مسرح الستين كرسي في هولندا

قاسم حسن

في عقد السبعينات من القرن الماضي شهد العراق استقرار ثقافيا نسبيا وانتعشت الثقافة والفنون امتدادا لعقد الستينات في الشعر والادب والمسرح وباقي الفنون الاخرى .. وأزدهر معها المسرح وتطورت حركته وازداد عدد الفرق المسرحية .. اضافة الى قدوم بعض الفنانين المبدعين من الخارج ، بعد اكمال دراستهم الاكاديمية في فن المسرح ، والتحاقهم بزملاءهم من الفنانين وانضمامهم الى الهيئة التدريسية في المعهد أو الأكاديميه ، واجتهاداتهم نظرا للخبرة التي اكتسبوها من تجربتهم ودراستهم ، واقبال الطلبه على الدراسة في معهد واكاديمية الفنون الجميلة ، اضافة الى كثرة اعداد الذين يرتادون المسرح ونضوجهم وتنوع اختياراتهم …ماجعل من الضروري البحث عن مسارح وقاعات جديده تتسع لهذا الكم من الفنانين الباحثين عن الجديد ، مما حدا بفرقة المسرح الشعبي والتي كان يترأسها الراحل الفنان جعفر السعدي .. وباقي اعضاءها من الشباب آنذاك .. والذين كانوا قد إستاجروا مقرا لهم في شقة في الطابق الثالث من عمارة الاخوان في شارع السعدون … حيث كانت تدريباتهم الأوليه لعروضهم المسرحية تبدا هناك في ذلك المقر .. ,اخذ منتسبوها يصفون الكراسي حتى وصل العدد الى الستين كرسيا .. وفي مقدمتها مساحة كافية وخشبة تتسع لعدد من الممثلين … من هنا جاءت فكرة عروضهم في هذا المكان .. وأسموه حينذاك مسرح الستين كرسي .

ذاع وانتشر خبر تأسيس هذا المسرح الصغير بين الجماهير الثقافية وجمهور المسرح بالذات ، وتوالت العروض المسرحية على خشبته الصغيرة حيث تخصص في المسرح التجريبي آنذاك.. واستمر عطاءه في تلك المرحلة ..، .. حيث قدمت عليه مسرحيات جاده وجديدة وتتميز بنوعيتها وجديتها في ذلك الوقت .. ومن خلال ذلك المسرح قدم العديد من المبدعين عروضا يتذكرها المهتمين في المسرح ومتابعية.الى يومنا هذا… حيث لا يمكن ان يذكر تاريخ المسرح العراقي دون المرور على ما قدم على هذا المسرح الصغير من عروض مهمه … ومع الزمن اصبح من اهم وأرقى المسارح في بغداد على بساطته وصغر حجمه وتقنياته البسيطة … حيث تمتاز العروض المقدمة على خشبته بالجدية والتجديد ..

بعد كل هذا النجاح الكبير .. والعروض المميزة وسمعته الجيدة بين الاوساط الثقافية وجمهور المسرح الواسع ..أصبح هذا المسرح مخيفا بالنسبة للسلطة الثقافية الحاكمة آنذاك .. وبعبعا كبيرا لايمكن تركه يتسع اكثر وأكثر لانه خطر على ثقافتهم ووعيهم .. من هنا أصبحت المضايقات على المسرح والفرقة وأعضاءها .. والمطاردات البوليسية على من يرتاد هذا المسرح من مسرحيين وفنانين وحتى الجمهور .. وخرج وهاجر مرغما من العراق غالبية الممثلين والممثلات والعاملين فيه… الذين ساهموا في تأسيسه وتقويمه ونجاحاته المهمه .. وانتهت تلك التجربة في اوائل الثمانينات .. وانتهت معها قصة ذلك المسرح الكبير بعطاءه والصغير حجما ومكانا ذلك هو مسرح الستين كرسي في بغداد ….

أغنياء يتبرعون بفللهم او بيوتهم القديمه …وهواة مسرح يحيونها وينتجون ابداعا

في هولندا تنتشر المسارح والقاعات والمراكز الثقافيه وتكاد لاتخلو مدينة كبيرة ام صغيرة منها … وهذه المراكز مدعومة من الدولة دعما كاملا … ويديرها طاقم متخصص ينسق نشاطاتها وفعالياتها ودائما ببرامج سنويه وشهريه وماعلى الفنان المسرحي مخرجا كان ام ممثلا او لديه فكرة…. سوى تقديم مشروعه وعرضها كما يشاء وفي اي وقت … ولكن ماهو الملفت للنظر (وهنا بيت القصيد) .. أن هناك مسارح في قرى نائية لايتجاوز عدد سكانها ضمن الحدود الادارية لهذه القرية اوتلك العشرات او الآلاف وتتباعد بيوتها الواحده عن الاخرى مئات الأمتار… وغالبيتهم من المزارعين والفلاحين والعاملين في مجال تربية الحيوانات ..

في قرية ( ايكاهار) والتي تبعد عن اقرب مدينة صغيره بخمسة كيلومترات أو أكثر هناك بيت واسع كان في يوم ما مخزنا كبيرا للمنتوجات الزراعية والأدوات يمتلكه رجل وزوجته .. كانوا وطوال حياتهم من عشاق المسرح ومتابعيه حيث لايخلوا برنامجهم الاسبوعي من مشاهدة مسرحية هنا او هناك وحتى اسفارهم وعطلهم الصيفية أم الشتوية خارج البلد يغتنموها في مشاهدة المسرح اي بمعنى أنهم من رواد المسرح وعشاقه … 

الرجل (هاري كومان) وزوجته (آلي فينما كومان) تعدى عمرهما الثمانين عاما الآن .. وبعد تقاعدهما فكرا بتأسيس وبناء مسرح صغير في المكان الذي كان مخزنا لمنتوجاتهم.. وانها مجرد هواية ليس إلا ..،.. وفي العام 1988 تم بناء هذا المسرح الذي يتسع الى ( ستين كرسيا )..

يقول الرجل (هاري كومان) أنا من عائلة فلاحية كان والداي يعملان في الزراعة وتربية الدواجن وكنت أهوى التمثيل في المسرح ، بالذات ، وكنت لا اقبل بهدية في أعياد ميلادي بغير بطاقة دخول الى مسرحية ما وأتابع ذلك بالرغم من بعد المسافة بيننا والمدينه وكان حلمي ان أكون ممثلا او مخرجا .. ولكني فشلت في الأختبار الذي يؤهلني أن أدرس المسرح في معهد الفنون الجميلة وحاولت على مدى سنتين .. بالرغم من كوني ممثلا ومبدعا (كما يقول وهو يبتسم) وأساهم في نشاطات القرية هنا تمثيلا واخراجا وتقنيات أخرى ، كما يشهد سكان القرية هنا ، .. والذين فوجىء الجميع بعدم نجاحي في الأختبار ، ولكن وبنظر الأساتذه الذين اختبروني هذا لا يكفي … فشلت بالالتحاق في المعهد كطالب ولكن واصلت دراستي ومازلت ليس بعيدا عن المسرح حيث درست في معهد آخر.. (تقنيات المسرح) في الإنارة والصوت ….. وفي نفس الوقت كنت أعمل في مسرح صغير في مدينه ( آسن ) مساعدا وعاملا لتنفيذ الديكور تارة وتنفيذ الأنارة والصوت تارة أخرى أي لم ولن ابتعد … عن المسرح وكنت سعيدا بأنني داخل عوالم المسرح ….الى أن جاء اليوم الذي عينت فيه موظفا دائما ( كتقني في احد المسارح الكبيرة في أمستردام ) وبعدها تنقلت في عدة مسارح وفي عدة مدن … وحتى تقاعدي في العام 1988 .. عدت الى هذه القرية التي كنت اتردد على والداي بين فترة وأخرى وكان حلمي أيضا أن اجعل من هذه المساحات هنا في بيتنا القديم ان يكون مكانا للعروض المسرحية ….. شرعنا في المشروع وبمساعدة زوجتي التي شجعتني ودعمتني بهذه الفكرة … وخططنا أن يكون المكان اضافة الى قاعة بستين كرسيا وخشبه تكفي لحركة الممثلين … الى جانبها مقهى صغير يجلس فيه الجمهور قبل الدخول وأعددنا أن يكون الطابق العلوي مكانا لأستضافة الفرق الفنية والمسرحية القادمة من خارج المدينة … او خارج البلد .. والتي تستمر عروضها المسرحية لأكثر من يوم ليكون لهم مكانا للنوم والمبيت هنا بدلا من المدينه … وعملنا على ذلك وبنجاح كبير منذ اليوم الاول .. لبدء نشاطنا … وها نحن اليوم لنا برنامجنا السنوي ومواسمنا التي لم تنقطع .. وإتسعت جماهيرنا لتشمل القرى والمدن المجاوره .. علما اننا نادرا مايكون لدينا حفلات موسيقية او غير ذلك حيث هناك قاعة اخرى لذلك … هنا مسرح الستين كرسي مسرحا جادا استقدمنا فرقا من كافة المدن الهولندية وكذلك من بعض الدول الاوربية كفرنسا وبلجيكا والمانيا وغيرها … ولابد أن أشير أن العروض المسرحية التي نتعاقد أوة نتفق على استقدامها لها مواصفات خاصه من حيث أعداد الممثلين وحجم الديكور إضافة الى أهمية الموضوع آخذين بنظر الاعتبار دائما حجم المسرح وإمكانياته… ولم يكن بأذهاننا أن يكون المشروع ربحيا حيث أننا نعيش من مداخيلنا الخاصة … ولكن هناك جمهور يعي وضعنا وشجعنا كثيرا بل هناك متطوعون يشاركون ويساهمون في ادارة المسرح والمساعدة في متطلبات كل عرض مسرحي وكل حسب اختصاصه … يتم توزيع العمل بيننا بشكل موسمي … حتى أصبح للمسرح مداخيل سنويه ومصروفات لادامته وسد احتياجاته … والمسرح الآن بحالة جيدة وتقنياته وأجهزته لا تختلف عن المسارح الكبيرة … وبرنامجنا يمتد حتى نهاية السنة القادمة .

وتقول السيدة ( آلي فينما كومان ) وهي الزوجة الثانية له تقول .. ( اننا ورثنا هذا الصرح من أهلنا وشيدناه من اموالنا ونجحنا الى حد كبير بمشروعنا .. واكيد سيستمر من بعدنا .. لأن غالبية العاملين في هذا المكان هم اهلنا واصدقاءنا ومن سكان القرية وأصبح هذا المسرح صرحا تمتاز به هذه المنطقه.. والجميع حريص على هذا المكان لما له من اهمية كبيرة… )

علما هذا المكان ليس الوحيد في هولندا .. وليس هو المشروع الفريد من نوعه حيث توجد عوائل من الأغنياء الذين يتبرعون أو يؤسسون مشروعا ثقافيا (ليس الهدف منه ربحا بل هواية) ببيوتهم القديمه ( وهي فلل بضواحي المدن او في قرى نائية ) يتبرعون بها لمشاريع اجتماعية ( دورا للعاجزين والايتام والغرباء او اللاجئين ايضا ) وثقافيـــة ( للمعارض التشكيلية والمتاحف) لمن لديه مقتنيات قديمه يرغب بالحفاظ عليها وعرضها على الراغبين بذلك .. 

—————————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *