” ٔلمظ وسي عبدو” الأنموذج الحي لتكامل المنظومة الفكرية والبصرية في العرض المسرح علي عليان – الأردن

      أن تنهل من التاريخ ليس فقط ما كان يدور في كواليس الحكم والسياسة  أو صراعات النسوة في مخادع الأميرات والأمراء والجواري والخدم والحشم وعلية القوم، لكن أن تنهل من تاريخ الفن حكاية تحمل في طياتها دور الفن في المجتمعات ومدى تأثيره في دماغ الفرد واهتمام الساسة برعايته، وإفراد مخصصات معيشية له كي يستطيع  أن يقدم أبداعه بكل أريحية وكان هذا معمولا به  في عصر بداية الفن اليوناني وتراوح هذا الاهتمام بين مد وجزر حسب المراحل التاريخية بل وهناك العديد من الفنانين أصبحوا مطاردين من أجهزة الدولة مثل أبي خليل القباني الذي هرب إلى مصر من جور السلطان وأيضا الأخوين لاما اللذان هربا من يافا أيضا الى مصر، إذن مصر هي الحاضنة لكل مبدع ملهوف، لما لها من سماحة عبر التاريخ في ترسيخ الفن كأنموذج حياة وتكريس دوره في دوزان دماغ الفرد من قصيدة شعر وأغنية ورواية ومسرحية.

وتكثر هنا النماذج التي يمكن الاستشهاد بها، لكن نموذجنا الذي تم إحياء تاريخه في عرض مسرحي عبر حكاية فنية اشتهرت في زمانها ومكانها وأصبحت تلك الحكاية حديث الناس والقصور.. إنها حكاية المغنية ألمظ أو الماظة وسي عبده الحمولي الذي بلغت شهرته الآفاق.

        أن تكتب نصا مسرحيا غنائيا استعراضيا بخط درامي متشعب ليس بالأمر السهل او الهين وأن تتعاطى كمخرج مع هكذا نص ليس بالأمر البسيط أيضا، بل هو معقد إلى مدى وضوح الخلط بين القدرة على النجاح وبين التسطيح المفتعل من أجل الخروج بأقل الخسائر، وهنا أتحدث عن عرض المسرحية الغنائية الاستعراضية “ألمظ وسي عبده” التي قدمت على مسرح البالون برعاية ودعم البيت الفني للفنون الاستعراضية بإدارة عادل عبده والتي صاغ نصها بشكل عبقري الكاتب والشاعر مصطفى سليم وتصدى لإخراجه المخرج الشاب مازن الغرباوي.

       وإذا أردنا قراءة العرض من جانب فكري فإننا نرى الحالة المتأصلة عبر التاريخ في مسألة الجندرية بسطوة الذكورية على واقع المجتمع بدءً من سطوة أبناء العمومة على الفتاة ألمظ لتعمل في تسلية عمال البناء بغنائها الساحر، رغم أنه تم تناوله إخراجيا بأسلوب كوميدي محبب ولكننا نذهب باتجاه المعاني في التحليل وانتقالها بعد ذلك للمدينة عبر سطوة الشيخ ودوره وعلاقاته في جعلها تعمل كمغنية في تخت غنائي ونجاحها فيه مما جعل ساكنة باشا التي كانت صاحبة المجد في ذلك الوقت تحيك لها المؤامرات، كي تأسرها تحت جناحيها بدلا من منافستها بضمتها إلى تختها الغنائي، وتجسدت السطوة الذكورية في زواج ألمظ من عبده الحمولي ومنعه لها من الغناء في القصور وفي المناسبات، لأسباب عديدة كغيرته الكبيرة عليها، ثم خوفه عليها من  الخديوي نفسه، الذي لم يعجب بصوتها فحسب، بل أرادها ضمن جواريه، إلى حد أن منحها قبل زواجها من عبدو التواجد والدخول وقت تشاء الى نسائه، بل  ومنحها شرف أن تكون جليسة نسائه الدائمة، وخاصة الوالدة باشا، الأمر الذي هيج لدى عبدو سلطته  الذكورية حتى منعها من هذا التواجد هناك .

         حمل العرض في طياته منظومة فكرية جمالية ورؤيا بصرية تستند إلى الاقناع لا الإبهار، وبغناء يعبئ طاقة الإنسان الوجدانية حد الإشباع سواء من المغنية المظ “مروة ناجي” والتي جسدتها بطاقة تمثيلية هائلة، بصوتها الغنائي الساحر، أو من سي عبده “وائل الفشني” بماله من حضور أخاذ، ولا ننسى روعة الفرقة الاستعراضية التي رقصت بكل تجلٍ استعراضي مدهش.

     لقد حقق العرض باحترافية عالية  قدرة على جذب المتابع، وبشغف غير مسبوق، انتظارا لأحداث الحكاية من جانب، وانتظارا للأغنية القادمة من جانب اخر، مما يجعلنا نتحدث عن الربط الدرامي المتقن ما بين الغناء والأداء التمثيلي الممتع والساحر لشخوص العرض، فكان الإشتغال على الكركتر سمة بارزة في العرض،  مثل شخصية الأب “حسن العدل ” الذي قدمه بأسلوب محبب، فيما برز الثنائي عوض “محمد عمر” وعباس “محمد حسني” اللذان استطاعا بتناغم إضفاء روح المتعة على كامل العرض، ساعد على ذلك البعد الدرامي الكوميدي العميق، الذي جسده باقتدار الشاب المخضرم “محمد طلبة”، فبرزت قدراته التمثيلية الكوميدية الهائلة، رغم أنه من شخصيات الظل التابعة، كما هو معروف في فن المسرح، فهو صبي العالمة ساكنة بيك (معلمته) التي يفترض أن تديره، إلا أنه استطاع إدارتها عبر الشخصية  المركبة،  وطاقتها الجسدية التي وظفها واتسقت مع معطيات النموذج الذي يلعبه، بوصفها شخصية الصعب الممتنع.

     لقد شعرنا كمشاهدين بأن كل ممثل في العرض كان بطلا لمشهده، فكان الباشا “إميل شوقي” حاضرا بكل ثقل، بباشاويته الأنيقة، والشيخ القانونجي “محمد الخيام” والدمشقي “صابر عبد الله” والخديوي “طارق مرسي” بالإضافة الى ألمظ الطفلة “ملك مازن” وباقي الشخصيات الأخرى التي تواجدت في مكانها السليم وأدائها المنسجم ضمن السياق، بالإضافة الى الحوار الموسيقي الغنائي الذي أبدع فيه احمد مصطفى “بألحانه وتوزيعه الموسيقي لأغاني العرض.

       الصورة البصرية التي هي العنصر الجمالي المصاحب والمكمل للمنظومة الفكرية للعرض والتي أعطت بعدا مشهديا عميقا، تمثل في توظيف الراوي من خلال المشهد السينمائي وجسدته بصوتها الرخيم الفنانة القديرة “سميحة أيوب” فكانت الرابط الثلاثي الأبعاد ما بين سرد الرواية في الفواصل للانتقال من مرحلة إلى أخرى والمادة السينمائية الارشيفية بالأبيض والأسود، أما البعد الثالث فتجسد في منظومة الديكور المرتبطة بالسياق السينوغرافي المركب ما بين قطع الديكور المتنقلة بكل رشاقة وما بين الرسم الالكتروني الجرافيكي لإبراز القصور الملكية بالإضافة إلى لباس الخديوي إلى حد الخديعة المحببة والإيهام بأن هذا ديكورا وليس رسما إلكترونيا، وهنا لا بد من الإشارة إلى المصممين “محمد هاشم” و”محمد المأموني” و”عز حلمي”  و”سماح نبيلط الذين استطاعوا أن يرسموا لوحة سينوغرافية مشبعة عميقة طوال مدة العرض الذي استغرق ساعة وأربعين دقيقة .

  هذه المنظومة الفنية المتكاملة التي نادرا ما تتجسد في عرض مسرحي، تجسدت باقتدار  في  عرض “ألمظ وسي عبده” والتي تحسب الى مخرج العرض المخضرم “مازن الغرباوي” الذي صنع لوحات فكرية جمالية تزاحمت عناصر إيقاع العرض فيها تأثيرا وإقناعا وإمتاعا، وبقدرة هائلة في هندسة الفضاء المسرحي بمساحته الشاسعة واستغلاله حتى مفردات كسر الإيهام، وصولا إلى المقاعد الأولى  ليبقى ذاهبا بنا الى عمق الحالة الدرامية، وإلى عمق الرواية لنصبح كجمهور جزءً من اللعبة المسرحية دون فجاجة ودون اسفاف ودون استعراض للعضلات، فشكلت حالة إخراجية متفردة جمعت كل هذه المنظومات في منظومة واحدة ألهبت حماس الجمهور،  والذي صفق بحرارة شديدة لكل فرد في هذا العرض،  وهذا ليس بغريب على المسرح المصري الذي عودنا على الانتاجات المسرحية الضخمة والتي تتعاطى مع قضاياه المحلية الكبرى بكل شفافية وعمق.

 

 

مسرحنا

https://www.gocp.gov.eg/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش