مقالات

المسرح بين الإنسان والخوارزمية نحو إخراج ذكي وفضاء متحول بقلم د.عماد هادي الخفاجي

المسرح بين الإنسان والخوارزمية نحو إخراج ذكي وفضاء متحول بقلم د.عماد هادي الخفاجي

المسرح بين الإنسان والخوارزمية نحو إخراج ذكي وفضاء متحول

بقلم د.عماد هادي الخفاجي

في ظل تنامي المد الرقمي واشتداد التفاعل بين الفنون والتكنولوجيا يشهد المسرح تحولا عميقا لا يقتصر على توظيف الوسائل التقنية فحسب بل يمتد ليعيد تشكيل العملية الإبداعية برمتها، فلم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساندة بل أصبح شريكا فاعلا في إنتاج العروض وصياغة التجربة الجمالية بطرائق لم يكن من الممكن تخيلها من قبل.

هذا التحول لا يطرح تساؤلات تقنية فقط بل يفتح بابا عريضا للأسئلة التي تمس جوهر المسرح ذاته وطبيعته كفن حي ينبض بتغير الإنسان وتفاعله. واليوم يدخل المسرح مرحلة جديدة يشارك فيها الذكاء الاصطناعي في صياغة الشكل والمحتوى بل وفي خلق تجربة تفاعلية جديدة تربط العرض بالجمهور بطريقة غير مسبوقة وتعيد تعريف العلاقة بين الفن ومتلقيه.

وفي هذا السياق يمكننا القول بان الإخراج المسرحي لم يعد قائما على رؤية فردية محضة بل أصبح فضاءً معقدا يتداخل فيه الإبداع البشري مع التحليل الخوارزمي فالمخرج الذي كان يعتمد في السابق على قراءته الخاصة للنص وتحليل الشخصيات وإدارة عناصر العرض بات اليوم يستعين بالذكاء الاصطناعي كوسيط قادرعلى تحليل البُنى الدرامية واقتراح بدائل جمالية بل وحتى محاكاة ردود فعل الجمهور المحتملة وهكذا يتسع دور المخرج ليصبح أقرب إلى قيادة جماعية تشاركية تجمع بين الحس الفني الإنساني ودقة المعالجة الرقمية.

ويأتي الفضاء المسرحي نفسه كواحد من أبرز مظاهر هذا التحول فلم يعد حيزا ثابتا تحكمه القوانين الهندسية التقليدية بل أصبح كيانا متغيرا يستجيب لحركة الممثلين وتفاعل الجمهور حيث يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعيد تشكيل الخلفيات والأجواء البصرية في الزمن الفعلي وهذا ما يفتح المجال لخلق بيئات مشهدية تتجاوز مفهوم المركومات الثابتة، لتصبح عنصرا دراميا نشطا يتنفس مع العرض ويتشكل بناءً على إيقاع السرد مانحا المسرح أبعادا حركية جديدة تعيد النظر في طبيعة العلاقة بين المكان والزمن والحدث الدرامي، لكن هذا التحول لا يقتصر على البنية التقنية للعروض بل يمتد إلى جوهر مفهوم الإبداع ذاته، فالتأليف المسرحي الذي كان يُنظر إليه سابقا كعملية مغلقة تبدأ بالنص وتنتهي عند العرض بات اليوم فعلا مفتوحا وتشاركيا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتدخل خلاله لتقديم اقتراحات أو توليد تراكيب درامية غير متوقعة بل إن هناك تجارب حديثة تُبنى فيها الحكاية على نماذج إخراجية تعتمد كليا على الذكاء الاصطناعي بحيث تتغير أحداث المسرحية بحسب تفاعل الجمهور أو حتى وفق تحليل مزاجهم في الوقت الحقيقي.

كل هذه الإمكانات تفتح آفاقا واسعة لكنها تطرح في المقابل تساؤلات جوهرية لا يمكن القفز فوقها فدخول الذكاء الاصطناعي إلى بنية العرض المسرحي يثير أسئلة حيوية منها، ما هو الدور الذي سيبقى للمخرج؟ هل سيتحول إلى مبرمج يتعامل مع البيانات والاحتمالات؟ وهل سيبقى الممثل عنصرا أساسيا في التفاعل الحي أم ستأخذ البدائل الرقمية موقعه في بعض التجارب؟ وهل لا يزال من الممكن اعتبار هذا النوع من العروض امتدادا للتقاليد المسرحية أم أننا أمام شكل جديد كليا من الفنون الأدائية؟

كل هذه التساؤلات تجعل من المسرح اليوم مساحة اختبارية حقيقية تعيد التفكير في مفاهيمه الأساسية، لأنه لم يعد مجرد فضاء لإعادة إنتاج الحكايات على الخشبة بل أصبح مختبرا حياً للتفاعل بين الإنسان والتقنية ومجالا يختبر حدود الخيال البشري من خلال أدوات وأساليب لم تكن مطروحة في الأشكال التقليدية، وهذا يعني بان المسرح اليوم يدخل مرحلة نوعية جديدة قد تعيد تعريف جوهره وأهدافه بطرائق لم نكن نتخيلها من قبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى