مسرحية حصحص الحبوب لتوفيق الحكيم ( كتبها سنة ١٩٧٢م)د.علي خليفة

هذه المسرحية توجد ضمن كتاب الحكيم الحمير الذي نشر فيه أربع مسرحيات من فصل واحد ،وهي من أواخر ما ألف الحكيم من مسرحيات ،-إن لم تكن آخر ما ألف من مسرحيات بالفعل – ، وفي كل هذه المسرحيات الأربع كان للحمار دور مهم بها سواء أكان مشخصا ومتحدثا وفاعلا بها كمسرحية الحمار يؤلف ومسرحية الحمار يكتب ، أو كان محور الأحداث عنه ولكنه لا يخرج عن صورته الحيوانية كما نرى في مسرحية سوق الحمير ومسرحية حصحص الحبوب
وفِي هذه المسرحيات الأربع لا نرى الحكيم يجرب في الشكل المسرحي أو يتناول قضية ذهنية أو يحاكي العبثيين في كتاباتهم المسرحية ، كما فعل في مسرحياته السابقة، بل نرى الحكيم في هذه المسرحيات ينسى كل القفزات والتطورات التي حدثت في مسرحه ، ويعود لكتابة المسرحية الفكاهية الخفيفة ، قريبا مما كتبه لفرقة عكاشة في بداية علاقته بالمسرح وهو شاب في كلية الحقوق، ويستخدم العامية في حوار ثلاث مسرحيات منها ، وكان يتعمد عدم استخدامها في مسرحه بعد عودته من باريس ، بل الأغرب أن نراه في بعضها يستخدم بعض المفردات التي حذّر كثيرا من استخدامها وهو يتحدث عن اللغة الثالثة في المسرح كتلك الألفاظ الشديدة السوقية مثل ( يا ادلعدي)
وأغلب النقاد لم يهتموا في مسرحيات الحكيم الأربع التي في هذا الكتاب إلا بما فيها من نقد واضح للفترة الناصرية ، وهذا الأمر لا يعنيني الآن ،بل يعنيني في هذه المسرحيات أن أتعامل معها على أنها مسرحيات للحكيم من أواخر ما كتب للمسرح إن لم تكن آخر ما كتبه للمسرح بالفعل
ولا أرى ما يعيب الحكيم حين يضرب في هذه المسرحيات الأربع بالقواعد التي حاول أن يرسيها للمسرح العربي- كرائد كبير له- عرض الحائط ، لأن التنظير للأدب والفن بصفة عامة ليس الغرض منه الخضوع من قبل المبدعين له ،بل العكس هو الصحيح ، فعلى المبدع أن يبحث دائما عن الجديد الذي يخرج به من القديم الذي ألفه الناس ولم يعد يثيرهم ، وكذلك عليه أن يبتعد في أسلوبه في الكتابة عن كل ما لم يعد يتناسب مع إيقاع العصر والقضايا المطروحة فيه ، ولا بأس للمبدع أن يعود لشكل يبدو قديما إذا ما رأى أنه الأنسب في عرض أفكاره وموضوعاته في عمل أدبي ما
وأيضا نصل من نقاشنا لهذه المسرحيات أن الحكيم -وكما عبر عن نفسه في مواضع كثيرة من كتبه خاصة كتاب ملامح داخلية – لم يكن خاضعا لأسلوب محدد في المسرح يكتب طوال عمره من خلاله، بل كان كالمستكشف الذي يصل لعالم جديد فيصفه ، ثم ينتقل منه لعالم آخر فيصفه وصفا مختلفا ، ثم يذهب لعالم ثالث فيصفه وصفا مختلفا، وهكذا شأنه مع كل عالم جديد يكتشفه ، فكان يصفه وصفه مختلفا عن العوالم التي اكتشفها من قبل ،فكان الحكيم يحاول أن يجاري المسرح العالمي قي تطوره ، وخلال ذلك كان يحاول أن يكتشف أسلوبه والأسلوب الأمثل للمسرح العربي
وأغلب مسرحيات الحمير أقرب لشكل الاسكتش ، ففيها مواقف مضحكة ، والفكاهة فيها تقوم على رسم الموقف المضحك بما فيه من سوء فهم ومغالطات ، وخلال ذلك يكون اللمز لبعض الأمور في المجتمع
وفي مسرحية حصحص الحبوب نرى الحكيم يصور لنا مدرسة قديمة ، قل من يرتادها من التلاميذ لسوء حالها ، وليس فيها سوى ناظر ومدرسين يدرسان كل المواد ، وأحدهما يقوم إلى جوار التدريس بالعمل سكرتيرا للناظر ، ونرى الناظر في المشهد الأول من المسرحية مهموما لكون مدرسته الأهلية ليس بها إلا عدد قليل من التلاميذ ، ويأمل أن يأتيه تلاميذ جدد ، ويوافقه السكرتير على أمل أن يقبض مرتبه المتأخر أكثر من شهر
ولا يخفى التشابه الذي نراه في هذا المشهد من هذه المسرحية مع مسرحية توباز للكاتب الفرنسي ما رسايل بانول -والتي مصرها نجيب الريحاني وبديع خيري وعرضت بعنوان الجنيه المصري ثم مثلها فؤاد المهندس بعنوان السكرتير الفني- ففي المسرحيتين نرى مدرسة بالية ، وفيهما أيضا يشكو الناظر بهما من قلة التلاميذ في مدرسته ، ويحتال لدخول تلاميذ للمدرسة
ويفاجأ الناظر والسكرتير بدخول شخص وجيه من الأرياف عليهما في المدرسة ، ويحدثهم عن حماره الذي يرغب في تعليمه في المدرسة ، ولا يدركان في البداية أنه يقصد حماره فيظنان أنه طفل ضعيف الفهم كالحمار ، ويستمر هذا الموقف الذي يدور على سوء الفهم ويتسبب في فكاهة كثيرة – وهذا الأسلوب في رسم المواقف الكوميدية التي تدور على سوء الفهم استخدمه الحكيم في مسرحيات أخرى كوميدية كمسرحية عمارة المعلم كندوز-
وبعد أن يدرك الناظر والسكرتير أنه يتحدث عن حمار حقيقي يوافقان الوجيه على قبوله بالمدرسة لتعليمه لحاجتهما للمال ، ويعدان الوجيه الريفي الغريب الأطوار بحسن تعليم حماره الذي هو بمكانة ابنه
ويذكرنا هذا الريفي الساذج بالقروي الساذج في المقامة البغداذية لبديع الزمان الهمذاني ، ويذكرنا أيضا بشخصية كشكش بك عمدة كفر البلاص في بعض مسرحيات الريحاني الأولى، كذلك يذكرنا بشخصية العمدة الساذج في رواية حديث عيسى بن هشام للمويلحي
ويبيع الناظر والسكرتير الحمار، وعند زيارة العمدة المدرسة للسؤال على حماره يكذبان عليه في كل مرة فيدعيان مرة أنه في رحلة مدرسية وفِي مرة أخرى يدعيان أنه يأخذ درسا خصوصيا ، ويذكران له ما شابه ذلك من الحجج في كل مرة يأتي فيها المدرسة للسؤال عن حماره ، وأخيرا أخبراه أنه صار بعد تعليمه بني آدم وأصبح مديرا لشركة العلف والمبيدات الحشرة الملاصقة للمدرسة ،التي يرغب مديرها في هدم المدرسة وتحويلها لمخزن لشركته ، وانتقم منه الناظر فأخبر الوجيه الريفي أن حماره هو ذلك المدير
ويتكرر موقف سوء الفهم مرة أخرى في حديث الوجيه مع المدير ، فالوجيه الريفي يعامله على أنه حماره الذي تعلم وصار إنسانا بعد تعلمه ، وأصبح أيضا مديرا لشركة كبيرة ، ولا يفهمه المدير في البداية ، وحين يفهمه يطرده ويطرد ناظر المدرسة وسكرتيره اللذين دخلا عليه أيضا في مكتبه في ذلك الوقت ، وتنتهي بهذا المسرحية ، وهي نهاية غير قوية ، وتؤكد أن شكل الاسكتش الكوميدي هو ما اتبعه الحكيم في هذه المسرحية ممزوجا بمواهبه في الحوار المركز الطريف ووسائل الفكاهة التي أتقنها كرسم المواقف التي تقوم على سوء التفاهم
وأظن أن الحكيم بنى مسرحيته هذه على نادرة منسوبة لجحا التركي أي نصر الدين خوجة ملخصها أن تيمورلنك أمر جحا أن يعلم حماره القراءة والكتابة ،ووعده إن علمه بمكافأة كبيرة ، وتهدده في الوقت نفسه بأنه إن لم يستطع تعليمه فسوف يقطع رقبته ، واحتار جحا ماذا يفعل؟ ثم اهتدى لفكرة ،ودرب حماره عليها ، وذهب لتيمورلنك بحماره ، ومعه كتاب ، ثم أراه الحمار وهو يقلب صفحات الكتاب كأنه يقرأ فيه، وتعجب تيمورلنك ، وسأل جحا كيف جعل الحمار يفعل هذا؟ فأخبره أنه جاء بكتاب وكان يضع لحماره في كل صفحة منه بعض حبات شعير ، ويفر صفحات الكتاب ،ويأكل الحمار تلك الحبات ،ثم جعل الحمار يفر الصفحات بنفسه ويأكل ما بينها من حبات شعير ،ثم اعتاد الحمار أن يفر صفحاته سواء أكان بينها حبات شعير أم لا ،وتعجب تيمورلنك من حيلة جحا وكافأه عليها

محمد سامي / موقع الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *