ATI-LAP-AI

الاستطراد التداخلي! هايل علي المذابي

الاستطراد التداخلي! هايل علي المذابي

الاستطراد التداخلي!

هايل علي المذابي

قديما كان الاستطراد أهم ثيمة يمكن رؤيتها بوضوح في المؤلفات العربية القديمة في جميع المجالات وبالأخص الأدبية التي ظهرت في العصرين الأموي والعباسي، واستمرت حتى ظهور أجهزة الطباعة والات الكتابة وكان سبب الاستطراد الذي تميزت به تلك المؤلفات هو أن أسلوب التعليم الذي كان سائدا يعتمد على السماع من شيوخ العلم في مجالسهم، فكان حديثهم يذهب كل مذهب أثناء شرح قضايا العلم وكان التأليف من ثم للكتب يحمل الطريقة ذاتها، حتى أن بعض المؤلفات سميت بالأمالي اي أنها كتبت بنهج الإملاء الذي سمته الاستطراد أي التشعب في الموضوع ونظرا لعدم وجود تخصصات علمية في ذلك الزمن، فقد كان شيوخ العلم يذكرون معلومات من علوم كثيرة في شرحهم لمسائل وقضايا أدبية أو غير ذلك؛ ومن أمثلة هذا النوع من المؤلفات نجد كتب الجاحظ واحمد بن فارس والجرجانيين وابن قتيبة والسيوطي والاصمعي وابن رشيق القيرواني والقائمة تطول جدا.
لكن ورغم ذلك فقد ظهر على يد الجاحظ في كتابه البخلاء أول خروج عن نص وسائل اكتساب المعرفة الشهيرتين وهما مجالس العلماء وقراءة كتب الوراقين اللتان امتازتا بأسلوب الاستطراد وتمثلت وسيلة الجاحظ الجديدة بالنزول إلى غمار العامة واكتساب المعرفة من أفواههم وافعالهم فدرس الجاحظ سلوكيات الناس وكتب عن دوافعهم ونزعاتهم وقام بتحليل تصرفاتهم دون إغفال أمر المتعة فيما يقدمه ويسرده من تفاصيل حياة الناس في عصره..
هذا الاستطراد في فن الكتابة والتأليف أصبح لاحقا يسمى بـ”السرد التداخلي” وهو كما تعرفه فاطمة رضا: مصطلح أدبي أمريكي يعني الانتقال العشوائي من موضوع إلى آخر، وهو ضمن الوان القصة القصيرة والرواية الأدبية حيث يقوم فيه الكاتب بالتعريج على عدة مواضيع قصصية سردية ضمن قالب موضوعي واحد بحيث يجذب النص القارئ من خلال الدخول والخروج من مواضيع مختلفة بشكل مفاجئ وبدون ربط واستخدام مفردات وجمل مجتزأة تثير القارئ حيث يسرق النص وقت القارئ وتفكيره ولا يستطيع إلا أن يقرأ الموضوع كاملاً بدون توقف”. وهذه التقنية تشبه ما يسمى ضمن أنواع السرد بـ”السرد الهوليودي السينمائي” الذي يتضمن أكثر من ذروة للقصة ويقتضي أكثر من عقدة في القصة السينمائية الواحدة.
أما في الفن المسرحي فيتوافق ما يسمى بالارتجال والخروج عن النص مع معنى ما يمكن تسميته بالاستطراد التداخلي، ويمكن أن نسميه استطرادا تداخليا تمثيليا، ويحدث عادة عندما ينسى الممثل النص الذي عليه أن يقدمه، فيذهب إلى الاستطراد التمثيلي الذي يستعين فيه بموهبته فقط ليتجاوز نسيانه للمقطع الذي عليه أن يقوله ثم لا يلبث أن يعود إلى النص الأصلي، وهناك نماذج فنية مسرحية كثيرة كانت مقاطع الاستطراد فيها سببا في شهرتها كما أنها اشتهرت أكثر من الأعمال المسرحية تلك ذاتها.
وفي سياقات أخرى نجد ان آلية عمل تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتخصصة في البحث وحصر المعلومات والبيانات على الشبكة العنكبوتية تمتاز بسمة يمكن تسميتها بسمة “الاستطراد التداخلي” كأهم ثيمة يمكن لمسها في نتائج آليتها البحثية، حيث تتداخل كافة النتائج من كل الأنواع والفروع العلمية والمعرفية في جملة النتائج التي تقدمها تلك التطبيقات البحثية.
ومن كل ذلك نجد أن ثيمة الاستطراد التداخلي العصرية في الأعمال الفنية والأدبية وفي آلية عمل تطبيقات الذكاء الاصطناعي البحثية تعتبر حالة بعث للسمة القديمة للمؤلفات القديمة وهي ثيمة الاستطراد في هيئة وتصور حضاري جديد وطالما أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي هي حالة محاكاة للعقل البشري بكل تفاصيله سيكون الاستطراد التداخلي امتياز عقلي إنساني وهبة ربانية للبشرية وليس لأحد سواها، ولا يمكن التنكر له في أي عصر أو ادعاء توجهات أخرى خارج سياقاته سواء على الصعيد العلمي أو على صعيد الحياة الاجتماعية وما يدور في فلكها.
Strings1983@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى