‘الربيع العربي’ في الصندوق الأسود: مسرح مكفوفي البصر في سيدي بلعباس

احتضن فضاء المسرح الجهوي لمدينة سيدي بالعباس و تحت إشراف وزارة الثقافة الجزائرية، حدثا فنيا متميزا، على الأقل في العالم العربي، عرض التجربة المسرحية،

 

 

 

التي تحمل عنوان غرفة الأصدقاء. هذه التجربة، التي كتبها المخرج الجزائري الصادق الكبير و زوجته الكاتبة والباحثة الألمانية صبينا الكبير. إنه عرض يتميز من خلال عدم خضوعه إلى المقاييس الفرجوية، التي إعتادها المتفرج في العروض المسرحية و الفنية الأخرى. فعنوان ‘غرفة الأصدقاء’ لا يشير الى العرض المسرحي، الذي يستقي قاعدته من حكاية شعبية عن القرد الملك هلال، بل هو في نفس الوقت عنوان الاطار الفني، الذي يجري فيه حدث اللقاء الفني و الإنساني بين الجمهور و المكفوفين في رحاب دائرة إلغاء الضوء. فالحدث هو عبارة عن مشاركة و تواصل لا يجنح إلى منح الجمهور لحظة المشاهدة او إدخاله في مدار أحداث و وقائع أو تقنيات مرئية، بل يهدف بالدرجة الأولى إلى جعل غرفة الأصدقاء فضاء يختبر فيه الجمهور و في فترة زمنية محددة الشعور بحياة مكفوفي البصر و المشاركة في عالمهم غير المرئي .

الأعمى يرشد البصير

إنه الظلام الدامس في القاعة، فوق الركح و في الممرات، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج المتفرج يده لم يكد يراها. جميع طاقم العرض من ممثلين و مساعدين هم فاقدون للبصر. فمن الوهلة الأولى، التي يلج فيها الجمهور القاعة، يجد نفسه في قاعة عتمة، سدت كل مصادرها الضوئية، إذ لا يسمح باي بصيص من النور كيفما كان نوعه بالتسرب إلى هناك. قبل بداية العرض يهتم الممثلون المكفوفي البصر بكل داخل من الجمهور، يمسكونه من يده و يرشدونه إلى مقعد جلوسه. فهذه الصدمة المفاجئة، غيرالمعتادة بالنسبة للمشاهد، تلزمه الدخول في عالم العتمة، تجبره على المشاركة طوعا أو كرها في الحدث، تضطره إلى الهدوء، التروي، لأن الظلام يفرض الحذر و التحرك اليقض. هنا تقلب الموازين، فالأعمى يصبح مبصرا بحدسه و يقود المبصر، الذي يصبح أعمى بسبب عدم تعوده على هذه الأجواء،عكس مـــا تعـــودنا عليه في الحياة اليومية. و حيث أن الجمهور يسمع و لا يرى، فهو في حاجة ماسة إذن لشحذ حاسة سمعه، حتى يكون قادرا على تكوين علاقة بين ذاته والمحيط، الذي أصبح فجئة غريبا عنه تماما و بين المكان و الحدث المترقب. يقول الصادق الكبير، الذي درس العلوم المسرحية و يعمل مخرجا و مقدم برامج في التلفزيون الجزائري و حكواتي باللغتين الفرنسية و الألمانية.

الربيع العربي في ثنايا الظلام

غرفة الأصدقاء، هوعمل مستوحى فنيا من فكرة ‘ الصندوق الأسود’ و أدبيا من حكاية ‘ المسافر الذكي يترك قلبه في وطنه’. إنه يتناول التحولات الإجتماعية و اثارها السياسية في العالم العربي . فزعيم القردة الهرم هلال، الذي يرفض التنازل عن سلطته الدكتاتورية، ما ينتج عنه سقوط هلال في صراع دامي يفقد فيه زعامته على يد متحديه الشاب. يضطر هلال إلى الرحيل عن العشيرة والعيش في المهجر على’ضفاف شاطئ مهجور . هناك يتعرف القرد المخلوع هلال على السلحفاة دايا، حيث’تتطور علاقة بينهما. بعد عودة السلحفاة إلى موطنها، تحكي لعشيرتها عن صداقتها مع القرد هلال. هذه الصداقة التي ينكرها عليها بعضهم و يستغرب لها البعض الأخر. أثناء ذلك تمرض زعيمة السلاحف أميرا فتشيرعليها العرافة بوصفة دواء، التي هي عبارة عن أكل قلب إنسان أو على الأقل قلب شبيه بقلب الإنسان، قلب قرد . ترغم السلحفاة على التحايل على القرد هلال وإحضاره الى العشيرة . غير أن هذا الأخير حين يعلم و هو فوق ظهر السلحفاة وسط البحر بخلفيات هذه الزيارة لعشيرة السلاحف، ينجو من هذا الفخ بحيلة، أن القردة لا تحمل قلوبها معها حين تسافر و يقنع السلحفاة دايا بإعادته الى الشاطئ. تتطور الأحداث حيث تنشأ علاقة صداقة بين بنت السلحفاة سلما و بنت القرد دوندا، التي تقع في اسر عرافة عشيرة السلاحف العاصفة السلحفاتية .إلا أن بنت القرد تنجو من الاسر بمساعدة صديقتها وشباب سلاحف أخرين، الذين يرفضون اعراف اسلافهم الدامية. في الأخير ينشأ القردة و السلاحف الشباب ‘دولة متعددة الاجناس على ضفاف جزيرة بعيدة عن القردة و السلاحف الشيوخ.

الصوت ينوب عن الصورة

غرفة الأصدقاء يذكر من خلال سماع الأصوات، إلى حد كبير بالإستماع إلى قراءة مسرحية او سماع ثمثيلية إذاعية، حيث تتخيل الشخوص دون رؤيتها. فالمكفوفون،الذين هم في واقع الأمر لم يكونوا يوما ما ممثلين قبل هذا العرض، يتحدثون بطريقة مغايرة، فالتصور للمحكي فوق الخشبة له صدى مختلف عن الأعمال المسرحية المعهودة. فالصوت هنا هو الأداة الأولى لنقل كل التعبيرات، المشاعر، الأحاسيس. الفاعل الأوحد، الذي يحل محل الضوء، الصورة، الإشارة و تعبير الجسد. في حين تصبح’الأذن بالمقابل عين الوصل، التي تحدد الأشكال، المسافات و كل التحركات و التحولات فوق الركح. فالصوت عند المكفوفين يحكمه التروي و التحديد في نقل العبارة، كما يحكم الحركة نوع من الاختزال و الدقة في التنقل، التي يحسها المشاهد – المستمع من خلال انتقال الأصوات عبرهذا الفضاء. لمكفوفي البصر حركة جسدية معينة يقول الصادق الكبير سواء كان الرأس، العنق اواليدين، فايقاع حركاتهم مختلف عن المبصرين، فالاقدام شبه لا تفارق اليابسة خلال الخطو، إنها مصدر شعورهم بالمحيط،، في حين تلعب الأيادي دور الكاميرا الذاتية، التي تكون عن طريق اللمس عند المكفوف كل تصورات العالم الخارج عنه.
طيف جاك ليسيران يحوم فوق سماء بلعباس

ففي الوقت، الذي تعرف فيه كثير من دول العالم تجارب فريدة من نوعها في مجال الصندوق الأسود، الغرض منها، مقاسمة الشعور بعالم مكفوفي البصرغير المرئي. مثل مكتبات، حانات و مطاعم مفتوحة للعموم أحدها في مدينة برلين و أخر في كولونيا في المانيا، حيث يتم الأكل في الظلام الدامس، و الصحون على شكل ساعة حائطية تحفها الأرقام، فيوضع عند كل رقم نوع من مكونات الأكلة المطلوبة. أغلفة الأدوية و الهواتف على طريقة برايل، لا تتوفر مكتباتنا الوطنية حتى على كتب للمكفوفين. فهذه التجربة في مدينة بلعباس في الجزائر جاءت كالهام من احد الكتاب الفرنسيين، الذي كان مؤمنا من خلال تجربته الذاتية كمكفوف البصر، بالنور الداخلي و بقوة الحب الوجدانية عند كل إنسان. عندما أهدتني إبنتي الضوء المستعاد’، يقول المخرج و كاتب عدد من ‘كتب الأطفال و كذلك كتاب السلطانان باللغة الألمانية وهو عبارة عن صيغة جديدة لكتاب الف ليلة وليلة: كتاب السيرة الذاتية للكاتب الفرنسي المكفوف البصر جاك ليسيران (1924-1971)، الذي أصيب بالعمى إثر حادثة في المدرسة وهو في سن الثامنة من العمر، غير أن هذا لم يمنعه من اجاد صيغة اخرى لاكتشاف الضوء. أثناء الحرب العالمية الثانية كان عضوا في المقاومة الفرنسية ضد الإحتلال النازي الألماني و في سن السابعة عشر كان قد أسس مجموعته الخاصة للمقامة، التي أطلق عليها إسم متطوعي المقاومة والتي كانت تضم أكثر من ثلاثة مئة عضو. ثم نتيجة لتعرضه للخيانة وقع في يد جهاز شرطة الدولة السري الألماني كستابو و بقي في السجن الإنفرادي مدة نصف سنة، قبل أن ينقل مع ألفين من السجناء الفرنسيين الأخرين إلى المعتقل المدني ببوخفالد في جنوب شرق المانيا. بعد إطلاق سراحه سنة 1945على يد القوات الأمريكية درس الإداب واصبح استاذا للادب الفرنسي في الجامعات الأمريكية.
في كتابه ‘ و كان هذا هو الضوء’، الذي كتبه باللغة الانجليزية، يحكي جاك ليسيران عن حياته كأعمى منذ الثامنة من عمره. حيث كان يزور في مسقط رأسه باريس المسرح كل يوم، يحكي عن اعمال موليير، شكسبير و أدباء أخرين. فكنت جد معجب بهذا الشخص وحياته إلى درجة، أن هذا الكتاب فتح أمامي نافذة للإطلالة على عالم المكفوفين، الذين نراهم كأشخاص لكن ليس لنا في غالب الأحيان معرفته بعالمهم. إن هؤلاء الناس ليسوا في حاجة إلى الشفقة أو الرحمة، بقدر ما هم في حاجة إلى أن نفهمهم، و لا يمكننا أن نفهم ‘قليلا جدا من عالمهم، إذا نحن لم نعش معهم تجربة الظلام و لو لبعض اللحظات، بينما هم يعيشون في هذا الظلام دائما.

طعم حياة جديدة

لقد كان من أثار هذه التجربة، التي عرفها المسرح الجهوي لسيدي بلعباس، أن حياة هؤلاء الممثلين و المساعدين المكفوفين تغيرت، حيث أصبحوا، كما جاء في شهاداتهم، التي سجلها الصادق الكبير بالكاميرا إستعدادا لإنجاز فلم وثائقي عنهم و عن تجربتهم الفنية هذه، يشعرون بقيمتهم الإنسانية عبر عملهم المسرحي. متحمسون جدا لعملهم الفني، جادون في مسؤولياتهم يقول المخرج الصادق الكبير، المقيم في كل من الجزائر و برلين و الذي سبق ونظم قافلة الكتاب، و هي عبارة عن مكتبة تتنقل بين القرى والمدن الصغيرة الجزائرية، قصد تشجيع الناشئة على القراءة، بعضهم يحضر إلى التداريب بساعتين قبل الموعد. مثل الممثلة تلميذة الثانوية بوليلة وردة، التي تسافر يوميا من مدينة وهران على بعد قرابة مئة كيلومتر من مدينة سيدي بلعباس، أو بودراع حكيمة، التي في البداية كان يرافقها أخوها من مدينة سعيدة، التي هي على مسافة قرابة مئة كيلومتر، ثم فيما بعد كانت تسافر وحدها يوميا. كذلك تلميذة الإبتدائي بلفكرون مباركة، التي عمرها تسعة سنوات و هي أيضا قمة في الإنضباط،. كذلك الممثلون الذكور هم ‘ليسوا أقل إنضباطا، حميدي عبد القادر، الذي ليس مكفوف البصر فحسب بل يعاني من الضوء كذلك، كما أظهر كل من لحوالي محمد و بن صافي محمد إمين، الذان كانا هما الأخران يحضرون يوميا من مدينة وهران إلتزاما كبيرا لا يمكن للإنسان إلا أن يحلم به بين الممثلين المبصرين. لقد كان عمل غرفة الأصدقاء بالنسبة لهؤلاء الممثلين المكفوفي البصر حلم يقضة عرفوا من خلاله طعم حياة جديدة، إنطلاقته كانت في شهر أكتوبر في المسرح الجهوي لسيدي بلعباس مثلما عاشوها ثانية في المهرجان المسرحي في بجاية، و تنتظهرهم في مستهل السنة القادمة جولة في ربوع الجزائر و هناك سعي جاد للقيام بعروض أخرى في المانيا.

غياب العين في حضور الكلمة

لقد كان حدثا بالنسبة للجمهور، الذي أحس ولربما لاول مرة أن المبصر في ضيافة المكفوف، حيث كان التواصل عبر الأذن، التي تحولت إلى وسيط للأحاسيس و حلت مكان العين. حتى أبسط الهمسات و الحركات اصبحت هي المسيطر على هذه الأجواء. فالظلام لم يعد هنا سواد فحسب، بل اصبح ‘ظلام متحدث، تنتقل عبره اللغة، التي تنقل الحدث الى غياهب الخيال و يستهدف السمع، لتقص عليه ما لا عين رأت. لقد حضر الجمهور باعداد وافرة إلى هذه العروض ومن الأكيد أن كل واحد من هذا الجمهور عاد إلى مثواه بصور غير، تلك التي عاد بها من كان جالسا عن يمينه و عن شماله. كما أنهم عادوا جميعهم بتصورات عن المكفوفين غير، تلك التي كانت لديهم قبل دخولهم قاعة العرض . لقد زج عرض غرفة الأصدقاء بالجمهور في غرفة التخيل القصري، التمعن في حدث مسرحية خالية من الصور، من المشاهد، من الأضواء و من الخدعات الفنية. لقد عطل هذا العرض لدي الجمهور وظيفة العين، ليوقد عنده قوة المشاركة الوجدانية، قدرة التركيز على الكلمات المنطوقة و تحمل السكون في الظلام. فقد كان الجمهور يشعر بمضايقة قوية، إذا ما صدرت عن احدهم حركة تعكر صفو التكيز الأذني على مجريات العمل المسرحي . فقد تكونت بين الجمهور حالة تضامن ضد كل ما هو مزعج في غرفة الاصدقاء، التي حتى و إن كانت هناك فواصل بين دور الممثلين و الجمهور، فالتواصل الشعوري والوجداني، الذي تمليه ظلمة الفضاء، كان أقوى كل هذه الفوارق. فقد كان السؤال هنا، يقول الصادق الكبير هو: من كان يتفرج على الأخر؟ لم يكن هناك ما يشاهد و إنما هي أحداث تمر جميعها عبر الكلمة، عبر التصور الذهني. الذي يمرر خطابه عبر الخشبة الى القاعة، التي كان الممثلون يجدون الطريق بينها و بين مساحة تشخيصهم بسهولة. من هنا لم تكن هذه التجربة المسرحية’مجرد تقديم عرض مسرحي، بل تعدته إلى حمولة بعدها الإنساني، الذي تلعب فيه قوة الكلمة و سلطتها دور الوساطة في الفعل الإبداعي و الفكري.

فعل جديد

من بين التحولات، التي شهرتها حياة هؤلاٍ المكفوقي البصر، لأول مرة في حياتهم يتسلمون شيكات مالية بمبالغ بالنسبة لهم كبيرة، الشيئ الذي لم يصدقونه هم أنفسهم، كما قال أحد المشاركين: نستمتع بهذه التجربة و نأجر عليها؟ غير أن موظف خزينة البنك لم يسمح بصرف هذه شيكات المالية، التي تسلموها من وزارة الثقافة، ذلك أن البنك لم تعرف في حياتها زبونا أعمى يأتي ليتسلم مبالغا كبيرا (بالنسبة لمكفوف) بهذا الحجم. هل يعرف المكفوفون التفريق بين قيمة الأوراق المالية؟ كيف سيوقعون على الشيكات؟ ألا يشكون في، أننا نقصنا من مالهم شيئا؟ عبارات قد تدور في خلد موظف البنك. لكن تجربة مسرح المكفوفين، الذي دشت انطلاقته من مدينة سيدي بلعباس، لم تغير منظور الممثلين المكفوفين لأنفسهم و زادتهم ثقة في انفسهم فحسب، بل أثبت بعض من هؤلاء المكفوفين بعد تجربته المسرحية، تحسنه بل تفوقه الدراسي، مما جعل التلاميذ يفكرون في أقامة درس من دروس المدرسة معه في الظلام الدامس، بل قد تغيرت حتى نظرة عدد من أفراد المجتمع إلى هؤلاء الناس، الذين غالبا ما ينظرالى مصيرهم في الحياة كقراء للقرآن في مداخل الجوامع وعلى المدافن أو متسولين في الأزقة و الشوارع.

 

سيدي بلعباس ـ ‘القدس العربي’ من إدريس الجاي

http://www.alquds.co.uk/

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *