هذا المهرجان الوطني للمسرح التونسي لماذا ؟ .. الإرادة و الحاجة – د. عبد الحليم المسعودي #تونس

هذا المهرجان الوطني للمسرح التونسي لماذا ؟ .. الإرادة و الحاجة

– د. عبد الحليم المسعودي

    المهرجان الوطني للمسرح التونسي هو استحقاق وطني نابع من الإرادة والحاجة. إرادة السياسة الثقافية التي تنتهجها وزارة الشؤون الثقافية في مزيد من العناية بالشأن المسرحي التونسي كفعل جوهري في العمل الثقافي لما يتمتع به هذا الفن، أي المسرح، من فاعلية جماهرية في التربية والتثقيف والحفاظ على الشخصية الوطنية وذاكرتها الجمعية، وكذلك اعترافا بما برهن عليه المسرح التونسي طوال سنوات التأسيس الوطني للدولة الحديثة، أي منذ مطلع ستينات القرن الماضي في معاضدة كل المحاولات الإصلاحية على المستوى الثقافي والاجتماعي و التربوي, وكذلك لدوره الطلائعي في صقل المواهب والعبقريات الإبداعية ودوره النضالي والدّفاعي عن القضايا المحلية والإقليمية والكونية ومصاحبته لسيرورة تطور الأجيال الناشئة ومقترحاتها حين ندرك قدرة هذا المسرح التونسي على مراكمة كل هذه التجارب الرمزية التي تمكننا من قراءة ما وصل إليه المجتمع من تطور و تحضر على المستوى الحسي والمعنوي .

    أما الحاجة فإن ميلاد هذا المهرجان يعبّر أيضا عن حاجة حقيقية لدى المسرحيين التونسيين أنفسهم. والحاجة هنا حاجات متجددة, لعل أهمّها أن يمكّن الحراك المسرحي التونسي المتواصل من فسحة للمراجعة والـتأمل والتقييم في موعد سنوي يكون مفصلا بين موسم مسرحي منقض وآخر متأهب لإنطلاق, موعد يكون مساحة زمنية ومكانية تتم فيها مراجعة حصاد المسرح التونسي في ظل تناظر ناجعة وضمن روح نقدية و ديمقراطية تسمح لكل الفاعلين في القطاع المسرح بكل أنواعه أن يدلوا بأطاريحهم الفرجوية و مقترحاتهم الفكرية وأسئلتهم حول مشاغل القطاع المسرحي التونسي الذي بات اليوم بحكم التطور الطبيعي للحياة المسرحية وتجدد الفاعلين فيها محتاجا إلى يقضة المسرحيين التونسيين أنفسهم في السهر على مجالهم الإبداعي والدفاع عن مهنتهم و استحقاقاتهم أمام تهديدات مظاهر الاستهلاك الفرجوي باسم المسرح نفسه أو تهميش الفاعلين فيه من منظور التهافت الظهوري الذي نراه اليوم من أطراف أصبحت لها سلطة صناعة الذوق العام و إقرار معيارية ما يحتاجه و ما لا يحتاجه الجمهور.

من أجل الدفاع عن التقاليد المسرحية

    إن المسرح تقاليد أو لا يكون مسرحا. والتقاليد هنا محمودة لا محالة, فهي ليست بتقاليد النكوص أو الارتداد, بل أن المسرح نشأ من أجل محاربتها واختراقها. التقاليد هنا بالمفهوم الذي يذهب إليه رجل المسرح الفرنسي جون فيلار Jean Vilar , أي “التقاليد المسرحية” La tradition théâtrale. و هو ما يعني قدرة هذا الفن على تجديد نفسه من خلال توطين الفرجة المسرحية عند الجمهور, وهذا جزء من التقاليد المسرحية التي من الواجب على المسرح أن يسعى إلى تحقيقها, أي خلق هذه الحاجة عند الناس لمشاهدة المسرح, وخلقُ العادة عند المسرح لكي يُنشئ ويجدّد كل مرة جمهورا جديدا.

    إنها تقاليد بمثابة ” العهد ” أو ” الميثاق ” الذي يلتزم به المسرح تجاه الجمهور من خلال هذه التقاليد. والمسرح التونسي بالذات أقام من خلال تاريخه هذا ” العهد ” مع الجمهور طوال تظاهراته المحلية المتجلية في حشود مهرجاناته المسرحية المتنوعة منذ أكثر من نصف قرن, و لعله بفضل ذلك يكاد يكون المسرح التونسي النموذج الوحيد الذي يستمد قوته وفاعليته من جمهوره, و هو ما يدفنا اليوم أن نعتبر تأسيس هذا المهرجان, المهرجان الوطني للمسرح التونسي تواصلا لتأصيل هذه التقاليد نفسها ومستندا إلى ذاكرتها .

    والناظر إلى هذا المهرجان سيدرك أنه استجابة لهذه التقاليد, إذ هو تواصل ومواصلة لفكرة تظاهرة ” أسبوع المسرح التونسي” التي كانت تقام كل سنتين في سبعينات وثمانينات لاستعراض الأعمال المسرحية التونسية, وقد انقطع دون رجعة هذا التقليد الذي كان يقام في 7 من شهر نوفمبر تذكيرا بخطاب بورقيبة الشهير حول المسرح. و لأن الحياة المسرحية التونسية بعد أكثر من أربعة عقود قد تطورت بشكل متسارع فإن إقامة مثل هذه التظاهرة ( أسبوع المسرح) لا يمكنها بأية حال من الأحوال أن تستجيب لهذا الزخم الذي تعيشه الحياة المسرحية سواء على مستوى القطاع العام أو القطاع الخاص أو على مستوى الاحتراف والهواية وغيرها من الأجناس المسرحية والفرجوية الأخرى (العرائس, مسرح الطفل, الهابنينع, البرفورمونس…) لذلك كان هذا المهرجان تلبية لـ “حاجة داخلية” يفرضها الواقع المتجدد للمسرح والسياق التاريخي والسياسي الجديد الذي يطالبنا بتجديد طراق تعاملنا مع هذا الزخم و التنوع نفسه في حياتنا المسرحية.

    ولعله من باب التقاليد أيضا أن يكون هذا المهرجان بيدرا شاسعا لتنقية هذا الحصاد المسرحي فيكون منصة شاسعة لهذا الإنتاج المتنوع، و مسلكا أساسيا للتوزيع والمشاهدة واحتفالية التسابق من أجل الأفضل, وهو ما يفسر أيضا أن هذه الدورة التأسيسية للمهرجان من تقاليدها الوفاء لأهلها من المسرحيين المؤسسين, وهي قد حملت من أجل ذلك اسم الراحل الفنان المسرحي المنصف السويسي لثقل دلالة وجوده كواحد من الذين أصّلوا الفعل المسرحي خارج الدار الضيقة لحياة العاصمة التي كانت تستأثر بكل شيء.. المنصف السويسي الحاضر داما في مشغلنا المسرحي التونسي من خلال مغامرته التليدة في نهاية ستينات القرن الماضي أي تأسيسه للفرقة القارة بالكاف في نوفمبر من عام 1967 و أثر هذه المغامرة في تعميم التقاليد المسرحية التي وطنتها الفرق الجهوية القارة في كامل المدن التونسية.

الثوابت و الرهانات

    – أولا : كما أن هذا المهرجان على امتداد نشاطه الزمني أي (من 20 سبتمبر لى 13 نوفمبر2019) وامتداده الجغرافي، أي من مختلف المدن التي تحتضن مراكز الفنون الدرامية والركحية الى العاصمة يسمح للأعمال المسرحية بكل أنواعها و تعدد جهات انتاجها بمقروئية Une Visibilité فريدة من أجل رص صفوف الجمهور المسرحي داخل المدن والحواضر والقرى, حتى يكون الفعل المسرحي فعلا مواطنيا بالأساس قائما على ثقافة القرب قاطعا مع حصرية هيمنة العاصمة, علاوة على فوائد تدوير الأعمال المنتجة في هذه الشبكة التوزيعية التي أقامها هذا المهرجان لمزيد من التفاعل والمقارنة والتسابق والتأثر المتبادل .

     – ثانيا : هذا المهرجان و انطلاقا من مبدأ تحقيق المقروئية فهو يعاضد سياسة اللامركزية La politique de la décentralisation الثقافية في مجال المسرح حيث مراكز الفنون الدرامية والركحية هي العناوين الجديدة لهذه السياسة لأنها الشريك الأساسي لهذا المهرجان إضافة للدور الفعال الذي تقوم به المندوبيات الجهوية للثقافة في دعم هذا المهرجان وتنفيذ برامجه و هي الشريك الثالث الأساسي, وقد دعم وزير الشؤون الثقافية هذا البعد بإشرفه على إمضاء اتفاقيات تعاون وشراكة بين المندوبيات الجهوية ومراكز الفنون الدرامية والركحية بتاريخ 16 سبتمبر 2019 خدمة و معاضدة لهذا الدور المحقق لهذه اللامركزية, التي لم ننجح في تحقيقها منذ الستينات, ولكن اليوم بدأت تتوضح على الأقل في المجال المسرحي و يكفينا أن تطلع على مجهودات الشبيبة المسرحية خريجة معاهد الإختصاص المسرحي كيف نجحوا في تنشيط مجالهم الجغرافي المحلي انطلاق من إدارتهم لمراكز الفنون الدرامية والركحية و انتهاجهم مبدأ الشراكات و التشبيك و الإتفاقيات مع أطراف أخرى .

     – ثالثا : يسعى المهرجان إلى العمل على إبراز الخصوصية الثقافية المحلية, و هو ما يراهن عليه المهرجان في إبراز الشخصية المحلية من خلال إبراز مفردات المخيال الجمعي من خلال وعبر المقاربة المسرحية, و إذكاء الذاكرة المسرحية في مختلف المدن المحتضنة لهذه التظاهرة و إبراز تاريخ التراكمات للممارسة المسرحية المحلية عبر التذكير والتوثيق والمساءلة الفكرية و التأريخية عبر جملة من الأنشطة سواء من خلال الندوات أو الموائد المستديرة المخصصة للنقاش أو المعارض.

    – رابعا : أهمية إقامة هذا المهرجان الوطني تتجلى في موضعه الدوري في سياق مسارات الفعل المسرحي طوال الموسم الثقافي, إذ أنه يملأ الفراغ الشاسع لواقع النشاط المسرحي على مستوى فرص العرض و التوزيع, فالمهرجان يحتفي بالحصاد المسرحي ويعاضد جملة المواعيد المسرحية الأخرى المتتالية كمهرجان أيام قرطاج المسرحية ومهرجان فن العرائس وصولا إلى التظاهرات اللاحقة الخاصة باليوم العالمي للمسرح ثم فيما بعد حضور المسرح في المهرجانات الصيفية دون نسيان جملة المهرجانات المسرحية المحلية .

     – خامسا : التتويج والتكريمات, هذا المهرجان الوطني للمسرح التونسي يشكل مساحة وموعدا هاما لتكريم و تتويج المساهمين في الحركة المسرحية التونسية من مختلف الأجيال, و هو تعبير عن وعي وزارة الإشراف بضرورة العناية المعنوية وإعادة الاعتبار الذي يليق برجالات المسرح نساء و رجالا في مختلف مواقعهم من العملية المسرحية , ذلك أن المسابقة جزء من هذا الاعتبار و التثمين و التتويجات و التكريمات علامة هذا الاعتراف .

     – سادسا : بعث هذا المهرجان نابع من قرار سيادي. إن هذا المهرجان هو مهرجان تونسي خالص وبإمكانيات تونسية وفرتها وزارة الإشراف, و هو مهرجان وطني نابع من قرار سيادي ومن رؤية وطنية تقطع مع كل وصاية على الشأن المسرحي الوطني, وتقطع مع حالة التهميش للفاعلين في المسرح التونسي و الحد من هيمنة مجموعة مسرحية بعينها على مجموعات مسرحية أخرى من أجل دمقرطة الفعل المسرحي كفعل ثقافي مواطني.

المصدر – د. عبد الحليم المسعودي

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش