نساء برشت المقدسات

 

 

لطيف الحبيب

دع المرأة حيث هي!

لديها ذراعيها وساقيها أيضا

كما ترى،

فلا علاقة لك بها اكثر من ذلك ايها الرب 

انها قادرة وحدها على الخلاص. 

برتولد برشت

لم تغب عن ذهن الباحث الاوروبي في تاريخ المبدع من ابناء جلدته جزئيات الحياة اليومية التي يعيشها او عاشها , فهي عناصر مهمة في تكوين البحث الجاد , ومفصل اساس في سيرورة الانتاج الابداعي المتميز في العلوم والفنون والادب وكل اشكال المعرفة الانسانية , فالاكل والشرب والنوم والسهر والنزهة ,علاقاته الاجتماعية ,الحب والعشيقات والزوجات ,”بانورما”يمكن النفوذ من خلال بعض مشاهدها الى عالمه الخاص, غالبا ما يتضمن المنتَج الابداعي في نواحيه المعرفية المتعددة جزء من شخصية المبدع ,وبعضها الاخر , تسردها رموز ولمسات تتبطن النص, وتعلن بشكل دقيق وتفصيلي عن نزعات الشاعر والتشكيلي والروائي وكل من ابدع , افصح برشت عن طباعه وسلوكه وبعض عاداته اليومية واودعها في شخصية بطله”بعل”في اولى مسرحياته عام 1918. اما نحن فطرحنا برشت معلما جادا مقطبا لا يعرف المزحة والعشق, خضنا وجدفنا في اطروحات مسرحه الملحمي والتعلمي وقيمناه وقرأناه كاتبا واقعيا اشتراكيا , لم نلتفت الى ديونه الشعري ,لم نتحسس علاقته الانسانية وعشقه للنساء, مثلما البسنا”روزو لوكمسبورغ”لبوس العفة النضالية وانتزعنا عنها انوثتها , وجزعنا في”فلم رزا”حين تضاجع حبيبها في فراش جميل على الشاشة البيضاء واقسمنا اغلظ الايمان , ان روزا لا تفعل مثل هذه الافعال , انها مناضلة وما هذه اللقطة الا تشويه لعفتها. 

عندما نشرت”قصائد عن الحب”لبرتولد برشت لأول مرة بعد وفاته، تصاعدت موجات حادة من الانتقادات اللاذعة ضده , وتنافس النقاد في الشجب والاتهام , ودونت عبارة ما كان احد يجرئ على طرحها في حياة برشت ,مثل”اصوات باهتة بائسة من الشعر”أو”وصفة شهرية من صيدلية منزلية”,”قصائد تكنوقراطية جنسية من محرك معطوب”, استعر واندلع النزاع مرة أخر حول حياة برشت الخاصة, ولا سيما علاقاته مع شريكات حياته، تستحضر القصائد مرة أخرى صورة برشت المتساهل والمتراخي امام جمال وانوثة المرأة.

تابعت الكاتبة”سابينا كيبر”من المهتمين بتاريخ برشت”مقالات النقاد , وبطريقة شخصية جدا, اعدت مقالاتها للرد على المادة النقدية التي استخدمها النقاد ,عبر دراسة السير الذاتية وتراجم شخصية لحياة برتولد برشت , نشرت في الآونة الأخيرة ,والبيانات والتصريحات والحكايات وما شابه ذلك ,المتوفرة في صحافة ذلك الزمان , خلال قراءتها التحليلة وتفسيراتها الجديدة لقصائد برشت الغزلية, توصلت وطرحت وجهة نظر مثيرة للدهشة. 

“المساواة والاستقلالية للمحبين، والبعد والقرب، وحتى الخلافات هي تبادل للقوة والضعيف بين الشركاء الرجل والمراءة، مفاهيم ميزت العلاقة بين برشت والنساء،على الرغم من ما تسببه هذه المفاهيم من معاناة وصراعات بينهما”, هذا القراءة كانت وما زالت مساهمة مثيرة للاهتمام بوجهات نظر برشت المثيرة للجدل حول علاقاته بالنساء, وأيضا مساهمة لنقل الحوارالجاري حول العلاقات بين الشركاء والعشاق والمحبين، وهم الناس الذين، مازالوا يحملون صفة امرأة ورجل.

لم يُظهربرشت من خلال الكتابة اوعبر نصه أن حبَّه للمرأة  كان مجازيا ورغبة للاقامة في ملذات مفاتن جسدها، انه يعشقها من خلال عملها المتفرد الذي تمارسه، من خلال خصوصيتها الاستثنائية التي تربط المجتمع بالعالم، فلا يمكن ان تختلف المرأة عن الآخر ان لم تكن متفردة في خصوصيتها , فخلال حياته القصيرة نسبيا،عشق برشت الكثير من النساء، تصفه حبيبته في بدأ شبابه”باولا بانهولزر”, ابنة تشارلز بانهولزر، طبيب ممارس شهير متخصص في اوغسبورغ ولدت عام 1901″أنه دائما مهذب، لطيف  مثير للاهتمام    وساحر للغاية. في عام 1919 أنجبت ابنها فرانك منه ,ولكن برشت لم يتزوجها. اقترن لاحقا بزوجته الأولى الممثلة”ماريانا تسوف”ولدت في النمسا عام 1893, ابنة مفتش السكك الحديدية وأخت الكاتب أوتو تسوف , درست التمثيل والغناء في فيينا، ولدت بنته”هانا”في عام 1923 ,لكن هذا الزواج لم يدم طويلا , ففي العام نفسه بدأ علاقة غرامية مع الممثلة”هيلينا فايجل”في سن السادسة والعشرين ,ولد له الطفل الثالث”ستيفان”منها, في تلك السنوات الأولى كان لديه ثلاثة أطفال من ثلاث نساء مختلفات. في عام 1924 طلق برشت زوجته الاولى الممثلة ماريان تسووف، و تزوج بعد خمس سنوات، في عام 1929، من صديقته التي رافقته فترة طويلة،”هيلينا فايجل”, ولدت1900 في فيينا ابنة مدير وصاحب شركة لصناعة اللعب.

بعد ان اكملت مدرسة الدراما في فينا عام 1919، سافرت إلى فرانكفورت وبرلين ودرست الدراما على يد ماكس راينهارت عام 1922. استمرعقد هذا الزواج حتى وفاة برشت 1956, محفوفاً بمخاطرانفراطه لعلاقات برشت المستمرة بنساء أخريات. 

كان برشت يرى استقلاليته الخاصة هي الأكثر أهمية في حياته وحرياته الشخصية لا يُعلى عليها ,لا يمكن ان تحكمها عقود الزواج  او يتخلى عنها بسبب اشتراطات اجتماعية,كان يرفضها جملة وتفصيلا. امرأة مهمة أخرى من العاملين معه , برزت في حياته كانت عاملا مهما في نجاح بعض اعماله”إليزابيث هوبتمان”ولدت عام 1897 بنت طبيب، معلمة وكاتبة، فمسرحية”أوبرا القروش الثلاثة”لم تتكلل بالنجاح, لولا ترجمتها من قبل اليزبيث من الإنكليزية إلى الألمانية. 

في وقت مبكر من اعوام الثلاثينيات بدأت علاقة حب مع زميلته وصديقته”مارغريت شتيفن”,كانت كاتب ومترجمة وممثلة ,لها إنجازاتها الادبية الخاصة ولكنها بقيت تحت ظل برشت. سافر برتولد برشت مع عائلته إلى الاتحاد السوفييتي للعبور الى اميركا كان الطريق الأخير السالك إلى الولايات المتحدة من دون الوقوع في قبضة حكومة هتلر , رافقته صديقته”مارغريت شتيفن”،وكانت مصابة بمرض التدرن الرئوي الخطير في ذلك الوقت، غادر برشت وعائلته الاتحاد السوفيتي ,و بقيت مارغريت في المستشفى , في طريق رحلته إلى الولايات المتحدة علم بوفاتها ,رثاها بلوعة”هوى جنرالي / سقط جنديي / غادرني معلمي / تركني تلميذي / ممرضتي عادرتني / انتزع طفلي من حضني.

آخر علاقات برشت الغرامية مع الصحفية والمصورة الممثلة”روث بيرلاو”وتكنى”روث الحمراء”ولدت عام 1906في كوبنهاغن. تذكر”روث بيرلاو”وبفخر في مقابلة صحفية، انها تحرص على توفير قهوة الصباح لبرشت الذي ينهض دائما في وقت مبكر في المنفى الفنلندي ,لا غنى له عنها ليبدأ عمله , روث بيرلاو عضوة الحزب الشيوعي الفنلدي والمناضلة من اجل تحرير المرأة وتمكينها من حقوقها , توفر لبرشت القهوة في اشد ازمات البن في فلندا , استأجرت روث فندقا قريبا من سكن برشت وعائلته , يقدم فيه افطارا صباحيا مع القهوة , كانت تعبأ القهوة في وعاء تحمله في حقيبتها اليدوية دون أن يلاحظها أحد من ضيوف الفندق كل صباح، وتهرع خارج الفندق مسرعة الى سيدها برشت ,الذي ينتظرها الساعة السابعة صباحا مطلا من نافذة منزله , ولكن هل تذوقت روث قطر من القهوة الثمينة؟ لم تصرح بذلك. كانت تقوم بالمهمة دون ان تتبادل معه كلمة واحدة , يزورها برشت الساعة الثالثة عصرا بعد ان ينجز ما اختمر في ذهنه على الورق , ويبدأ نقاشه معها حول ما كتب”وتقول روث انها يتحدث اليها فقط عن اعماله”,في نفس المقابلة كشفت روث المزيد من التفاصيل حول الرعاية الانثوية الشفافة والشاملة التي تحيط حياة برشت دوما من قبل نسائه ,وتحدثث ايضا عن زمن برشت في هوليود تقول: في االوقت الذي كانت هيلين فايجل تنقل مخطوطات برشت باليد في غلاف جلدي وتنجز اعمال البيت والعناية بالأطفال, كان الشاعر يتناول طعام الغدا دائما معي في هوليوود. لم تتمكن هيلين فايجل من فهم علاقات زوجها وحبه لمارغريت شتيفن والعديد من النساء، رغم ذلك بقيت معه منشغلة في الاهتمام بالأطفال والعودة إلى التمثيل ثانية. بعد وفاة برتولد برشت 1956 أسست هيلين فايجل”أرشيف برشت”,يقع الآن في الطابق الثاني في شقة برشت في شارع شاوسيه 125. عاشت هيلينا في شقة برشت حتى وفاتها1971, كان السكن ملاذا لها للنهوض بأعباء العمل بوصفها ممثلة للأدوار الكبيرة لمسرحيات برشت ومخرج لمسرح”برلينر انسامبل”.والمسؤول عن ارث برتولد برشت, ليس بعيدا عن مسكنه وهيلينا فايجل دفن برتولد برشت في مقبرة دوروتن شتيدشن.

قرأنا الكثير عن الرعاية والاهتمام الأنوثي الذي أحيط به برشت في حياته ,وطفحت طاحونة القيل والقال , وستستمر هذه التقولات خاصة بعد وفاته الى دهر ,طالما بقيت اعماله تثير دهشة واهتمام النساء وهذا ديدن كل عبقرى. في سنوات لاحقه بعد وفاة برشت, قررت احد العاملات المنظفات في مسرح البرلينر انسامبل, ان تزور قبربرشت في مقبرة دورتين شتيدشن ,وقفت المرأة عند قبر برشت ,انتابها غضب شديد لما لحق قبر هذا العظيم من اهمال وقلة رعايه ,وانبها ضميرها لتقصيرها في زيارة القبر , نبتت الاعشاب والحشائش في زواياه , دون تردد، بحثت عن محل لبيع الزهورواشترت باقات من زهرة الربيع وباقات من ورد اصفر,عادت إلى قبر برشت، وبدأت في تنظيف حواف القبر وإزاحة الاعشاب وزرع الزهور,بعد برهة قصيرة، جاء يعدو من بعيد رجل عجوز لاهثا صارخا بها ,ان توقف العمل فورا ,وان تبعد يدها عن اعشاب القبر”بحق السماء توقفي عن قطع الاعشاب , انها اعشاب بذور جمعتها”هلينا فايجل”من جميع بلدان المنفى التي عاشها برشت”.

لم ينته اويهدأ التنافس بين الإناث على رعاية برشت، سوا في العمل معه او عشقه وحتى بعد موته الى يومنا هذا. ادعت احداهن انها كانت في خدمة برشت وفي استراحته يركن الى سريرها,وحين باعت ذلك السرير لم تذق طعم النوم، حذرت اخرى بل وهددت علنا من تحاول الوقوف بوجهها في اخذ مكانها في الجنة بجوار برشت , وانها ستمنع هلينا فايكل من غمزه. وقيل عنه ايضا ووصف انه صنو بطله”بعل””كان الشاعر معشوق النساء ليس اكثر من زير نساء، بل هو أسوأ من”بعل”بطل مسرحيته الاولى اذاق حبيبته”املي”انواع العذابات انزالها الى قيعان العبودية والاستغلال الجنسي ,عاملها كحيوانات العمل, تكدح طول اليوم من اجل ان توفر له لقمة عيش , ويواصل هو انتاجه الابداعي,كان بعل شاعرا مثقفا ولكنه سكير فك مفترس للنساء.

تصف الكاتبة”كيبر”في كتابها عن برشت”رجل مقبول”الصادر في عام 1987″لكن هذه هي الشائعات، التي يجب علينا أن نسمعها إلى درجة معينة ,وكلما تعمقنا أكثرفي البحث تصاعدت روائحها تزكم الانوف , فيزداد قلقنا على الشاعر,تتصاعد حدة الانزعاج منه، فيبدولنا وكأنما أنه وقع في اسارنساء جميلات وإناث ينزعن الى الماسوشية. ان النظرةالفاحصة للسنوات المبكرة في شباب برشت في مدينة اوغسبورغ تفصح عن حياتيه الملتبسة مع النساء”,وشيئ مهم اخر”غيرة”النساء المحيطات به ,فمارغريت شتفن -عاشت أيضا مقربة من عائلة برشت- التي زعمت انها لم تعمل كثيرا مع برشت في مسرحية”بونتلا وتابعه ماتي”لان مزاحها كان متعكرا وفي الحقيقة , انه تلميح الى”دراما الغيرة بين النساء”التي كانت تمر بها نساء برشت في ذلك الزمان.

كان برشت الشاب يفترس الحياة كتب صديقه”فويشت فاكنر”عن ذلك الزمن ويتفق معه الكثير من مجايليه”لقد أمتلئ برشت من البعلية”مسرحية بعل”ويشعر بالوفاء لها. نقلت الواقع ومذكرات, الشاعرترديده مثل نيتشه”اذا كنت تريد الذهاب الى انثى لا ننسى السوط”, ويلاحظ في مذكراته الجملة التالية”من أجل االحصول على الفكر القوية النابهة سأضحي بكل امرأة”واضاف على الفور مستدركا”تقريبا كل امرأة”. 

رغم ان رؤية برشت لتحرر المرأة موضوع خلاف , تقول الكاتبة كيبر عنه:”لا يسعني، بعد كل شيء من إيجابيات وسلبيات في رؤى وتعامل برتولد برشت مع المرأة التي يتلمسها بقصائد مفعمة بالحب والعشق , تلهث في ضباب صباح مبكر , الا ان ارى ومضة رجل مقبول في صورة مظللة”.

ولد برتولد برشت في أوجسبورغ في 10 فبراير/شباط 1898 – مات في برلين في 14 أوغسطس/آب  1956) شاعر وكاتب ومخرج مسرحي ألماني. يعد من أهم كتاب المسرح في القرن العشرين. كما أنه من الشعراء البارزين.من اشهر اعماله المسرحية: 

1918  بعل، 1919طبول في الليل، 1921غابة المدن، حياة إدوارد الثاني ملك إنكلترا، الرجل هو الرجل، مؤتمر غاسلي الأدمغة، صعود وسقوط مدينة مهاجوني، أوبرا القروش الثلاثة،حياة جاليليه، الأم البؤس والخوف في الرايخ الثالث، 1937 الأم شجاعة وأبنائها  1937، بنادق الأم جيرار، الإنسان الطيب من سيتشوان، الاستثناء والقاعد،,

1940  بونتلا وتابعه ماتي، 1941 الصعود المقاوم لارتورو اوي، 1943 حكاية سيمونه ماخورد، 1944 الجندي شفيك في الحرب العالمية الثانية، 1945 دائرة الطباشير القوقازية, 1948 يوم الكومونة , 1952 قضية جان دارك, 1952 دون جوان السيد بو، قديسة المسالخ ومسرحيات من فصل واحد: الزفاف،الشحاذ..أو اليد الميتة، كم يكلف الحديد، الخطايا السبعة المهلكة.

———————————————————-

المصدر :مجلة الفنون المسرحية –   الحوار المتمدن

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *