من أجل مقاربة بلاغية للنص المسرحي

يحاول الدكتور محمد أنقار في كتابه القيم( بلاغة النص المسرحي) قراءة نصوص مسرحية إغريقية وعربية ومغربية على ضوء بلاغة الصور الدرامية وأسلوبية المشاهد. فلقد اختار الناقد من التراث اليوناني نصا تراجيديا ليوربيديس ألا وهو ( إيون)،1 ونصا كوميديا لأريسطوفان (الضفادع)،2 ومن المسرح العربي الحديث مسرحية أحمد شوقي(مجنون ليلى)،3 ومن المسرح الفردي المغربي مسرحية محمد تيمد(الزغننة).4

هذا،وتستند مقاربة الدكتور محمد أنقار إلى البلاغة وأسلوبية النص المسرحي وقراءة النص المكتوب/المطبوع دون استنطاق العرض السينوغرافي كما فعل الدكتور محمد الكغاط في أطروحته عن المسرح وفضاءاته5.أي أن أستاذي محمد أنقار اعتمد على الأدوات التحليلية للبلاغة مثل: السياق النصي والطاقة اللغوية والطاقة البلاغية ومقولات الجنس والنوع والسياق الذهني واستحضار مفهومي (المكونات والسمات) لتحليل المسرحيات تشكيلا ودلالة ووظيفة ورؤية. وبذلك يرفض هذا الناقد الأدبي الاحتكام الأعمى إلى المنهج والقانون والقواعد والمقولات النوعية الجاهزة كما يفعل أغلب الباحثين والدارسين العرب المحدثين، ويستبدلها بالمفاهيم الذوقية التي يطرحها كل نص على حدة. ومايهم لدى الباحث في قراءته لهذه النصوص المسرحية هو البحث عن الصور الدرامية وتحديد مكوناتها الأساسية وسماتها الثانوية معتمدا على مفهوم الهيمنة la valeur dominante الذي طرحته الشكلانية الروسية وخاصة رومان جاكبسون.

وقد رفض الباحث كذلك كل علمنة للدراسة الدرامية أو تجريدها في نظريات مقننة وثوابت ثاوية مضمرة تتحكم في توليد النصوص

كما تفعل السيميولوجيا التي تدرس العلامات أو الإشارات النصية والخطابية قصد تحيينها في شكل مبادئ كلية عامة، وما تقوم به التداوليات التي تنكب على وظائف التداول الإشاري للوحدات الدرامية والبحث عن الأنسقة والعلاقات الوظائفية ومقصديتها. وقد انتبه باتريس با?يس إلى خطورة التقنين والعلمنة بقوله:” عندما تختصر السيميولوجيا في النموذج الجاكبسوني الخاص بوظائف التواصل، وفي تصنيفية الأنماط ، وفي بحث الوحدات الأكثر صغرا، وفي سجل السنن، أو تختصر في هذيان من إيحاءات العلامات؛ فإنها لاتشكل إضافة كبيرة إلى الدراسة المسرحية”. 6 ويعني هذا، أن المقاربات البنيوية والسيميولوجية والسوسيولوجية والتدولية والتفكيكية قد قتلت النص المسرحي باسم العلم والقانون وتسطير القواعد و والبحث عن التماثل الموضوعي بين النص والمرجع الذاتي والواقعي. وبديل الدارس – إذاً- هو ضرورة تبني القراءة الذوقية الجمالية ذات الطرح الإنساني التي تعتمد على بلاغة الصور والمشاهد الدرامية.

ويلاحظ على الدكتور محمد أنقار أنه يتبنى طرائق التحليل الدرامية لدى كل من أرسطو وهيجل ، أي يدرس الصور الجزئية لاستخلاص الظواهر الممكنة في كل نص مسرحي على حدة لتعميمه على باقي النصوص من خلال مبدأي المكونات والسمات. وتعتمد قراءة الأستاذ محمد أنقار الواعية على بعض المفاتيح البلاغية كالنوع والمكون والسمة والصورة والطوابع الجمالية.

ولقد اختار محمد أنقار مسرحية ( إيون) التراجدية ليوربيديس لدراسة قاعدتي أرسطو” التعرف والتحول”، وهما سمتان تكوينيتان بارزتان في مسرحية( إيون)، كما انكب على مقدمة (إيون)Prologue التي كتبت في شكل مونولوج سردي لهرميس(Hermes)، يلخص فيها المسرحية ويحدد عقدتها لتتعاقب الحوارات بعد هذه المقدمة الطويلة الموجزة لمتن المسرحية. ويمتاز البرولوگ عند يوربيديس بالتنوع في الإرسال، فقد يلقيه إله أوربة أوشبح ما أو تلقيه إحدى الشخصيات الرئيسية أو الثانوية. ومن وظائف المقدمة المسرحية تحقيق المتعة الجمالية الخاصة والقدرة على الجذب وإثارة انتباه المتلقي، وهناك مقدمات تراجيدية تجمع بين الإثارة وتلبيتها.

ويستنتج قارئ الكتاب أن التعرف والتحول في ( إيون) سمة تكوينية حسب الباحث، وليس مكونين لاختفائهما في بعض التراجيديات. ويرتبط التعرف والتحول بالفعل الدرامي وتنميط الشخصية التراجيدية. ويعرف أرسطو هذا التعرف بأنه:” انتقال من الجهل إلى المعرفة يؤدي إلى الانتقال: إما من الكراهية إلى المحبة، وإما من المحبة إلى الكراهية عند الأشخاص المقدر لهم السعادة أو الشقاوة. وأجمل أنواع التعرف المصحوب بالتحول(PERIPETEIA) من نوع مانجده في مسرحية ” أوديفوس””.7

وينبني التعرف في مسرحية إيون على فرز الأشياء، وذلك بواسطة المعطيات المادية المحسوسة،لاكما يرى أرسطو أن أجود أنواع التعرف تلك التي تستمد من الحبكة الدرامية ذاتها. وتعمل الإكسدوس EXODUS على تحديد نتائج التعرف والتحول وتحقيق انسجام النص الدرامي وجمالياته الفنية وأبعاده الإنسانية.

ويروم الدكتور محمد أنقار من هذه الدراسة تصيد الصور الدرامية وأشكال التعبير والتصوير المسرحي. وفيما يتعلق بحد الصورة المسرحية نجد الباحث يقول:” لانعرف دراسات أو تطبيقات درامية كافية من شانها أن تؤسس هذا النمط من البحث النصي بله أن تشفي الغليل. والملاحظ أن ما أنجز من دراسات في هذا المضمار قد انساق معظمه مع المفهومين الأيقوني والسيميولوجي للصورة دون أن يتوقف إزاء التكوين الأسلوبي للصورة الأدبية في النص المسرحي.”8، ومن أمثلة ذلك رسالة الباحثة فاطمة شبشوب: صورة المرأة في المسرح المغربي.9

وعليه، فدراسة الدكتور محمد أنقار دراسة جريئة في طرحها وجديدة من نوعها في الساحة النقدية المغربية بصفة خاصة، والعربية بصفة عامة مادمت تستهدف دراسة الصور الدرامية من خلال مكونات وسمات بلاغية وأسلوبية تحترم مكونات النوع والجنس المسرحي من خلال تنويع المتن الريبيرتواري و التطبيق النصي على أعمال إغريقية وعربية ومغربية.

وإذا كان التعرف والتحول من أهم السمات التكوينية في التراجيديات اليونانية، فإن المفارقة أو السخرية من أهم سمات كوميديا”الضفادع” لأرسطوفان.

هذا وتتقاطع في هذه المسرحية الكوميدية عدة أجناس أدبية مثل: المناظرة والنقد الأدبي والسمات السخرية والأسطورة والمكونات الدرامية المشتركة مع النوع التراجيدي.

وتطرح المسرحية كذلك معيارا نقديا كميا هو مفهوم ( الموازنة المادية). وهذا المفهوم هو الذي أسبغ على المسرحية طابع الإضحاك والابتسامة والمفارقة؛ لأن نقد أرسطوفان ليوربيديس وأسخيلوس قد تم بواسطة الميزان المادي لابواسطة الميزان القيمي أو الكيفي أو الجمالي؛ مما أدى الميزان إلى ترجيح كفة أسخيلوس على حساب الثاني، على الرغم من كون مسرح يوربيديس يتوفر على نماذج وعينات رفيعة منها.

وإذا كانت التراجيديا- عند أرسطو- ” محاكاة فعل نبيل تام، لها طول معلوم، بلغة مزودة بألوان من التزيين تختلف وفقا لاختلاف الأجزاء، وهذه المحاكاة تتم بواسطة أشخاص يفعلون، لابواسطة الحكاية، وتثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات”.10 وغالبا ما تكون نهايات التراجيديا إما سعيدة وإما شقية، فإن الكوميديا هي” محاكاة الأراذلHommes bas من الناس، لافي كل نقيصة، ولكن في الجانب الهزلي الذي هو قسم من القبيح، إذ الهزلي نقيصة وقبح بغير إيلام”.11

إذاً، فالكوميديا قناع من القبح والرذالة والمحاكاة الساخرة والباروديا وتشخيص للقبح والهزل والنقص دون أن يصل القبح إلى درجة التجريح والتحطيم.

وقد قرأ الدكتور محمد أنقار الكوميديا كنوع بالتراجيديا كنوع آخر من خلال عملية التلاقح والتداخل النوعي والأجناسي. إذ يقول: ” لا نرى غضاضة في أن نشغل تفاصيل التصور الأرسطي من موقعنا المعاصر فنقرأ” الضفادع” في سياقها الكوميدي، باحثين عن متعتها النصية من خلال تقاطعها مع ألوان من فنون القول، بما فيها التراجيديا والنقد الأدبي”.12 كما يستفيد الباحث من مفاهيم التراجيديا في مقاربة نص” الضفادع” الكوميدي لوجود بعض الروابط المتداخلة بينهما.

ودرس الدكتور محمد أنقار كذلك مسرحية أحمد شوقي” مجنون ليلى” لأحمد شوقي ليصل إلى وجود السمتين: الغنائية والنثرية وخفوت درجة الدرامية في عموم المسرحية. ويتم ترجيح كفة الغنائية على حساب الحركية الدرامية بالمناجاة والنداء والإيقاع المتباطئ والمتموج والاستطراد الوصفي ووحدة البيت ووحدة الغرض. وبهذا يكون شوقي قد سقط في بعد واحد يتمثل في غنائية الشعر العربي، أي إنه ضحى بالمسرح من أجل الغناء. و” إن التشغيل القسري للسمات من لدن شوقي في نص” مجنون ليلى” لم يخدش جمالية الشعر العربي القديم المتسق في حدود سياقاته الحضارية والثقافية والإنسانية، وإنما حصل الارتباك نتيجة نقل تلك السمات إلى آفاق جنس المسرحية الشعرية التي تمثل تحديا جماليا جديدا ومركبا بالنسبة للمبدع والناقد معا”.13

وفي الأخير، حاول الدارس مقاربة نص” الزغننة” لمحمد تيمد الكاتب المسرحي المغربي باحثا عن أشكال التصوير الدرامي فيها على الرغم من كون هذا النص ينتمي دراميا وسينوغرافيا إلى المسرح الفردي الذي يثير إشكاليات عويصة على مستوى التقبل بالنسبة للقراء والمتفرجين مع العلم أن المسرح الفردي كتابة درامية جديدة قائمة على تجميع الأصوات المتحاورة في صوت واحد تتقاطع فيه كثير من الأجناس والأنواع الأدبية.

هذا ،وإن أهم ما كان يرصده الكاتب في الزغننة هو الإيقاع اللغوي التشخيصي في المسرح الفردي، إذ لاحظ هيمنة الوظيفة السردية وتراجع الحوارية بصبغتها المسرحية المألوفة التي عوضت عند المؤلف المسرحي بالإرشادات المسرحية والتقاطع الأجناسي.

وعلى الرغم من أهمية هذه المقاربة الجادة والجديدة التي تعتمد على القراءة الذوقية في تحليل الصور المسرحية، فإن ثمة ملاحظات لاتنقص شيئا من قيمة الكتاب الذي أضاف تصورا منهجيا جديدا في النقد المسرحي المغربي الذي طالما عودنا على قراءات صحفية سريعة مقتضبة أو دراسات إيديولوجية سطحية مبتذلة أو أبحاث شكلانية تقعيدية تمتح من التصورات المفاهيمية الغربية القائمة على العلم وتسطير القوانين والقواعد والنظريات والوظائف الثابتة للنص المسرحي و تنميط شخصياته على غرار الدراسات البنيوية والسيميائية . ومن أهم هذه الملاحظات التي نستسمج فيها أستاذنا الدكتور محمد أنقار:

1- خلط الكاتب بين الدرامي والمسرحي في مؤلفه. فالنص لايكون نصا مسرحيا حتى يحول من قبل المخرج إلى فضاء ركحي قابل للتمسرح، أما النص الذي يكتبه المؤلف على الأوراق فيسمى بالنص الدرامي. وبالتالي، فليست كل النصوص الحوارية درامية، إذ لابد من توفر شرط التمسرح Théâtralité والصراع الدرامي، وإلا سمينا ذلك النص بالحواري ليس إلا.

2- لجوء الكاتب إلى الملمح الأسلوبي جعل تحليله شكليا وهيكليا ينصب على المضامين والصور والمكونات والسمات، ويهمل الأبعاد الإيديولوجية والمرجعية على الرغم من ذاتيتها وإسقاطاتها الموضوعية. وقد وعدنا الكاتب عبر صفحات الكتاب بأن يجلي لنا الأبعاد الخارجية والمرجعية التي تعبر عنها النصوص المسرحية المرصودة بالتحليل، ولكنه لم يستوف حقها بالتفصيل والتوسيع مما جعل الدراسة هيكلية وشكلية.

3- إن القراءة الحقيقية للنص الدرامي لابد أن تكون متكاملة، أي تكون دراماتورجية تستعين بجميع الأدوات والآليات وتحتمي بالعلم والذوق في آن معا، وبالنص والمرجع معا كذلك. فلابد – إذاً- من تضافر النصوص لتشكيل النص المسرحي(نص المؤلف- نص المخرج- نص الممثل- نص الجمهور).

4- إن قراءة الصور المسرحية عملية تجزيئية وتفكيكية، بل لابد من إدراجها ضمن الخطاب اللغوي الدرامي في إطار سياق كلي عام شكلي ودلالي ووظيفي لتحقق الدراسة نجاعتها وقيمتها ؛ لأن اللغة أعم من الصورة، إذ تشمل اللغة التشخيصية الصورة والإيقاع والأسلوب والبناء والتشكيل وغير ذلك…

5- وعلى الرغم من وجود بعض المفاهيم المسرحية القليلة التي تعد على الأصابع في الكتاب، فإنه يلاحظ افتقار الدراسة إلى مصطلحات علم المسرح ومفاهيمه وألفاظه المعجمية لكي تكون الدراسة نوعية وأجناسية نقدية بذاتها. ومهما حاولنا أن نعتمد على مفاهيم بلاغية خارجية، فإنه لابد من استخدام مصطلحات تقنية خاصة بالمسرح.

وعلى أي حال، فإننا ننوه بهذه الدراسة الجادة التي تروم البحث عن أشكال التصوير في عينات من المسرح الإغريقي والعربي والمغربي لإبراز سمات هذه النماذج ومكوناتها عبر قراءة جمالية وبلاغية وإنسانية تسائل الأنواع والأساليب للبحث عن وظائفها وخصائص تجنيسها. وبهذا يدشن الدكتور محمد أنقار المقاربة البلاغية في الخطاب النقدي المغربي المعاصر وربما العربي كذلك على حد قولته السابقة.

الهوامش:

1 – يوربيديس: إيون، ترجمة عبد المعطي شعراوي، وزارة الإعلام، الكويت، 1984، سلسلة المسرح العالمي،عدد181؛

2 – أريستوفان: الضفادع، ترجمة محمد صقر خفاجة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1974.

3 – أحمد شوقي: مجنون ليلى، شركة فن الطباعة، مصر، بدون تاريخ الطبع؛

4 – محمد تيمد: (الزغننة)، الثقافة الجديدة، السنة الثانية، العدد8، خريف 1977،صص:122-139؛

5 – محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته، دار البوكيلي للطباعة، القنيطرة، ط1 ، 1996، صص:191-230؛

6 -P.PAVIS: “Etudes théâtrales”, in:théorie littéraire.PUF, Paris, 1987, p:107;

7 – أرسطو: فن الشعر، ترجمة، عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، لبنان، بدون سنة للطبع، ص:32؛

8 – الدكتور محمد أنقار: بلاغة النص المسرحي، مطبعة الحداد يوسف إخوان، تطوان، الطبعة الأولى، سنة 1996، ص:27؛

9 – فاطمة شبشوب: صورة المرأة في المسرح المغربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا قدمت إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس سنة 1986-1987؛

10 – أرسطو: فن الشعر، ص:18؛

11 – أرسطو: نفس المصدر السابق، ص:16؛

12 – محمد أنقار: بلاغة النص المسرحي، ص:66؛

13 – محمد أنقار: نفس المرجع، ص:111؛

————————————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية –  د. جميل حمداوي

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *