هارولد بنتر وأهتمامه بالمسرح المعاصر

 ولد هارولد بنتر (Harold Pinter)في 10أكتوبر 1930م في حي هاكني بشرق لندن ويرجع أصل والديه إلى يهود البرتغال. كان بنتر وحيد أبويه والتحق بمدرسة هاكني الابتدائية وفيها قام بدورمكبث، ثم بدور روميو في مسرحيتي ويليام شكسبير (مكبث) و (روميو وجوليت) على التوالي. أما أول مرة يذهب فيها بنتر إلى المسرح فقد كانت لمشاهدة الممثل الإنجليزي دونالد وو! لفث يؤدي دوراً في إحدى مسرحيات شكسبير، وبعدها ذهب إلى المسرح ستة مرات لمشاهدة نفس الممثل ووصل الأمر إلى أن مثل بنتر دورا ثانويا مع وولفث في مسرحية بعنوان (أحد فرسان الملك).
جاء اهتمام هارولد بنتر بالمسرح بعد أن تجاوزعمره عشرون عاماً. في العام 1948م وبناءً على توصية من المخرج الإذاعي والمسرحي ر. د. سميث تقدم بنتر بطلب معونة مالية من أجل دراسة التمثيل في الأكاديمية الملكية للفنون المسرحية، وقد حصل على المعونة ودرس في الأكاديمية لمدة فصلين دراسيين تقريبا إلا أنه فيما بعد ترك الأكاديمية بمحض إرادته، ثم رفض بعدها الانصياع للأمر العسكري بالتحاقه بالجيش والخدمة في صفوفه فقدم للمحاكمة كمعارض للخدمة العسكرية، وكانت معارضته لأسباب إنسانية محضة وللتعبير عن رفضه المطلق لفكرة الحروب والاحتكام بالسلاح.
وفي العام 1949 عمل هارولد بنتر مع فرقة مسرحية متنقلة اسمها (ماك ماستر) وطاف معها ايرلندا على مدى ثمانية شهور، وكان يعمل باسم مستعار هو (ديفيد بارون) وظل يعمل بهذا الاسم لمدة تسع سنوات، وقد طاف إنجلترا ممثلا مع فرقة (السير دونالد وولفث). وبجانب اهتماماته المسرحية قرض هارولد بنتر الشعر وكتبا النثر في فقرات قصيرة، كما كتب رواية تشبه روايات السيرة الذاتية لكن ما لبث أن أقر بعدم رضاه عنها كرواية. وفيما يتعلق بالتمثيل المسرحي فقد أحب بنتر التمثيل حبا جما حتى أنه قام بأداء دور (غولد بيرج) في مسرحيته (حفل عيد ميلاد) التي كتبها هو نفسه. لقد عمل هارولد بنتر في شبابه حارساً ونادلاً وغاسل أطباق وبائعا متجولاً وفي العام 1955 تزوج من الممثلة (فيفان ميرسانت) التي تعرف عليه! ا في إحدى جولاته المسرحية.
في العام 1957 طلب منه أحد أصدقائه أن يكتب مسرحيه لقسم الدراما بجامعة بريستول الإنجليزية فكتب باكورة أعماله مسرحية (الغرفة) ، وقضى أربعة أيام في كتابتها وقد كانت مسرحية (الغرفة) بداية لإنتاج مسرحي تواصل لمدة ست سنوات، ففي نفس السنة كتب بنتر مسرحية (حفل عيد ميلاد) وهي المسرحية التي استقبلت استقبالاً غريباً عند جمهور لندن فلم يشاهد العرض النهاري الأول لهذه المسرحية سوى ستة أشخاص. أما مسرحية (الحارس الليلي) التي كتبها عام 1960 فقد كانت بمثابة أول نجاح أدبي ومادي يحققه بنتر، ثم كتب بنتر لدور العرض ، وللإذاعتين المرئية والمسموعة فكتب لهم (الخادم) و (آكل القرع العسلي) و (حادث) و (الوسيط) وفي العاام 1961 انتقل بنتر إلى غرب لندن فاختلفت عليه الحياة بانتقاله لوسط راق ! فكتب هذه المرة وكأنه يكتب لجمهور مختلف فقدم مسرحية (المجموعة) وهي المسرحية التي استقبلها الجمهور اللندني بشيء من الحيرة وعدم الفهم، إلا أنها لاقت نجاحاً واضحاً عندما مثلت على المسارح الأمريكية، وقد فسر هذا النجاح بأنه عائد لمشاهد حسية عاطفية احتوتها المسرحية. وتواصل نجاح هارولد بنتر فحصل في العام 1966 وبالتحديد في شهر يونيو منه، على شهادة تقدير من المندوب السامي البريطاني ضمن قائمة تشريفات عيد ميلاد ملكة بريطانيا (يونيو 1966) وبعدها في سبتمبر 1970 حصل علة درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة ردنج في وسط إنجلترا.
 
كانت مسرحية (أيام غابرة) 1970 رابع مسرحية طويلة يكتبها هارولد بنتر وفي العام 1975 كانت مسرحيته الخامسة بعنوان (أرض محايدة) وهي المسرحية التي قوبلت باستحسان النقاد والجمهور على حد سواء فلم نسمع عن ناقد أو أديب لم يستحسنها. وبعدها كتب بنتر مسرحية طويلة من فصل واحد سماها (خيانة) 1975 وفي هذه المسرحية بدت ملامح التغيير العام في أسلوب بنتر، وفي العام 1980 قدم لنا بنتر مسرحية (أصوات عائلية) وقد عكست أصداءً لمسرحيته الأُولى ( الغرفة ). وفي العام 1982 كتب بنتر مسرحية (نوع من ألآسكا) في فصل واحد وفيها أعطى بنتر بعداً عميقاً لطبيعة النفس البشرية ولعامل الزمن دون استخدام لغة مفرطة ثم كتب في نفس العام (محطة فكتوريا) ، وتبعها ! في العام 1984 بمسرحية قصيرة جدا سماها (واحدة للطريق) وضح فيها غضبه العارم على ما يدور في المجتمع وقد استخدم لذلك لغة موغلة في العامية والسوقية. وقد واصل بنتر في باقي مسرحياته لغة الحوار المبتور دائماً وتعداها في مرات عديدة إلى لغة الصمت، حتى أنه سمى احدى مسرحياته المتأخرة (الصمت).
 
على أي حال يقول هارولد بنتر عن الفكرة الأساس في مسرحياته ، انه دخل ذات يوم غرفة وبها زوجان: “هذا الأمر علق في ذهني لفترة ورأيت أن المخرج هو التعبير عن ذلك في صورة درامية فبدأت بصورة هذين الاثنين ، ومن هناك بدأت رحلتي ، لم تكن المسألة انتقال من أسلوب إلى آخر. لقد كانت حركة طبيعية أما النتيجة فقد أخرجها صديقي هنري وولفث في (الغرفة) في جامعة بريستول.”
 
تعتبر (الغرفة) حجر الأساس في كل أعمال هارولد بنتر ونظرا لأهميتها فإنني في هذا السياق أود ان أتحدث بشيء من التفصيل عن هذه المسرحية الأم ، فلو نظرنا إلى (الغرفة) لرأينا أن الفكرة الأساسية جاءت كما قال بنتر في اكثر من مناسبة وموقع، من رؤية شخصية لاثنين يعيشان في غرفة صغيرة ، والغرفة هنا محاطة بكل ما يشعر به هارولد بنتر بين ثناياه من مقت وبغضاء وكراهية، وما يسود هذا الجو العام من رائحة الحقد الدفين والرغبة الملحة في الانتقام من آخرين. وفي مسرحية ( الغرفة) نرى زوجان وقد جلسا في غرفة ويبلغ أحدهما من العمر الخمسين عاما ويدعى بيرت ، ومعه زوجته العجوز في الستين من عمرها واسمها روز. المرأة روز تقدم للرجل بيرت كل ما يمكنها تقديمها له ابتغاء تحقيق راحته ونيل رضاه ، بينم! ا يقضي هذا الرجل جل وقته في قراءة الصحف في صمت أي بقراءة صامتة، بل ويظل بيرت صامتا دون أدنى نوع من ردود الفعل نتيجة خدمات المرأة روز وكأنها غير موجودة أصلاً. وفجأة، يدخل إلى الغرفة رجل مسن يدعى مستر كييد إلا أن بيرت يبقى على حاله صامتاً، وترى روز في مستر كييد شخصية مالك البيت فتسأله عن المستأجرين في الطابق الأرضي، إلا أن مستر كييد لا يجيب على سؤالها ويبقى صامتاً أيضاً وكأنه لم يسمعها، وفي مناسبة أخرى بيما كانت روز تضع صندوق القمامة خارج باب الغرفة رأت زوجين صغيرين في مقتبل العمر يبحثان عن غرفة يستأجرانها فأزعجها هذا الأمر، وعندما رجع مستر كييد سألته روز: كيف يفكر الناس ان غرفتها ربما تستأجر. كييد لم يجبها عن سؤالها ، ومع ذلك نراه يخبرها عن المتطفل الذي ينتظر منذ أربعة أيام لكي يتمكن من التحدث معها، ولكنها ترفض استقباله فيقول لها مستر كييد أن المتطفل سوف يأتي عند حضور بيرت، فتراها توافق على مقابلته وعندها يغادر مستر كييد الغرفة وتظل روز بمفردها. وينفتح الباب ويدخل زنجى أعمى فتشعر روز بالخوف والغثيان. الزنجى حمل لها رسالة من أبيها وقد سعدت بها، وعودة بيرت كانت بمثابة صدمة لها عندما ! تكلم عن عودتة فجأة، وعن السرعة التي قاد بها شاحنة في طريق العودة إلى البيت وفجأة ينتبه للمتطفل فيصرخ بيرت صرخت استغراب ثم يهاجم الزنجي ويضرب رأس الزنجي عدة مرات في موقد البوتجاز حتى يسقط الزنجي على الأرض بلا حراك. تتحسس روز عينيها. … لقد فقدت بصرها. كان وصول مسز ومستر ساندز المفاجئ في محاولتهما البحث عن مالك البيت وبالذات مالك الغرفة، من أسباب زيادة خوف روز من الطرد قبل ان يظهر الزنجي الأعمى ويحضر إلى الغرفة، وقد بدا يكتنف الموقف وروز نفسها الغموض والحيرة والارتباك وعدم الثقة في النفس و عدم الثقة في الآخرين سواء في المعارف، أو الغرباء. هذا الأمر كله بدا واضحا في موقف روز وتصرفاتها فهي خائفة من الزنجي وتخشى قدومه إلا أنها تدافع عنه وتقبل به وتهتم به على إعتبار أنه مبعوث أبيها. ونرى أيضا كيف تستقبل هذه المرأة ذلك الزنجي الأعمى كأب إلا أن زوجها يضرب الزنجي حتى الموت لأنه مثل له نذير وصول الأب، ثم نرى المرأة تستدير ناحية الأب الذي يناديها باسم العشق السري لأن زوجها لا يتكلم البتة، لكننا نفاجأ بر! ؤية الزوج يخرج عن صمته ليغني أغنية حب لسيارة الشحن التي يمتلكها ولا يغني لغيرها. هذه الرؤية زادت من عنصر التشويق في المسرحية فعندما شاهدنا روز تصدم بعمى الزنجي عند نهاية المسرحية، ثم يبدو زوج روز عدواً لها وليس الغريب الذي خشيت وجوده، ذلك الغريب الذي ما كان غريبا على الإطلاق. ويرى البعض أن وجود الزنجي في المسرحية يعد تعبيرا عن الأفكار الدفينة عند روز، تلك الأفكار التي تنبع من أعماق البيت، كما أن هجوم الزوج على الزنجي هو هجوم عنيف على الأفكار الدفينة تلك، وعلى الرغبات العميقة لهذه الزوجة في هجر زوجها.
 
بعدئذ قام بنتر بتوظيف الغرفة في كل أعماله المسرحية ففي مسرحياته المبكرة استعارة (الغرفة)، وهي تلك الغرفة التي شكلت محوراً هاماً وبعداً لا غنى عنه في كل أعمال هارولد بنتر، فالغرفة، والفراغ المحدود، والسياق الاجتماعي أبعاد ثلاثة غزاها الغرباء، هؤلاء الغرباء الذين دافع عنهم سكان البيت دون وجود الأمل في تغييرالواقع وقد وضحت هذه الأبعاد في مسرحيات (الغرفة) و (حفل عيد ميلاد) و (ألم خفيف) و (الحارس الليلي). ولنقرأ هنا ما قاله هارولد بنتر بنفسه حيث قال: “شخصان في غرفة … إنني أتعامل ولوقت طويل مع هذا التصور لشخصين في غرفة. يرتفع الستار عن المسرح فأراه سؤالا ضروريا: ماذا سيحدث لهذين الشخصين في غرفة؟ هل سيقوم شخص ما بفتح ا! لباب والدخول؟” ويعلق بنتر على هذا الموقف الدرامي قائلا: “من الواضح أنهما مرغوبان عند الذين في خارج الغرفة، فخارج الغرفة عالم يتحامل عليهما، وهو الأمر الذي يخيفهما… نحن جميعنا في هذا، جميعنا في غرفة وفي الخارج يوجد العالم … المخيف، وصعباً على التحليل ويثير الفضول وينذر بالخطر… شخصان يصلان من مكان مجهول … أنا لا أعتبر هذا حدثاً سيريالياً لأن هذا النمط من الناس الذين يصلون إلى الباب كان يحدث في العشرين سنة الأخيرة في أوروبا. ليس في العشرين سنة الأخيرة وحسب بل في المائتين أو الثلاثمائة سنة الأخيرة”.
 
ومع وضع مفهوم (الغرفة) عند هارولد بنتر في البال، فإن مسحاً شاملاً لمسرحيات هارولد بنتر سوف تبين لنا بكل جلاء أهمية عمله الدرامي الأول ( الغرفة) فهذه المسرحية تعتبر الأساس الذي بنى عليه كل تاريخه في الكتابة المسرحية، وسيتضح للقارئ كذلك مدى تأثر هارولد بنتر بمفهوم الغرفة التي يقطنها عدد محدود للغاية من الشخصيات غير المتجانسة، ومن خلال هذا يتعامل هارولد بنترمع العلاقات الذاتية والداخلية لبني البشر، ويتعامل أيضا مع طرق تعامل الناس مع بعضهم البعض، وهي تلك الطرق التي دائما ما يراها هارولد بنتر، طرقاً فاشلة في التعامل.
 
من المهم أن نذكر أيضاً أنه يغيب عن مسرحيات هارولد بنتر عامل التاريخ فكل شخصياته تعيش بلا تاريخ وينقصها الحماس، ورموز وحوارات هذه الشخصيات دائما غامضة … يعكس مسرح هارولد بنتر ” صورة واقعية ” للحياة الأوروبية فهو مسرح يصور جزء … رغم أنه الجزء المظلم”. يصور مسرح بنتر بطريقة درامية الظروف النفسية للمجتمع الأوروبي، ويمر في مسرحياته مرورا بوقائع تعكس دائماً واقعا آخر فنرى الشخصيات تستخدم تعبيرات يقصد الكاتب منها نقل معلومات معينة عن الحياة الأوروبية. وعلى سبيل المثال نقرأ أسماء أماكن عديدة في مدينة لندن في مسرحية (الحارس الليلي) وأسماء أنواع المشروبات في مسرحية ( ألم خفيف! )، وأسماء أنواع المأكولات في مسرحيات (النادل الأخرس)، وتعبيرات تتعلق بالتزيين والتجميل في مسرحية (حفل عيد ميلاد) واللغة السوقية في (لغة جبلية).
 
وعود على بدء نقول أنه جاءت مسرحية (الغرفة) لتقدم نموذجاً هندسياً للعائلة الأوروبية في المستقبل القريب، وسرعان ما صارت هذه الغرفة بتركيبتها كما صورها هارولد بنتر، صارت الآن هي النمط الهندسي المعماري الأكثر شيوعاً وانتشاراً في أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا بل والمجتمعات الغربية الثقافة أيضاً ، وقد أطلق عليها اسم “إيفشنسي” وهذه الكلمة الإنجليزية تعني “المكان الكافي”، ويستخدم هذا النوع من البناء الهندسي لإيواء شخص واحد أو اثنين على الأكثر.
 
إن نظرة فاحصة لمسرحيات هارولد بنترسوف تبين لنا، من بين أمورأخرى، مدى ثورة هذا الأديب على منهاج الواقعية أوالطبيعة في المسرح الحديث خاصة وأن الواقعية سمة غلبت على الدراما الأوروبية بشكل عام وعلى الدراما الإنجليزية كجزلا يتجزأ منها. انها تلك الواقعية التي ازدهرت مع بدايات القرن العشرين والتي تمثلت في أعمال الأديب النرويجي هنريك ابسن 1832 – 1906 وهو رائد مسرحي متميز وصاحب مدرسة الواقعية في الحياة المعاصرة، ثم السويدي اوغست ستريندبيرغ 1849 – 1912 ، والذي انتقل من المدرسة التعبيرية إلى المدرسة الواقعية فأبدع فيها وأغنى عشاقها بمسرحياته ثم الأيرلندي جورج برنارد شو 1899 – 1950! وهو الكاتب الفابي والعضو المؤسس في الجمعية الفابيه ]الفابيه هي منهج فكري يحمل الكثير من أفكار الماركسية وقد سماه البعض بالماركسية الإنجليزية[ وقد اتسمت كتابات بيرنارد شو بالواقعية الساخرة على المجتمع، ثم كان سومرست موم 1874 – 1965 وهو الروائي والقاص والمسرحي صاحب المسرحيات الاجتماعية الو! اقعية التي عبرت بأسلوب ساخر عن آراء كاتبها، ثم نويل كوارد 1899 – 1973 كاتب الهزليات الشهير الذي وجه سهام اللوم على مجتمعه توجيهاً جعل الكثيرين من النقاد يصفونه وكتاباته بالوقاحة، وقد ذاع صيت نويل كوارد في العشرينات من هذا القرن، وهذا قليل من كثير في عالم الدراما الحديثة. … كل هذه المحاولات المتعددة والمتباينة الأسلوب والمنهج حاولت إصلاح المجتمع إما بالكتابة الواقعية أو بالنقد الهزلي والساخر، إلا أنها لم تمنع ظهور العبثيين الذين جاءوا أكثر غضباً وتشاؤماً فخرجوا عن كل ما هو مألوف في تاريخ المسرح العالمي شكلاً ومضموناً.
 
ضرب كتاب مسرح العبث، بمن فيهم هارولد بنتر، بعرض الحائط كل المفاهيم والمعايير التي كانت تقاس عليها الدراما فها هم يتجاهلون في ثورة واضحة المعالم عبقرية أرسطو وطروحاته الثلاثة في الحكم على العمل الدرامي الجيد الا وهي: العقد والزمان والمكان، فلم تظهر أي عقدة في مسرحياتهم وأستبدلوها بالحوار وكان ذلك الحوار مبتوراً وغلبت عليه العامية وأحيانا السوقية ولم تستطع الشخصيات فهم بعضها البعض، مع اعتقاد كل واحد منهم أنه مدرك للحياة تماماً بينما لا يستطيع الآخرين ادراكها. أما المكان عند أرسطو فقد جعلوه محدوداً للغاية فهو شجرة كما في مسرحية صاموئيل بيكيت (في انتظار غودو) وهو كرسي كما في مسرحية جان جينيه (الكراسي) وهو غرفة كما في مسرحية هارولد بنتر (الغرفة). وأما الزمن عند أ! رسطو فقد صيروه ليكون غير ذي أهمية فها هي شخوص مسرحية (في انتظار غودو) تنتظر غودود منذ الخمسينات من القرن العشرين ويموت بيكيت في العام 1990 ولم يصل غودو بعد، ولن يصل. ربما يكون غودو هو المخلص الذي ينتظرة الأوروبيين لحل مشاكلهم الاجتماعية وهمومهم النفسية التي ورثوها من الحربين العالميتين وما جلبته لهم من ويلات ودمار وصل إلى ذواتهم فسكنها. وفي (الغرفة) نرى بيرت هض يقرأ صحيفة غير مهتم لعامل الزمن. تجدر الاشارة إلى أنه لم يتمرد أحد على مدي تاريخ المسرح العالمي على طروحات أرسطو سوى العبثيين فقدموا كل ما هو مغاير لأرسطو في شكل المسرحية ومضمونها.
 
وفي «العودة الى البيت» مجموعة اشخاص يعيشون في منزل واحد، لا يتحمل احدهم الآخر ومع هذا هم بحاجة اليه: مشاجرات عنيفة، ثم هدوء، ثم مناقشات عقيمة، ثم هدوء، ثم مواجهات ومواقف وكلمات تتطاير و»تتحول مثل الافاعي والضفادع في قصص الجن والاساطير..» الرجل يسعى الى فرض رجولته والمرأة هنا شاهدة على كل هذا.. ولكن في كل ما تقوله شخصيات هارولد بنتر: من يجرؤ على القول إنه يتذكر كل الكلمات، او قد فهم كل الكلمات التي يقولها على الخشبة: انه الهذيان الكلامي الموظف في حركة هائلة للخشبة: ايمانويل سينييه تمثل الجمال المقرون بالكآبة في مواجهة لويس غارييل الغاضب والقاسي وتطلع من هذه المواجهة حوارات تتطور وتتشعب. وفي هذه المسرحية التي عالج فيها بنتر الأجواء العائلية المشحونة يوزع الأدوار في اطار يظهر قسوة الانتماء الى دور لا رجوع عنه: برونو غانز يلعب دور رب العائلة وهي جزار ويبلغ 70 عاما الى جانب اخيه الأصغر ويبلغ 63 عاماً ويعمل سائق تاكسي، اما ميشا ليسكو فهي الثلاثينية الجميلة ولويس غاريل شقيقها الأصغر الذي يحلم بالنجومية في لعبة الملاكمة. اما الأخ الثاني والذي يعيش في أميركا، فهو استاذ فلسفة ويعود ذات يوم مع زوجته روث اي الممثلة ايمانويل سينييه. ومع دخول روث تكون المرأة الغريبة الأولى التي تدخل الى المنزل منذ وفاة «جيسي» الوالدة.
 
هذه المسرحية لهارولد بنتر كتبها عام 1964 الى جانب مسرحياته الثلاث الأولى: «الغرفة» عام 1957 و»حفلة عيد الميلاد» عام 1958 وبعدها «الحارس» عام 1960، جعلت عمله يصنف على انه من «كوميديا التهديد» حيث تبدأ المواقف والحوارات بشكل بريء جداً ثم لا تلبث ان تتطور بطريقة عبثية لأن الشخصيات غالباً ما تتصرف باساليب غير مفهومة، لا من قبل الجمهور ولا حتى من قبل بقية الشخصيات الى ان تصل الى تطورات تحمل رموزاً ومفاهيم غامضة وغير ملموسة يشعر بها المشاهد وكأنها ألغاز واسرار تولد على الخشبة وتتطاير مثل عصافير مهاجرة أو افكار هائمة… انه هارولد بنتر بكل جنونه الموحي وبكل انسانيته المتوارية وراء شخصياته في اعمال اعتبرتها جائزة نوبل التي كرمتها وحسب قول لجنة التحكيم: «انها تكشف الهاوية الموجودة خلف قوى الاضطهاد في غرف التعذيب المغلقة».
وقد استحقهارولد بنتر في  أكتوبر 2005 منحه  جائزة نوبل اعترافاً منها بمساهماته الأدبية والمسرحية  ودورها الفاعل في تطور الفن المسرحي المعاصر  في القرن العشرين.
—————————————————–
المصدر : مجلة الفنون المسرحية – محسن النصار

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *