مونودراما ماجدة والمائدة لجورج إبراهيم: بوح مسرحي صادم ونقد حاد كاشف لنا جميعا / تحسين يقين #فلسطين

 

مونودراما ماجدة والمائدة لجورج إبراهيم: بوح مسرحي صادم ونقد حاد كاشف لنا جميعا
الفنانة أميرة حبش ابداع لاخر مدى
عرض سيطول تأثيره علينا..خصوصا تلك المفاجأة في نهاية العرض..
– بلد مجنونه كلها طاولات!
هكذا صرخت ماجدة في نهاية المونودراما، بعد طول حوار مع ابنها (وممكنات الرموز الاجتماعية والسياسية الأخرى)، بعد أن ضاقت بها حالة التكيّف من أجل البقاء، والوجود الحيّ والإبداعي، الوجود المشارك، والوجود الذي تتحقق له العدالة بتلقي حقه الإنساني في مواسم قطاف الثمر.
طاولة كبيرة في منتصف خشبة المسرح، مغطاة تحتها (من خلال مخاطبة الشخصية له) طفل هو ابن بطلة المسرحية
تبدأ المسرحية وتستمر والشخصية الوحيدة تتحدث مع شخص، ومن خلال ذلك يتم بناء القصة والموقف أيضا؛ ملخص الحديث-الشكوى، الفنانة الأم وما تواجهه من إخفاقات.
تشوقنا ربما لنرى من تحت الطاولة-المائدة، ولماذا هو غير قادر على المواجهة؟
طفلها 5 سنوات يتحكم فيها، فهي قادرة على تركه، لا يريد الخروج..هل يلوم ام يعتب؟ أما هي فحريصة عليه، وتحسب له حسابا..
للمسرحية، والتي هي من تأليف الكاتب البولندي “أندريه مالشكا”، ومن إعداد الفنان جورج إبراهيم وإخراجه، وتمثيل أميرة حبش، وإنتاج مسرح القصبة، عدة تجليات للتلقي والتفكير والتأويل؛ فهناك خمس مستويات من القراءة، يمكن أن تتم هنا:
– قراءة السطح الخارجي الظاهر، دون التقليل من أهميته، وهو معاناة فنانة في الوسط الفني ومنه؛ وهو سعيها للتكيف من اجل البقاء، مع إدراكها للضريبة المطلوبة والممكن قبولها. فنانة وأم لطفل تبحث عن طريقها، في الوسط الفني الصعب، بما يحتوي من مخرجين متحكمين، وممولين وكتاب ونقاد. في ظل ذلك توجه المسرحية سهام نقدها لكل تلك المنظومة.
– قراءة معاناة المرأة في المجتمع ومنه، واحتمالية رمزية الزوج أيضا.
– قراءة معاناة الإنسان في الحياة.
– بوح وطني مغلف بنقد سياسي: انه تردد الإنسان-المواطن في ظل هروب النخب من مسؤولياتها، إيثارا لتلك الراحة.
– بوح شخصي انساني عميق، تم تذويته بذكاء من أجل ليس بيان مشاعر فقط، بل من أجل التفكير النقدي.
ويجمع تلك المستويات الضريبة التي تطلب من الإنسان هنا دفعها. وخلال ذلك يظهر النقد الاقتصادي والسياسي الخفي لكن الأكثر عمقا.
ويظل السؤال حاضرا، خوف الطفل ونفوره من العالم وهربا من قبيل الاغتراب، انه شعور الرمز هنا.
ليس بعيدا عن معنى الهروب..
من داخل نفوسنا، جذبتنا مونودراما ماجدة والمائدة، لندخل نحن أيضا في رحلة تأمل حياتنا؛ فلا ندري ونحن نشاهد العرض أكنا نتضامن مع ماجدة أم مع أنفسنا، فهل نحن إزاء وجودية عميقة هنا تتأمل رحلة الإنسان تدفعنا فعلا للالتزام الإنساني، بما يمليه علينا ليس صحو الضمير، ولكن دفع استحقاقات الوعي والشعور.
تمثيل
ثمة ما هو ذاتي وموضوعي يفسّر اندماج الفنانة أميرة حبش في الشخصية، ما هو نفسي، وما هو فكري، وهذا ما ساعد في تفوقها في التمثيل، الذي تخلص من التكلف.
مدهش!
ليس من السهل أداء المونودراما، إنه تحد لكل ممثل/ة ولكل مخرج/ة؛ وقد نجحا فيه بشكل لافت، بما حركاه من فكر وشعور عميق. تتنقل بانسيابية بين الشخصيات التي تؤديها، عائدة إلى الشخصية الساردة. كما أتقنت الحوار من جانب آخر، كيف أنها تتحدث وتقنعنا بأنها فعلا تتحدث مع طفلها، وفي الوقت نفسه تآلفت مع الرؤيا الإخراجية، أكان ذلك في الحوار الذي كان مونولوجا، أو في تمثيل الشخصيات، الصديقة، الأم،..أو في استخدام الطاولة كمنبر، حيث أظهرت رشاقة الأداء، كذلك في تنقلها بين مكان التسريحة، والشبك الآخر، كأنها في مواجهة. كذلك في الرقص الذي ظهر هنا جماليا وانفعاليا، وتفريغا نفسيا.
لذلك فإن سبب الابداع في التمثيل الى اخر مدى، هو أن الفنانة أميرة حبش اندمجت مع رسالة العرض، أولا، وثانيا توفر عناصر النجاح في المسرحية، وثالثا خبرة الفنانة في استخدام الجسد كجسد مسرحي، والحركة كحركة مسرحية. ولنا ان نذكر انفعالات الحركة والوجه والصون أيضا.
اما الرؤية الإخراجية، فلا نستطيع هنا عزلها عما سبق من مضمون وأداء؛ حيث استجاب المخرج لمتطلبات المضمون، الناقد الحاد، من خلال حركة عصبية للفنانة، بحيث تحركت بين عناصر الديكور وعليها، لتظهر جوانب الشخصية، فهي الفنانة، تجلس في ركن المسرح المخصص للتسريحة والماكياج، الموجود عادة في الاستوديوهات، وفيه تظهر المرأة الفنانة ولزوم فن التمثيل، لذلك كان وجود المرأة قرب تسريحة المرأة في المشاهد التي لها بالتمثيل.
في حين وظفت الجانب الأمامي، لإظهار المرأة وهي تواجه ولا تستلم لمن يريد استعبادها، رغم البوح بسخرية وشجن، في حين استخدمت كتلة الملابس، كفنانة وإنسانة معا، حين كانت تضع الملابس على جسدها دون أن ترتديها فعلا، بما ينسجم مع الشخصيات.
لقد لاءم الديكور وضع الانسان المحكوم بالتجمل والتمثيل والمجاملة والمسايرة، ووضعه في حالة المواجهة. كما لعبت الطاولة الكبيرة المغطاة بستارة دورا منبريا من خلال اعتلاء الفنانة لها، ودورا تشويقيا. أما اختيار اللون الأصفر، فساعد في تعميق دور الإضاءة، إضافة لدلالات اللون وجدانيا.
أما الحوار مع ابنها تحت المائدة-الطاولة، كما توقعنا، كون العرض مونودراما، كحوار مع آخر متخيل، فهو يعني السرد من خلال الحوار، على طريقة “قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل”..رغم عدم وجود هذا الابن، الا ان ذلك كان مشوقا دفعنا لنحاول اكتشاف رمزية ما هنا.
لقد عبأت الممثلة فضاءات الخشبة مكانيا فيزيقيا، بحركتها، وزمنيا بعدم وجود فراغ، ساهمت الإضاءة والموسيقى في ذلك، برشاقة ظاهرة. لقد كانت الإضاءة عنصرا رئيسيا في العرض، من خلال جعل اختيار اضاءة تظهر الشخصية في حلاتها او تعمقها، لقد كانت اضاءة فراس أبو صباح إبداعية فعلا.
في حركة مسرحية، إنسانية مليئة بالدلالات، ومنها نفاذ الصبر (إنما للصبر حدود)، تسحب ماجدة الشرشف الخفيف، الذي يغطي جسد الطاولة الخشبية، التي طال مكوث ابنها تحته، تدللا، أو خوفا من مواجهة الجميع، بمن فيهم أمه، لكن لم نجد غير الرمز هناك..
لم يعرّب المخرج والكاتب نص الكاتب البولندي “أندريه مالشكا”، بل فلسطنه، وذوته أيضا، مقدما فيه بشكل خفي لكن عميقه بوحا مصحوبا بشجن وتأمل، ولعل إمكانيات النص الأصلي هي من أغرت الفنان الكبير جورج إبراهيم لإعداد النص وإخراجه، لما في النص من خلفيات خفية لقصة العرض الظاهرة.
وأخيرا، فإن التأمل بعمق في مضمون العرض، يجد أن هناك دعوة عميقة لنا جميعا، للخلاص، من خلال نقد منظومة الحكم والقيم أيضا، ولعل النقد الاقتصادي، من خلال إبراز غير مباشر لعلاقات القوة، والتي تؤثر على تفاصيل حياة البشر (الفنانة مثالا رمزيا وواقعيا) هو نقد سياسي في الصميم.
لا جودو هناك، لن يأتي ليخلص أحدا..ولكن إمكانيات الفن كبيرة في تشكيل وعينا بل وتكويننا؛ لذلك سنجد أنفسنا مفكرين التزاما تجاه أنفسنا والآخرين، باتجاه الخلاص، لعله الخلاص الحقيقي، الذي يشكل محصلة لخلاصاتنا كأفراد. تلك هي الرسالة السامية التي تجلت في مسرح جاد محترف، يخاطب الذات والإنسانية ولا يقتصر على بلد معين، ولعل المخرج إبقاء اسم الطفل كما في النص الأصلي له أيضا دلالات.
عرض إبداعي، عانق المضمون الفريد والعميق أسلوبا في الإخراج والتمثيل، أثار التفكير والمتعة الفنية معا.
Ytahseen2001@yahoo.com

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش