هل التراجيديا فلسفة؟ – علي علاّوي #المغرب

«ما يجعل ضعاف الشعراء أشد ضعفا، هو ألا يقرؤوا إلا للشعراء
مثلما أن أردأ الفلاسفة لا يقرؤون إلا للفلاسفة،
هذا في حين أن بإمكانهم أن يستفيدوا أيّما إفادة
من كتاب في علم النبات أو الجيولوجيا»
– إميل سيوران –

إن الفلسفة، منذ بدئها، تشكل إطارا مرجعيا لكافة المعارف الإنسانية، فتداخل العلوم الإنسانية في ما بينها صار أمرا يفرض نفسه بقوة، وإن تحققت التفرقة في محطات من تاريخ الفكر الإنساني، إلا أنه مع ذلك فإن صلة الرحم تتجدد، وأواصر القرب والوصال تُعزّز لتعلن ميلاد اللّقيا وتناشدها عوض الفُرقة.

إن الفلسفة لا تحيا داخل الكتابة الفلسفية فقط، بل إنها تتأصل في الكتابة الشعرية، والتراجيدية، والمسرحية، والروائية وغيرها. فقد نجد أعمق التّعبير الفلسفي في صياغة قصة قصيرة، أو مسرحية شعرية، أو شذرة. ويقول ميشيل سير Michael serres: “إن الفلسفة عميقة جدا إلى درجة أنها تدرك أن الأدب أعمق منها” . نحن هنا لا نقيم دليلا لمقامرة -خاسرة- على جدوى الفلسفة أو الفن أو الأدب. لا. فغايتنا أولا وأخيراً هي رصد الفعالية في اللّقيا بين الفلسفة والتراجيديا؛ أي بين الصرامة والنشوة، بين الحرب والشعر. بين الغضب والضحك..

لا يعزب عنا أن نقول إن العلاقة المترامية الأطراف بين الفلسفة والتراجيديا هي بالضرورة علاقة شائكة، مشبعة بالتداخل، مما يجعلنا نجنح إلى أمر التدبر والدرس والنظر في هذه العلاقة التي صار لزاما علينا فك خيوط تشابكها. لفهم الفكر الحديث والمعاصر صار من البد قطع المسافة غوصا في دلالة العلاقة القائمة بين التراجيديا والفلسفة.

لقد ميز هيدغر بين الوجود أو الكينونة l’Etre، وبين الموجود l’étant، معتبرا أن تاريخ الفلسفة، وتاريخ العلوم، هو تاريخ نسيان الوجود. هذا النسيان تستدركه التراجيديا، القديمة منها والحديثة. فمع سرفانثس Cervantes تم التعبیر عن الکثیر من الأفكار التی سیقولها هيدغر لاحقا عن الوجود. ومن ثمة تتمظهر الفلسفة في الكتابة التراجيدية التي تحتضن تحاليل عن الوجود ، في الوقت الذي نسجل فيه غياب ونسيان الوجود في الكتابات الفلسفية والعلمية.

إن نسيان الوجود الذي يلخص أزمة الفكر الغربي والفلسفة الغربية –كما يقول هيدغر- قد أزاحته التراجيديا باعتناقها لموضوعات الوجود، وذلك من خلال معركتها طوال قرون من الزمن ضد هفوات الفلسفة المتمثلة في نسيان وإهمال الوجود، وقضايا أخرى سنعرج عليها في قادم سطور هذه المقالة.
وبالتالي صارت التراجيديا “فلسفة”، باقتحامها مسألة الوجود، لأنه كما هو معلوم للفلسفة ثلاثة مباحث كبرى هي: الوجود، المعرفة، القيم.
تشكل أعمال القدامى (اسخيلوس، سوفوكليس، يوريبيديس)، والمحدثين (مارلو، وشكسبير، ابسن، راسين، كورناي، غوته..) طريقا ملكيا لكشف الحياة السرية للعواطف الإنسانية. ومع أعمالهم –القدامى والمحدثين- صرنا أمام ميلاد للتراجيديا بما هي فلسفة، والأخيرة بوصفها تراجيديا. فأوديب الذي جُعل اسمه لعقدة نفسية باطنية تخترق وجود الشخصية الإنسانية، ما هو إلا أقنوم للتحليل النفسي، وما يهمنا هنا ليس التحليل النفسي بل التأويل الجدلي “الدياليكتيكي” الذي قدمه هيغل لتراجيديات سوفوكليس: أوديب في كولون، وأنتيغون .

إن اعتبار الفلسفة أما للعلوم، واعتبار العلوم والفنون والتراجيديا والشعر والمسرح تفرعات للفلسفة ما هو إلا اختزال للفعالية الإبداعية الفلسفية. لقد شكلت الأعمال التراجيدية الخالدة ملاذا آمنا لفرويد لكي يكتشف اللاشعور، كما أننا نقف عند تخوم العلاقة بين التراجيديا والفلسفة ليس من زاوية التأريخ (أيهما الأسبق)، بل من جانب القبض على نقط التعالق في ما بينهما؛ فالأعمال التراجيدية كشفت عن الصراع الطبقي قبل ماركس، وبحثت في مسـألة الكرامة الإنسانية قبل الحركة الإنسية في عصر النهضة، وانشغلت بثيمة العدالة على وجوه كافة منها السماوية والأرضية، بل صار في المكن القول إن التراجيديا بهذا المعنى تلعب دور المحرك في وظيفة الفيلسوف للنهوض بها أيما نهوض.
من الجلي أن التراجيديا كانت سباقة إلى ثيمات عديدة ومتعددة، منها: الحرية، العدالة، المعرفة، الحقيقة، الكرامة.. وهي عينها ثيمات اشتغال الفلاسفة عبر التاريخ الإنساني.

إن المتابع لحال التشابك والتداخل والترابط الحاصل بين الفلسفة وميادين المعرفة الإنسانية، لا بد له أن يقر أن كل نص نص سواء كان تراجيدياً، أو سرديا، أو فنيا، لا بد له أن ينطوي -صراحة أو ضمنا- على نصوص عديدة ومتعددة. بيد أن مستقر الفلسفة هو الكتابة التراجيدية. لماذا؟ لأن كل توجه فلسفي، وكل تيار فلسفي، لا بد لهما من إنتاج شخصيات مفهومية لا تقل أهمية عن الشخصيات التراجيدية. والعكس صحيح. فهذا دولوز يقول في هذا الباب: “إن الفلسفة لا تكف عن إحياء شخصيات مفهومية وعن منحها الحياة” . ومن الشخصيات التراجيدية التي علقت بالذاكرة الإنسانية على مر الزمن -وستظل-: أوديب، أنتغون، إلكترا، ميديا، هاملت، فاوست، غودو..هذا من جهة التراجيديا. أما من جهة الفلسفة فهناك شخصيات مفهومية نجدها عند أفلاطون وهي عديدة: طيماوس، فيدون، فيدر..بل إن سقراط يشكل أعلى هذه الشخصيات. فسقراط التاريخ ليس هو سقراط الذي يريده أفلاطون، كما يقول بهذا الدكتور رشد؛ فالصيرورة ليست هي عينها الكينونة. أما نيتشه، هذا الفيلسوف التشخيصي dramaturge –كما وصفه دولوز – الذي سينتصر لهذه العلاقة المتداخلة (التراجيديا-الفلسفة)، له من الشخصيات المفهومية الشيء الكثير، فهناك: “زرادشت”، و”أريان”، و”المسيح”، و”يهودا”، وأسمى هذه الشخصيات كلها هو ديونيزوس الذي تحققت معه المماهاة بين الفلسفة والتراجيديا؛ فنيتشه يصير ديونيزوس، والأخير يغدو الفيلسوف. كما أن ههنا يبدأ أفلاطون، كمآل لسقراط، في الوقت الذي يجعل من سقراط فيلسوفا.

إن الجامع المشترك بين الفلسفة والتراجيديا، وبين الفلسفة والعلوم الإنسانية، وبين الفلسفة والدين، هو الدفاع عن الحياة وتحصينها من التفاهة والبلاهة، ومن القصور العقلي والانحطاط، ومن الدوغمائية والظلامية. فالتاريخ الفعلي لكبار كتاب التراجيديا، وتاريخ أعمالهم الخالدة هو نفسه التاريخ الفعلي لكبار الفلاسفة، وأعمالهم الجبارة. والذي مداره على الرقي بالإنسان والقفز به إلى مصاف التذوق الفني الجمالي، والتأمل الفكري الفلسفي.

وإذا اعتقد البعض بأنه ثمة فارق وتباعد بين التراجيديا والفلسفة، فمقام الرد هنا يطيب بالقول: إن هذا الاعتقاد بعيد عن تاريخ الفلسفة كحركة مستمرة في الزمن، متفاعلة مع أحداث التاريخ. وحتى لو افترضنا أن هناك قطيعة وانفصالا، فكيف يمكن أن نباعد بين الفلسفة الوجودية ومسرح المواقف عند سارتر، وفلسفة العبث ومسرح اللامعقول عند كامي، والفلسفة الماركسية والمسرح الملحمي عند بريخت؟ وكيف نتبين الخيط الفاصل بين النفس التراجيدي والوعي الفلسفي في مسار فيلسوف عملاق كنيتشه؟ وبالأوبة إلى البدايات مع سقراط، وأفلاطون، وأرسطو..من يستطيع الجزم بأن الفيلسوف الإغريقي أفلاطون لم يكن كاتبا تراجيديا، وفنانا كبيراً، أرسى دعائم نظرية في المسرح (الحديث والمعاصر) من خلال المحاورات؟ وكيف لنا التعرف على هذه النظرية – نظرية المحاكاة دون ربطها بمجالها؛ ألا وهو مجال التراجيديا. ثم ما معنى أن يهتم هيدغر، فيلسوف الوجود، بالشاعر هولدرلين كشاعر ذي نفس تراجيدي/تفاؤلي؟ وقس على ذلك اهتمام فلاسفة كبار بالتراجيديا_تقويضا أو تقريظا_ على مر محطات تاريخ الفلسفة؛ فهذا سقراط، وأفلاطون، وأرسطو في القديم. وهذا، هيغل، وشوبنهاور، ونيتشه، وشيلر، وهيدجر حديثا ومعاصرة.

إن قدر الفلسفة هو قدر التراجيديا، على مستوى الكتابة والأسلوب، فالفلسفة هي قبل كل شيء كتابة وأسلوب كما ينبهنا دولوز إلى ذلك: “إنه لمن الغريب أن نعتبر أن الفلاسفة ليست لهم أساليب، أو أن أساليبهم ركيكة. ربما نقول ذلك لأننا لا نقرأ كتاباتهم “. كتب نيتشه وأبدع لأنه وجد الخيط الناظم لعلاقة قيل عنها الكثير، لكن بدون إيضاح، هي علاقة ديونيزوس بأبولون؛ وما الديوبولونيا إلا كناية عن الإقامة في حضرة الإلهين، أي العيش داخل الجمع الديوبولوني. ومبتغى هذا المَجمع هو التضايف بين عاشق الكروم، والكاووس ديونيزوس، ورَب النظام والشعر أبولون، الأول تفعيل للانتشاء بالحياة رغم قسوتها والثاني ضرورة قصوى لتفعيل الانتشاء، بهذا المعنى يكون نيتشه قد حقق الفرادة بين ديونيزوس وأبولون = ديوبولونيا. ويعيش داخل هذا اللقاء، ويربو من خلال هذه اللّقيا وينتعش. ومتأتى كل هذا هو تفعيل للمغيب، والمفقود بينهما. وعليه تكون مطالعتنا لمولد التراجيديا قبلا، وفلسفة نيتشه بعداً. منطلق واحد ووحيد هو ما يجعلنا نصفه بالديوبولوني؛ أي أنه في صفة هذا الإله وذلك، في اللحظة نفسها، خارج نزعة التحريم السقراطية، والأفلاطونية، والأرسطية. ومبادئ منطقهم المتحصلة في الثالث المرفوع، كما يقول بهذا الناقد التونسي حاتم التليلي.

أن يكون الفيلسوف ديوبولونيا معناه أنه يقيم مقاما خارج القطيعة والفرقة التي مزقت أوصال المشترك . ومرد هذه التمزقة إلى نزعة قمعية سلطوية أوقعت علاقة الفلسفة بالتراجيديا في شراك معادلتها، وحادت بصيرورتها عن جادة الديوبولونيا بعد أن ظلت تشتغل بعدة مغالطات أبرزها، أن الفرح هو الرقص المقرون بالضحك أو الابتسام، في حين أن نيتشه، يدربنا من خلال الديوبولونيا على أن اللذة والألم ليسا بضدين؛ ومعناه أن الانصراف بتمام الرضا يوجب انقلاب الفضيلة إلى يأس، أو ربما إلى رذيلة جزاءً للخطيئة . من هنا يتضح أن اشتغال نيتشه سيكون من جهة ديونيزوسية، وأخرى أبولونية؛ بِعدّهما تراجيديا مكتملة الأطراف، هي بدورها ستشكل رؤية بعدية وقبلية لعديد الفلاسفة. هذه الرؤية التي جعلت إمكانات الصلح والتعايش قائمة بين الإلهين ومجسدة في الديوبولونيا. ومنه نستشف أن نيتشه لم يكن عدميا بالمعنى الانهزامي الحزين كما فهمه أهل الاحتفال في مسرحنا العربي، حيث وضعوا –بالمناسبة- الاحتفالي ضد التراجيدي وقالوا ها نحن نتفلسف..
لماذا لم يكن عدميا؟ لأن مشروعه في الأصل ضد العدمية، بمعنى أنه مشروع للحياة، والقوة، والمرح التراجيدي .
لعل نعت نيتشه بالفيلسوف الديوبولوني يجعلنا نقر بأن مصير الفلسفة والتراجيديا واحد .

علي علاّوي – باحث مسرحي من المغرب

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش