه بمعاونة أمّه جرترود، أما الممثل الذي يؤدي دور هاملت فيريد أن يؤدي المشهد المشهور على أفضل وجه ليعجب الجمهور، فكيف يمكن أن تجتمع اهتماماتهما كلاهما في شخص واحد في الممثل؟ أيجب أن يركّز الممثل وعيه على هذا الموضوع أوذاك بوصفه شخصية مسرحية؟ أم بصفته ممثلا؟

أنواع التنبّه

من المستحيل على الانسان المستيقظ أن يكون في وضع لا ينشغل فيه انتباهه بهذا الموضوع أو ذاك، حتى في اللحظات التي نستريح فيها ونتصور أن انتباهنا غير مشغول بموضوع محدد، فإنه لا يبقى لحظة واحدة بدون نشاط. فقد يكون الانتباه سطحيا، وقد ينتقل من موضوع لآخر، بدون أن يتركز على أي من هذه المواضيع، ومن الممكن أن لا يرتبط الانتباه بهدف معين، لكنه على أية حال موجود في كل لحظة.

ولا بد لنا من أن نذكر هنا أننا نصادف باستمرار علاوة على الانتباه الارادي (الايجابي) واللاإرادي (السلبي) في شكلهما الخالص، تحوّل أحدهما الى الآخر أيضا، فإن الموضوع الذي يثير انتباهنا اللاإرادي، في البداية يستطيع أن يصبح بيسر موضوع تركيزنا الايجابي ممتعا بالنسبة لنا بدرجة لا نعود معها نحتاج الى جهد لاإرادي لإبقاء انتباهنا مسلّطا عليه، وبذلك يتحوّل الانتباه من إرادي الى لا إرادي، لكن الانتباه اللاإرادي الذي تحدثنا عنه سابقا ووصفناه بأنه وضع الجسد الآلي الذي يستطيع فيه استقبال الموضوع أفضل استقبال، فإذا اعتبرنا التركيز اللاإرادي الذي يتم آليا أول درجات الانتباه والارادي ثاني درجات الانتباه، فإن الانتباه اللإرادي في الحالة الأخيرة هو ثالث درجات الانتباه أي أرقى أشكاله.

يمكننا تمييز نوعين من الانتباه الداخلي والخارجي، بناء على صفة الموضوع، وسنسمّي الانتباه المرتبط بمواضيع خارج الانسان نفسه، انتباها خارجيا، وهكذا فإن مواضيع الانتباه الخارجي يمكن أن تكون الأشياء (الحيّة أو غير الحيّة) والأصوات المحيطة بنا، ويمكن ان يكون الانتباه الخارجي بصريا أو سمعيا أو لمسيا أو ذوقيا، نسبة الى العضو الذي يحصل بواسطته، ومن بين هذه الأنواع الخمسة للانتباه الخارجي هناك نوعان اثنان يهتدى الى ما يحيط به بصورة رئيسية بالبصر والسمع ومواضيع الانتباه الداخلي هي الأحاسيس التي تولدها محفزات داخل الجسم (كالجوع والعطش وأحاسيس الألم) كما تولدها أفكار ومشاعر الانسان وكذلك الصور التي تبدعها المخيلة او الخيال الفني والانتباه الخارجي هو انتباه لاإرادي (سلبي) دائما لكنه لا يبقى مرتبطا بموضوع معين سوى هنيهة قصيرة جدا، فهو إما أن ينتقل الى موضوع آخر، وأما أن ينضم الى الانتباه الداخلي المشروط بعملية التفكير، وعند ذلك يكتسب التركيز الصفة الإيجابية.

مواضيع التنبيه

يحدث أن الممثل الذي تنقله التجربة ولا يعرف قوانين فنّه ولا يملك ناصية التكنيك الداخلي ينجذب انتباهه اليه، من ضمن المواضيع التي تجذب انتباه الممثل بدون ارادته، بل حتى بالرغم من إرادته يبرز المتفرج قبل كل شيء، فمستقبل الممثل في أيدي أولئك الموجودين في صالة المتفرجين، ومع أن الممثل الحقيقي لا يصرف نظره الى المتفرج فإن صالة المتفرجين، وهذا أمر في غاية الخطورة، تعيش وتتنفس، وتنفسها يثير الممثل بطريقة لا يمكن تصوّرها، حتى لكأن هذا الممثل في هذه الحالة موجود على المنصة فيزيائيا خارجيا، إما بمشاعره وبأفكاره فهو موجود كليا في الجهة الاخرى.

وكلما أولى الممثل اهتمامه بمراقبة نفسه على المنصة، وأن يعمل على مراقبة نفسه وأن يخضع تصرفاته المسرحية لرقابة وعيه، ينجح في أن يصبح موضوع انتباهه هو شخصه وتصرفاته ومعاناته الشخصية على خشبة المسرح، بمقابل ذلك يجب أن يعرف الممثل أنه عندما كان مركزا انتباهه نحو صالة المتفرجين، كان يحقق فقط انتباها «خارجيا» لكنه في العملية السابقة نجح في تحقيق انتباها «داخليا»، لكنه الآن أصبح واعيا تماما لما يقوم به على المسرح، كأن العالم الخارجي لم يعد موجودا بالنسبة له، إنّه لا يدري أيسعل المتفرج أم يضحك، إنه لا يرى ولا يسمع حتى ما يدور على المنصة، وجه زميله في مشهد يسبح في الضباب، وصوته يأتي من مكان بعيد، لكن معنى كلامه لا يصل الى وعي الممثل، وعندما يبتقي الممثل زميله على المنصة وهو على هذه الحالة، فهو لا يعامله بوصفه شخصية مسرحية يجب أن يتصرف معها بهذه الطريقة أو تلك، بل يعامله بوصفه ممثلا، أي بوصفه رفيقه في المشكلة والمصاب، وهكذا يجذب انتباه الممثل الى ثلاثة هم: المتفرج، الممثل نفسه، الزميل.

والآن لنسأل أنفسنا هل هذه المواضيع مرغوب بها من وجهة نظر قوانين فن التمثيل؟ كلا بالطبع، لكنها تحاول دائما جذب انتباه الممثل غير المجرّب الذي لا يعرف بم وكيف يجب أن يواجهها، على أية حال يتعين أن نسلّم بأنه حتى الممثل المجرّب الذي يعرف قوانين فنّه، عندما يكون على المنصة يكون دائما عرضة لخطر سيطرة هذه المواضيع المضرة بالإبداع، وبخاصة في تلك الحالات التي يخضع فيها الممثل المجرّب عندما يؤدي دورا مهما يشعر بنفسه في العرض الأول مبتدئا ينكمش قلبه وتتقلص عضلاته ويتخشّب جسده، ولا يستطيع تركيز جل انتباهه على الموضوع بسهولة، هذا في الواقع ما يحصل للممثلين المجربين عندما يكون المتفرجون مهمّين بشكل خاص بالنسبة لهم.

التّشنج والتركيز

إن حالة الممثل التي أشرنا إليها تأخذ في الغالب شكلا من أشكال القوة المسيطرة النفسية الفيزيائية، أي أيضا يعرفون مثل هذه المشاعر، فقليل من الناس يستطيع أن يدّعي أنّه لم يجرّب هذه المشاعر مطلقا، فلنتذكر وجوه الشباب المحتقنة المتوترة والتي تتصبب عرقا عند أدائهم الامتحانات، أو الآلام المضنية التي يعانيها الخطيب غير المجرّب، وهو يخطب في حشد كبير من الناس، أو تصرفات الشاب لحظة مفاتحة حبيبته بمشاعره، أو معاناتنا نحن عندما نكلّم شخصية مشهورة.. إن صفات هذه القوة المسيطرة النفسية، الفيزياوية، غير المريحة هي «تشنّج الجسد، الارتباك، الخجل، وحتى الخوف أحيانا، مع شدّة نبض القلب، فقدان القدرة على التفكير المتسلسل والتحكم بالانتباه»، وكلما حاول الانسان أن يخفي حالته عن الآخرين، وحاول أن لا يبدو مباليا و»بالغ في التمثيل» الهدوء والاستقلال أصبحت حالته البائسة أكثر وضوحا للمحيطين به، وازداد بؤسا وعجزا، وعندما تتملك هذه الحالة الممثل وهو على خشبة المسرح فإنه يصبح طبعا عاجزا تماما عن الابداع، فهو في حالته هذه لا يستطيع التركيز على أي هدف إبداعي، وكل طاقاته تذهب لخدمة هذه القوة المسيطرة المدمرة، وكل رد فعل للجمهور وكل ما يحدث على المنصة يجعل الممثل وهو في هذه الحالة يشعر بالضيق والاكتئاب، فإذا كان عليه بحسب أحداث المسرحية أن يملأ «قدحا» من ماء ، تجده لا يصبر حتى يمتلئ القدح.

ومن الملاحظ في مسرح الهواة، أنهم لا يملأون أقداحهم تماما بل يكتفون بملء نصف أوثلثي القدح، وعندما تتملك الممثل هذه الحالة فإنه يفقد السيطرة والقوة على تنفيذ أبسط فعل فيزيائي معتاد، مثل ارتداء الرداء أو حتى ضبط قناعه، ويحاول في مثل هذا الموقف أن يجد له شيئا يستند عليه، وأكثر ما يخافه الممثل أن يبقى وسط المنصة دون حماية كاملة.

والآن كيف يجب أن يصارع الممثل هذه القوة المسيطرة السلبية المدمرة لإبداعه؟ وكيف يستطيع التغلب عليها؟ يقول خبراء المسرح: عليه في مثل هذه الحالة أن يربّي في داخله (ترياقا) يستطيع أن يواجهها بنجاح، ويزاحمها ثم يطردها تماما، لكن التغلب على القوة المسيطرة ممكن فقط بقوة مسيطرة أخرى أشد بأسا، وهذا الغرض يجب أن يخلق في نفسه ووعيه بؤرة اهتمام وإثارة تكفي قوتها لاستقطاب الطاقة العصبية التي اختزنت في أثناء عملية المعاناة الصعبة المرتبطة بالقوة المسيطرة السلبية، إن التركيز الايجابي هو بؤرة الإثارة والقوة المسيطرة الجديدة الإيجابية والمؤاتية للإبداع.

الاختيار الصحيح

يجب على الممثل أن يربّي في نفسه القدرة على اختيار الموضوع الذي يستقطب انتباهه في كل لحظة معينة، ويقول رائد فن التقمص قسطنطين ستانسلافسكي في كتابه الشهير «إعداد الممثل»: «عندما كان أحد الممثلين المشهورين يزور موسكو، حضرت أحد عروضه المسرحية، ومن خلال مراقبتي له وهو على المنصة، أحسست من خلال كوني ممثلا بأني قد جرّبت الحالة التي يعيشها في هذه اللحظة، أي حالة تحرر العضلات عن طريق التركيز الشديد العام، كنت أشعر أن كل إهتمامه وانتباهه محصور في الجهة الاخرى من الأضواء الأمامية، وليس في جهة صالة المتفرجين، وأن تركيزه لكل انتباهه على نقطة واحدة هو الذي جعلني أهتم بحياته على المنصة وأنجذب نحوه لمعرفة ما الذي يشغله هناك بهذه القوة؟ لقد فهمت في تلك اللحظة أنّه كلما زاد الممثل محاولة تسلية المتفرج بقي الأخير لا مباليا متكئا الى الخلف ينتظر أن يسلّيه بدون أن يحاول المشاركة في عملية الايهام المسرحي والابداع، لكن عندما يتوقف الممثل عن الاهتمام بالمتفرجين فإنهم سينجذبون نحوه وخصوصا إذا كان مشغولا بشئ مهم بالنسبة لهم أيضا».

إن أول مطالب ستانسلافسكي على ما يبدو من الممثل هو أن يبحث عن مواضيع لانتباهه في جهته من الأضواء الأمامية لا في جهة القاعة، أي على المنصة لا في قاعة المتفرجين، لكن كيف نعيّن بالتحديد على أي شئ يجب أن يكون اهتمام الممثل مركزا في اللحظة المعينة؟ من المستحيل العثور على هذا الموضوع بدون أن نفهم ونشعر مسبقا بما يدور في وعي البطل في هذه اللحظة، وانطلاقا من معاناته فقط، يمكن فهم ما يهمّه في ما يحيط به، أي موضوع انتباهه في هذه اللحظة.

وانطلاقا من ذلك يمكننا القول: إن على الممثل أن يركز في كل لحظة على ما تركز عليه الشخصية المسرحية بحسب منطق حياتها الداخلية، فمثلا إذا كانت الشخصية المسرحية في هذه اللحظة تنفرج عن منظر طبيعي من النافذة، فإن على الممثل أيضا أن يركز إيجابيا على ما يراه من النافذة، وإذا كانت الشخصية في هذه اللحظة تنصت لما يقوله محدثها.

فعلى الممثل أن يركز انتباهه على كلمات وأفكار ما يقوله شريكه في المشهد، وإذا كانت الشخصية تتأمل وتتذكر ضمن تكنيك الحدث الاسترجاعي، فإن على انتباه الممثل أن يكون مركزا على موضوع داخلي على شكل دائرة معينة من الأفكار أو ذكريات، وبهذه الطريقة تحلّ مسألة اختيار الموضوع.

التنبيه المتصل

عندما ينهض الإنسان صباحا في الحياة الحقيقية يرتبط انتباهه فورا بهذا الموضوع أو ذاك، ارتباطا إراديا أو لاإراديا، ومنذ هذه اللحظة لا تنقطع عملية انتباهه ثانية واحدة طوال اليوم وحتى لحظة استغراقه في النوم من جديد، وهكذا فإن العملية لا تجري بحيث يتحول الانتباه من موضوع معين ثم يبقى سائبا بدون موضوع برهة معينة ثم يرتبط انتباهه فورا بهذا الموضوع أو ذاك، وهكذا فإن العملية لا تجري بحيث يتحول الانتباه من موضوع معين ثم يبقى سائبا بدون موضوع برهة معينة ثم يرتبط بعد ذلك بموضوع جديد، أحيانا يطرد الموضوع موضوعا آخر ببطء شديد نتيجة لصراع معين، وفي أحيان أخرى يجري تحويل الانتباه فورا بسبب محفّز قوي فجائي، لكن عملية الانتباه ذاتها تجري بدون انقطاع إذا استثنينا الحالات المرضية، عندما تصاب آلية الانتباه بعطل ينشأ عن هذا السبب أو ذاك.

ولهذا على الممثل أن يعرف كيف يحافظ على خط انتباه الشخصية المعينة متصلا، إذا كان يريد أن يصوّر على المنصة تصرفات إنسان طبيعي حيّ بطريقة مقنعة، وعلى أن يعرف كيف يحوّل انتباهه من موضوع الى آخر بدون انقطاعات أو تغيرات في هذه العملية التي تنمو بلا انقطاع، فما أن يقطع الممثل خط إنتباه الشخصية التي يمثّلها حتى يدخل في الثغرة المتكونة من جراء ذلك.

التقمص الابداعي

كلمات (خليستاكوف) الأولى تعطينا أساسا للتفكير بأنه يبحث بعد دخوله مباشرة عن وسيلة لإشباع جوعه، ولهذا فمن الطبيعي أن نفترض أن انتباهه موجّه الآن الى الداخل، أي الى الأحاسيس المزعجة في معدته، الانسان في هذه الحالة يبدو (ساهما) يستجيب للمحفزات الخارجية ببطء ولا يلاحظ تقريبا ما يحيط به، ويمكننا أن نتصور ببساطة أن (خليستاكوف) الذي تعذبه الاحاسيس المزعجة في جسده قد وصل آليا الى البيت، وربما نسي وجوده في هذه اللحظة، عندما كان ينتظر خادمه الفلاح (أوسيب) ليفتح له الباب، وبهذا فمن المنطقي جدا أن لا يدخل مباشرة بعد فتح الباب ويبقى واقفا عند الباب متكئا عليه، ربما يكون وجه (أوسيب) الغاضب هو الذي أخرجه من حالة الغيبوبة، لكنه لم يعطه الراحة، بل على النقيض فإن هيئة (أوسيب) قد قوّت عند (خليستاكوف) الشعور بالضياع، وبعد ذلك يمكن أن يدخل الأخير الغرفة ثم يتوقف في وسطها ناسيا من جديد مكان وجوده في هذه اللحظة، وهاهو نظره يطوف بالجدران الوسخة والأثاث البائس بدون أن يرى شيئا، ثم يخلع قبعته ويقلبها في يده، وأخيرا تصبح هذه القبعة هي موضوع إنتباهه، ويدرك أن عليه أن يسلمها له، فيمد يده بها من دون أن ينظر اليه، ويقول له (خذ هذه) لكن أوسيب لا يرى ذلك أو يتباطأ في تنفيذ الأمر، لهذا يقف صاحب القبعة عدة ثوان بيد ممدودة، ثم يغوص في نفسه من جديد، لكن أوسيب يأخذ القبعة أخيرا بدون إهتمام وبفظاظة، مما يخرج الرجل من حالة الاستغراق في الذات ويصبح (أوسيب) موضوع إنتباهه الجديد لعدة ثوان، ثم تولد فكرة «حيوان» كيف تجرؤ، لكنه لايجد الطاقة الكافية للفظ كلمة حيوان بصوت قوي مسموع، ومع الوقت أصبح الانتباه الخارجي الذي استيقظ الآن يدرك ما يحيط به فيقع تحت طائلة التفكير فقط في أوسيب الذي يصبح موضوع انتباهه الأول، فهو يعنّفه بدون أن يستمع الى أعذاره، لأن انتباهه انصرف الى الداخل من جديد، لكن الانتباه الداخلي تحوّل هذه المرّة من سلبي الى إيجابي، لقد انبثق في وعيه سؤال ملحّ كيف يمكن التغلب على الجوع أخيرا؟

فكّر (خليستاكوف) وفي ذات المشهد المسرحي بالتبغ، لكنه قبل أن يصل الى قرار سأل (أوسيب) هل يوجد لديك تبغ؟ غير موجود طبعا، (لا داعي للسؤال أصلا، إذا ما العمل؟ يرن السؤال في وعيه)، في هذا المكان يقول المؤلف عن بطله في سرد وصفي بديع: «يمشي وهو يزمّ على شفتيه بأشكال مختلفة». وهنا تكمن أهمية تركيز الانتباه وتنقله من موضع الى آخر، حيث يفكر في إرسال أوسيب لشراء التبغ، ثم يدور بينهما حوار، حتى يخرج أوسيب لشراء التبغ، فإذا استطاع الممثل أن يكرر عملية الانتباه التي صنعها بطل هذا المشهد المسرحي بدون انقطاع، فإنه يكون قد اقترب كثيرا من روح وداخل الشخصية، أي إذا أراد الممثل أن يصبح الشخصية المسرحية، فعليه قبل كل شيء أن يجعل مواضيع انتباه الشخصية مواضيع انتباهه هو، وعندما يستعيد خط انتباه الشخصية المتصل فإنه يكون قد ألف وعاش الشخصية والتحم معها بدرجة معينة وهذه أولى درجات الطريق الى التقمص الابداعي الذي يحقق عنصر الإيهام لدى المتفرج الذي يصدّق كل ما يشاهده على خشبة المسرح.

رؤية الغائب

يبدو أن سؤالا يعترضنا: كيف يستطيع أن يجعل مواضيع انتباه بطل المسرحية مواضيع انتباهه هو، إذا كان المنظر الذي يراه هو غير المنظر الذي يراه البطل؟ أجل هل يرى الممثل الذي يؤدي دور بطل المسرحية (خليستاكوف) خادمه الفلاح البسيط المسن (أوسيب)، كلا إنه يرى ممثلا حوّله الماكياج الى رجل عجوز. أما الممثل الذي يؤدي دوره، فيمكن أن يكون شابا (خليستاكوف) الذي صنعه كاتب المسرحية (غوغول)، ينظر الى أوسيب ويرى التجاعيد على وجهه، أما الممثل الذي يؤدي دور خليستاكوف فيرى الماكياج على وجه زميله لا التجاعيد، إنه يرى خطوطا مرسومة بالاصباغ، وهذه الخطوط تشبه التجاعيد الحقيقية عند النظر اليها عن قرب.

في التحليل الفني لفن الانتباه، موضوع إنتباه خليستاكوف هو معدته الخاوية، في حين أن الممثل الذي يؤدي الدور يكون في حالة شبع، أي أنه إذا جعل معدته موضوعا لانتباهه فإن هذا الموضوع سيختلف جذريا عن موضوع انتباه (خليستاكوف) وهذا في الواقع ما يحدث مع كل ممثل في كل دور مسرحي، فإذا قررت مثلا أن الشخصية، بناء على منطق حياتها الداخلي، تركز في هذه اللحظة على منظر رائع تتفرج عليه الآن من خلا نافذة الغرفة، فإن الممثل في الواقع لا يرى ولا يمكن أن يرى أي منظر رائع، فهو عندما ينظر من خلال نافذة (الديكور) لا يرى سوى سقط المتاع الموجود خلف الكواليس في كل المسارح. فكيف إذن سيستطيع الممثل تنفيذ الواجب المطلوب منه بأن يركز على مواضيع انتباه الشخصية، ما دامت مواضيع الانتباه عند الشخصية والممثل مختلفة؟ الشخصية ترى منظرا رائعا ساحرا وصورة شاعرية، أما الممثل الذي يؤدي هذه الشخصية فيرى ما خلف الكواليس المعتمة المملة، هذا هو السؤال الأساسي في فن التمثيل، وفيه سرّه ولغزه السحري، فلنحاول معا الكشف عن هذا اللغز المسرحي.

من أسف هناك العديد من كبار العاملين في حقل المسرح، الذين يضيفون كثيرا من التشويش لهذه المسالة الدقيقة في مجال التمثيل الابداعي، حتى أن بعض مدرسي المسرح يقدمون لطلابهم في أحيان كثيرة نصائح عملية ضارّة، علاوة على الأفكار النظرية الخاطئة، إن أكثر الحلول مضرّة من حلول هذه المسألة مع الأسف هو الحل الشائع الذي يطلب من الممثل أن يرى ما ليس موجودا في الحقيقة! مثلا قد يواجه الممثل وجه امرأة مسنّة غير جميلة في دور البطلة الحسناء الشابة الفائقة الجمال مثل (أوفيليا) حبيبة الامير هاملت، أو البريئة الرائعة (جولييت) حبيبة روميو، أو أن يرى الممثل امرأة ساحرة بدل شريكته غير الجميلة وهكذا، وهذا غير صحيح على الإطلاق، فلا يجوز أن نطلب من إنسان صحيح لا يعاني من أمراض الهلوسة أن يرى ما هو غير موجود في الواقع، كمثل أن يطلب من احد الممثلين أن يمثل دور (الدخان المتصاعد)، وهنا يجب أن نتفق قطعيا بأن على الممثل أن يرى ويسمع ويلمس ويشمّ، أي أن يدرك محيطه المسرحي في ذلك الشكل، تماما كما هو موجود على المنصة، ولهذا يجب أن تكون حواس الممثل معبأة دائما وفي صحة تامة، وهكذا فإن إنتباه الممثل يجب ان يكون مركزا على مواضيع حقيقية تماما، وليست مواضيع مفترضة أو متخيلة، في هذه الحالة فقط يقبل المتفرج الممثل بصفته إنسانا حيّا، وبصفته شخصية مسرحية.

من جانب مقابل لنفترض ان الممثل بدأ يتصور ما لا وجود له، أي أن يتصور أشياء غير موجودة في الواقع، في هذه الحالة سيشهد كل وجوده من تعابير وجهه وعينيه الى كل تصرفاته على فعل التخيل، لا على فعل التركيز على موضوع حقيقي، لأن تعابير الوجه عند الانسان الذي يرى شيئا حقيقيا تختلف جذريا عن تعابير الانسان الذي يتصور شيئا ما، في حين أن علينا أن نقنع المتفرج بأن الممثل بوصفه شخصية مسرحية يرى موضوعا محددا حقيقيا تماما لا أن يتخيل اشياء غير موجودة لناظريه في الواقع.

ولنأخذ مثلا آخر، نفترض أن على الممثل أن يؤدي مشهد مفاتحة بالحب، وأن شريكته في المشهد المسرحي لا تعجبه بأي قدر كان، وانطلاقا من نظرية أن على الممثل أن يرى على المنصة ما هو غير موجود (المتخيل) فإن الممثل لكي يخرج من مشكلته هذه يستطيع أن يسلك ببساطة الطريق الآتي:

بدلا من أن يفاتح الممثلة التي أمامه والتي لا يشعر نحوها بأية مشاعر إيجابية سيحاول (تخيل) المرأة التي يحبّها فعلا بدلا من الممثلة الماثلة أمامه، ولنفترض أنه نجح في ذلك وشعر بما يعانيه العاشق، لكن هل سيقتنع المتفرج؟ وهل سيحصل على ما يجب أن يحصل عليه؟ بالطبع لا، فما الذي يجب ان يحصل عليه المتفرج؟

عليه قبل كل شيء أن يصدّق أن البطل الماثل أمامه مغرم بالمرأة الموجودة حقيقة على المنصة، أي تلك التي يراها المتفرج لا الغائبة أو (المتخيلة) علما بأن المتفرج يعرف جيدا أن كل عاشق مستعد للنظر الى وجه معشوقه بشغف، حتى أنه ليبدو عادة لا يستطيع أن يرفع بصره عنه، لأن كل ملمح من ملامح وجه الحبيب عزيز عليه. لهذا فإن المتفرج سيصدق حقيقة الحالة المفترضة ومشاعر الممثل الحيّة فقط عندما يرى الممثل يستمتع حقيقة بالنظر الى وجه شريكته وأنه يقصدها بكل كلماته ومشاعره، لذا على الممثل في أقل تقدير أن يرى شريكته، أما إذا كان يتخيل بدلها إمرأة أخرى فسيفهم المتفرج فورا ان الممثل لا يحب شريكته على الاطلاق، وهكذا تكون النتيجة نقيض المطلوب!

لو إستطاع الممثل في مثلنا السابق أن يقبل شريكته كما هي، أي أن يراها حقيقية، وجهها، عينيها، فمها، شعرها، أنفها، ملابسها، واضاف الى هذا المركب الخارجي شيئا من الانطباعات البصرية، علاقة كتلك التي يكنّها لامرأة يحبها في الحياة الحقيقية، فإن النتيجة ستكون بالتأكيد هي النتيجة المطلوبة.

ليس واجب الممثل في أن يتصور إمرأة أخرى جميلة، مكان الممثلة الأقل جمالا، بل في أن يجد في شريكته ما يجعله ينظر اليها بعيون عاشقة، هذه هي الصيغة التي توضح طبيعة الانتباه المسرحي وتعبر عن جوهره كما يقول فاختانكوف: «عين الممثل وهو على المنصة يجب أن ترى كل شيء، ماكياج الشريك وما الى ذلك كما هي في واقع الأمر، وهذا ينطبق على السمع وملاحظة أدق الإيماءات والإشارات والحركات والمناظر، فرؤية أشجار حقيقية مكان الغابة المرسومة ممنوع، فهذه هلوسة بصرية، على الحدقة الحيّة لعين الممثل السليمة ان تنقل له صورة حقيقية لوضع الكواليس والمنصة، لكن على الممثل أن لا يعلم هذه الأشياء كما تتطلبه هذه الأشياء ذاتها، بل كما هو مطلوب في المسرحية.

أحمد علي البحيري

http://www.alittihad.ae/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *