ATI-LAP-AI

المسرح أبو التكنولوجيا!- هايل علي المذابي 

المسرح أبو التكنولوجيا!

هايل علي المذابي 

لطالما سمعنا تلك العبارة الشائعة والرائجة والمستهلكة “المسرح أبو الفنون” وبما أن العصر يقتضي التحديث، فسأقول اليوم “المسرح أبو التكنولوجيا”؛ وليس في ذلك أي مبالغة على الإطلاق، بل حقيقة أستطيع أن أثبتها باستنادات وقرائن قد يكون ذكرها مجتمعة لأول مرة من خلال هذا المقال البحثي القصير الذي استغرق مني الإحاطة به عدد من السنوات. 

لنتسائل أولاً: ما هي مظاهر التكنولوجيا التي نراها اليوم في حياتنا؟ وما هو أبرز هذه المظاهر؟

الجواب: روبوتات الذكاء الاصطناعي ومظاهر الواقع الافتراضي ثلاثي الأبعاد ومعطياته، وكل ما نستخدمه من أجهزة مرتبطة بها.

الروبوتات

في قاموس المورد فإن الروبوت أو الروبوط (يعتبر دخيلا دوليا) ويمكن أن يسمى بالعربية الإنسان الآلي والرجل الآلي والإنسالة والجسمال، هو آلة مكانيكية قادرة على القيام بأعمال مبرمجة سلفا، إما بإشارة وسيطرة مباشرة من الإنسان أو بإشارة من برامج حاسوبية. غالبًا ما تكون الأعمال التي تبرمج الإنسالة على أدائها أعمالاً شاقة أو خطيرة أو دقيقة، مثل البحث عن الألغام والتخلص من النفايات المشعة، أو أعمالاً صناعية دقيقة أو شاقة.

دعونا نسأل مرة أخرى: ما شأن المسرح وما علاقته بهذه المظاهر التكنولوجية؟ 

الجواب: لولا المسرح لما رأينا كل هذه المظاهر وربما لم تكن لتوجد مطلقا، فالروبوتات بأنواعها بدأت مشوارها من خيال الكاتب والمؤلف المسرحي كارل تشابيك في مسرحيته “إنسان روسوم الآلي” حيث ظهرت كلمة “روبوت” لأول مرة عام 1920، فكانت هذه المسرحية هي اللبنة الأولى التي تمأسس عليها وجود روبوتات الذكاء الاصطناعي بل حتى أنه لولا مسرحية تشابيك لما وجدنا اسما للروبوتات فهو أول من وصفها بأنها روبوتات في مسرحيته تلك وبعد هذا القرن من الزمان الذي مضى على تأليف مسرحية “رجال ورسوم الآلية العالمية” (بالتشيكية: Rossumovi univerzální roboti). 

وترمز كلمة “روبوت” في اللغة التشيكية إلى العمل الشاق، إذ أنها مشتقة من كلمة “Robota” التي تعني السُخرة أو العمل الإجباري، ومبتكر هذه الكلمة هو جوزيف تشابيك، أخ الكاتب المسرحي سالف الذكر، والذي ابتدعها في محاولة منه لمساعدة أخيه على ابتكار اسم ما للآلات الحية في العمل المسرحي. وبدءا من هذا التاريخ، بدأت هذه الكلمة تنتشر في كتب وأفلام الخيال العلمي التي قدمت عبر السنوات عدد من الأفكار والتصورات لتلك الآلات وعلاقتها بالإنسان، الأمر الذي كان من شأنه أن يفتح أفاق كبيرة للمخترعين ليبتكروا ويطوروا ما أمكن منها.

وفي سياق الآفاق الجديدة للروبوتات في مجال الصناعة المسرحية ومستجداتها فقد صمم باحثون من جامعة كارلوفا التشيكية مشروعاً متطوراً يدمج التعلم الآلي مع المسرح، نتجت عنه مسرحية من كتابة الروبوت بعنوان “عندما يكتب الروبوت مسرحية”، للاحتفال بالذكرى المئوية لمسرحية الخيال العلمي “R.U.R.” للكاتب التشيكي كارل تشابيك، التي ذكر فيها كلمة روبوت لأول مرة، وتم عرض المسرحية أوائل العام 2021، كما نشر خبر آخر على السياق ذاته بعنوان: “أول مسرحية مكتوبة بقلم الذكاء الاصطناعي”، ابتدأ بقول الكاتب المسرحي “ديفيد كوشاك”، الذي أشرف على السيناريو: “إنها أشبه بنسخةٍ مستقبلية من مسرحية “الأمير الصغير”؛ وهي رواية أطفال كلاسيكية تم التصويت لها كواحدة من أفضل كتب القرن العشرين في فرنسا وذلك في الكتب التي اختارتها صحيفة لوموند.

ومثل كتاب الأطفال الفرنسي الكلاسيكي، فإن إنتاج المسرحية هذه التي تبلغ مدتها 60 دقيقة بعنوان “عندما يكتب الروبوت مسرحية” يروي رحلة شخصية (روبوت هذه المرة) تخرج إلى العالم للتعرف على المجتمع، والعواطف البشرية، وحتى الموت.

وبعد أن أصبحت الروبوتات حقيقة بعد مائة عام أرادت التشيك أن تكرم كاتبها العظيم كارل تشابيك وقالت: “قبل مائة عام كتب رجل مسرحية عن الروبوتات فلماذا لا تكتب الروبوتات اليوم مسرحية عن الرجال؟” وبالفعل تم تنفيذ المهمة وقام روبوت ذكاء اصطناعي بتأليف مسرحية سميت بـ “عندما يكتب الروبوت مسرحية” ثم تم تقديمها على الخشبة في حفل بهيج بالذكرى المئوية للكاتب كارل تشابيك. 

وتم إنشاء البرنامج النصي بواسطة نظام ذكاء اصطناعي متاح على نطاق واسع يسمى “GPT-2”. تم إنشاء هذا “الروبوت” بواسطة شركة “OpenAI” التابعة لإيلون ماسك؛ وهو نموذج كمبيوتر مصمم لإنشاء نص من خلال الاعتماد على مستودع هائل للمعلومات المتاحة على الإنترنت. (يمكنك تجربته بنفسك هنا من خلال التطبيق الخاص) وحتى الآن، تم استخدام التكنولوجيا لكتابة أخبار مزيفة وقصص قصيرة وقصائد. أما المسرحية، فهي أول إنتاج مسرحي لنظام “GPT-2″، كما يدّعي الفريق الذي يقف وراءها.

الواقع الافتراضي

المظهر الآخر من مظاهر التكنولوجيا هو معطيات “الواقع الافتراضي” ولابد أن نعرف الواقع الافتراضي أولا.

يشير مصطلح ” الواقع الافتراضي ” (أو الوسائط المتعددة الغامرة أو الواقع المحاكي بالكمبيوتر) عادةً إلى تقنية الكمبيوتر التي تحاكي التواجد المادي للمستخدم في بيئة تم إنشاؤها بشكل مصطنع بواسطة البرامج. يخلق الواقع الافتراضي بيئة يمكن للمستخدم التفاعل معها. لذلك، فإن الواقع الافتراضي يعيد إنتاج تجربة حسية بشكل مصطنع، والتي يمكن أن تشمل البصر واللمس والسمع والشم (بصري أو صوتي أو لمسي).

يضيف الواقع المعزز عناصر افتراضية في بيئة حقيقية بينما يخلق الواقع الافتراضي فعليًا بيئة حقيقية أو خيالية.

والغرض من الواقع الافتراضي هو السماح لشخص (أو عدة أشخاص) أن يعيش تجربة الانغماس أم لا، أي القيام بنشاط حسي ومعرفي في عالم تم إنشاؤه رقميًا، والذي يمكن أن يكون “خياليًا ورمزيًا” أو محاكاة جوانب معينة من العالم الحقيقي. 

وعلاقة المسرح بتكنولوجيا الواقع الافتراضي هي أن تعبير “الواقع الافتراضي” ظهر لأول مرة في كتابات المسرحي الفرنسي أنتونان أرتو الذي وصف المسرح بأنه “واقع افتراضي” في مؤلفه الفني “المسرح وقرينه” (Le Théâtre et son double (1938.  ثم تم تبني هذا التعبير بواسطة Jaron Lanier في عام 1985 لتعيين مساحة تمثيل “واقعية”، ثلاثية الأبعاد، في الوقت الحقيقي، غامرة. وبسبب أصالة التعبير، والذي يسمى التناقض التناقضي بسبب التناقض الواضح بين المصطلحات التي تتكون منها، أصبحت كلمة افتراضية مرادفة لـ “رقمي وغير مادي” في الوسائط. 

وقد استخدم المسرحي الفرنسي أنتونان أرتو تعبير “الواقع الافتراضي” في عام 1938، في مجموعة مقالاته “المسرح وقرينه” Le Théâtre et son double، لوصف الطبيعة الوهمية للشخصيات والأشياء في المسرح. وفي هذا العمل الذي قام به المنظر والكاتب المسرحي الفرنسي أرتو، تم إدراج صيغة “الواقع الافتراضي” لأول مرة في منشور.

ومصطلح “الواقع الافتراضي”، الذي صاغه أنتونان أرتو أصبح شائع الاستخدام في السبعينيات؛ وتم استخدام مصطلح أرتو “الواقع الافتراضي” والترويج له في رواية جوداس ماندالا، وهي رواية خيال علمي نُشرت عام 1982 وكتبها داميان بروديريك. ويستشهد قاموس أوكسفورد الإنجليزي بمقال نشر عام 1987 بعنوان “الواقع الافتراضي”، لكن المقالة المعنية لا تتعلق بتقنية الواقع الافتراضي. ثم تم تعميم مصطلح “الواقع الافتراضي” للفرنسي أرتو، في استخدامات معاصرة، من قبل جارون لانير من خلال شركته VPL Research.. حيث قامت VPL Research، التي تمتلك العديد من براءات اختراع الواقع الافتراضي (VR ) والمودعة في منتصف الثمانينيات، بتطوير أول سماعة رأس للواقع الافتراضي: EyePhone و ataGlove الخاصة بالمدخلات اللمسية.

تم بعد ذلك تم تعميم مفهوم أرتو “الواقع الافتراضي” وتم انتشاره في وسائل الإعلام من خلال أفلام مثل Brainstorm و The Lawnmower Man. 

ويجدر الإشارة إلى أنه قد تم رسم مفهوم الواقع الافتراضي (بشكل ضمني) من قبل الفيلسوف أفلاطون في قصته الرمزية عن الكهف التي تضمنها كتابه “جمهورية أفلاطون”، وكذلك من قبل رينيه ديكارت، الذي يعتبر، في كتابه “خطاب حول المنهج”، الفرضية القائلة بأن شهادات حواسه يمكن أن تكون فقط سلسلة من الأوهام التي تنسقها روح شرير.

ومع ذلك، فإن أقدم الإشارات إلى فكرة الواقع الافتراضي كما نفهمها اليوم تأتي في الغالب من الخيال العلمي، بالإضافة إلى تعبير آرتو نشر في عام 1935، المؤلف ستانلي جي وينباوم قصة قصيرة بعنوان “نظارات بجماليون” Pygmalion’s Spectacles (1935)، والتي وصف فيها بشكل أساسي النظارات التي تسمح لمرتديها بالوصول إلى عالم افتراضي حيث يمكنه التفاعل واللمس والشعور.

وفي الخمسينيات من القرن الماضي، طور مورتون هيليج “تجربة مسرحية” “شملت جميع الحواس بطريقة فعالة”. وفي عام 1962، صمم نموذجًا أوليًا لجهازه الملقب بـ سينسوراما Sensorama وقام بتصوير خمسة أفلام قصيرة كان ينوي تقديمها للمشاهد بطريقة تشغل العديد من حواسه: البصر والسمع والشم واللمس. يسمح للمشاهد أن يعيش تجربة من الانغماس البصري والسمعي في مشهد حقيقي تم تصويره مسبقًا. ومع ذلك، نظرًا لأنه يسبق الحساب العددي، فإنه يظل جهازًا ميكانيكيًا بسيطًا.

وهكذا فإن القول “المسرح أبو التكنولوجيا” لا ينطوي على أي مبالغة ولا يعني أيضا أن المسرح أبو التكنولوجيا أي رائد من يستخدم التكنولوجيا ويوظفها في حيثيات صناعته الفنية وإنما يعني أن المسرح هو من ابتكر التكنولوجيا وأثث لها عموما من خلال تلك النتاجات الإبداعية سواء الخيالية كما رأينا في مسرحية “إنسان روسوم الآلي” للكاتب المسرحي التشيكي “كارل تشابيك” أو واقعية كما رأينا في تعبير المسرحي الفرنسي “أنتونان آرتو”. 

مراجع

  1. قاموس المورد، البعلبكي، بيروت، لبنان.
  2. مصطلحات عربية جديدة مقترَحة- عبد الحفيظ جباري\نُـشِرَ هذا الـمقال في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني في عدد (69).
  3. هايل علي المذابي، أتمتة فضاءات العرض ومستقبل الممثل في عصر “الروبوتات” (التحدي والإستجابة  ورهانات تحقيق غايات المشاركة والإتصال)، كتاب تحت الطبع.
  4. جمهورية أفلاطون، ت: حنا خباز، مؤسسة هنداوي. 
  5. ستانلي جي وينباوم، نظارات بجماليون “قصة قصيرة”، ت: هايل علي المذابي، تحت النشر.
  6. كارل تشابيك، “إنسان روسوم الآلي”، ت: طه محمود طه، وزارة الإعلام، الكويت، سلسلة المسرح العالمي، يناير 1983.
  7. أنتونان أرتو، “المسرح وقرينه”، ت: سامية أسعد، إصدارات قصور الثقافة، القاهرة، 2021.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى