محطات في ذاكرة مسرحية أطراف المدينة 1-2

محطات في ذاكرة مسرحية أطراف المدينة 1-2

العلي يعتمد جمالاً فنياً وفكاهة جماهيرية لا تخلو من مرارة

الموصل –  كافي لازم

بعد دخول البلاد في حالة الحصار القاسي الذي لم يحدث مثيله في تاريخ العالم المعاصر استمرت الحياة لدى العراقيين لانه شعب عريق وقوي لكن هذه المرة كان اكثر ايلاما وقسوة وهناك مشاهد تدمي القلوب.ضغط الحصار باتجاهاته الاربعة وتخلت عنا حتى الاقدار باهمال مقصود والصالحون يتفرجون ونحن نطحن تحت حادلة ضخمة فسُويت الارض بنا فلا ينفع الرجاء ولا المناجاة ولا زيارات الاضرحة. ادركنا باننا نعيش يوما ليس له غد ولابد لنا ان نصرخ في اقل تقدير لكن حتى الصراخ كان محاصرا… نبحث عن الخبز وان كان اسودا … كان ولدي الاصغر يلح عليّ ان اشتري له موزا مع انه ليس لديه فكرة عنه اصلا، وحدثت المعجزة وجلبت له موزا تأمله كثيرآ فأخذ يرعب به الاطفال الاخرين ظنآ منه انه قرن ثور وبعد ان اخذ درسا كيف يقشرها وليته لم يأكلها فالمصيبة اعظم لانه اخذ يلح بمضاعفة الكمية بعد ان تذوقها.

أحلام المسرح

زميلنا في التعليم الثانوي جبّر بالجبس ساقه مدعيآ انها كُسرت في الحمام وبقى فترة طويلة هكذا الا اني عرفت الحقيقة لاحقا ان فردة حذائه اليسرى لا تصلح للترقيع حتى..، واتبع هذه الطريقة لكي لا يستهزء التلاميذ بحذاءه..اتصل المدير باحد الاثرياء ليشتري له حذاء بطريقة سرية..هناك حكايات بحجم الكون في تلك الفترة ، اذن لابد من النزول للشارع. حينها ذهبت احلام المسرح والجمال الابداعي ادراج الرياح . كذلك العمل في فرقتي الاثيرة(فرقة المسرح الفني الحديث). وجد لي احد الاصدقاء عملا بعد الدوام الوظيفي بأن اكون (كاشيرا) في اسواق(دجاج الفارس).. قبلت العمل على مضض الى ساعات متأخرة هذا يعني انني لا ارى عائلتي يوما كاملا ولا فرصة لقراءة كتاب او مشاهدة التلفزيون او حتى ترتيب شؤون مكتبتي .بعد ان استلمت الوظيفة الجديدة ، هي تجربة ممتعة رغم ارهاصاتها وما تسببه لي من نكوص واذعان ، الناس واقفون في طابور طويل لشراء الدجاج ولا شك انهم من ميسوري الحال كونهم يشترون كميات هائلة ونوعيات ممتازة . استمر العمل هنا الى اربعة او خمسة اشهر.

 يومآ ما رأيت صديقي وزميلي في العمل المسرحي الفنان الراحل كاظم الزيدي واقفا في الطابور ،خرجت له لاعطيه الافضلية في الحصول على ما يريد. فتفاجئ بوجودي وادخلته الى المحل واستغرب كثيرا قال بالحرف الواحد ( اكمل عملك هذا الشهر وتلتحق معي كمدير للمسرح في مسرح النجاح وفي مسرحية(اطراف المدينة) ولك راتب افضل وتمارس عملك واختصاصك الفني) . انها البشرى التي انقذتني من الحاله التي انا بها.

حقيقة انبهرت بهذا المسرح الجديد الذي كان بالامس سينما مهملة بعد تطويرها وجعلها مسرحا من الطراز الراقي شكّل اضافة جديدة ومتطورة لعدد المسارح في البلد توفرت فيه جميع مستلزمات العمل المسرحي من بنى تحتيه وفنية.

ان التعاون المثمر بين المخرج المقتدر محسن العلي واداري المسرح المتميز كاظم الزيدي مع السيد عوني كان نموذجا فنيا رائعا لقد حرصوا هؤلاء الثلاثة على تقديم مسرح يضاهي المسارح الحكومية ليس في العراق بحسب بل في منطقة الشرق الاوسط والوطن العربي.

انا شخصيا سالت الاخوة الجزائريين برايهم عندما عرضوا مسرحيتهم (العيطة) في مهرجان المسرح العربي قالوا انه مسرح متكامل مئة في المئة. حيث تم استيراد احدث الاجهزة الفنية درجة اولى بكل المقاييس الحديثة وبكل تفاصيل احتياجات المسرح كما المسرح التجريبي في الطابق العلوي كأن هناك خلف هذا العمل اختصاص.

 ادارة مسرحية

استلمت ادارة مسرحية اطراف المدينة وهي من تاليف الكاتب عبد الامير شمخي واخراج المخرج المقتدر محسن العلي وتمثيل بهجت الجبوري /سعدية الزيدي/ليلى محمد/جاسم شرف/مكي عواد/سامي محمود/طه علوان /محمد صكر/خليل ابراهيم/غسان محمد مع كنعان علي(دبل كاست)/منى سلمان /طارق شاكر /بشرى اسماعيل/فلاح عبود/صلاح مونيكا/فاضل جاسم واخرون .اما دور البطلة فقد كان من اداء ثلاث ممثلات بارزات وهن حسب التسلسل التاريخي لبدء العرض: اسيا كمال/سناء عبد الرحمن/ليلى محمد.

فحوى المسرحية تدور حول عائلة رجل متمكن ماديا وميسور الحال وله سلطة عليا في العائلة مع ان اولاده مختلفون في حياتهم خصوصا ولده الاصغر الذي وقع في حب فتاة راقصة في فرقة غجرية جوالة (كاولية) اقامت حفلا في بيتهم الى درجة ان ولده الاصغر (محمد) غادر البيت مصاحبا حبيبته وفرقتها تاركا المال والجاه والمركز الاجتماعي وترك حتى خطيبته ومضى الى نهايته المأساوية ومن خلال البحث عنه من قبل عائلته تحدث مواقف تراجيكوميدي، اجاد الممثلون جميعا بادوارهم ، لسنا هنا بصدد سرد قصة المسرحية فهي موجودة ومسجله في ملايين الفيديوات المنتشرة ليس في السوق العراقي فحسب بل في جميع دول المنطقة ، ما زالت مطلوبة من قبل الجماهير وتشغل ساعات من البث في الفضائيات لاسيما في ايام العيد كذلك جميع مسرحيات المخرج محسن العلي مثل بيت وخمس بيبان ومقامات ابو سمرة … الخ.

الحقيقة كان منافسا قويا لفرقة المسرح الفني الحديث بكل ما قدمت من عروض قوية شكلا ومضموما كذلك بعدد ايام العرض فأذا كان عرض الحديث شهورا فأن عروضه لسنوات عديدة كاطراف المدينة استمرت 4 سنوات وبقية مسرحياته فضلا عن حجم المسارح التي لا تقارن بمسرح بغداد الذي تضم 300 مقعد فقط

واهم من يظن ان محسن العلي قد اسس للمسرح التجاري والواقع انه تأثر كثيرا بعروض فرقة المسرح الفني الحديث ذات الجمهور العريض وقد تعلم كثيرا من مؤسسيها الراحلين يوسف العاني ، خليل شوقي ،قاسم محمد وسامي عبد الحميد في كيفية الوصول الى قلب الجماهير لاسيما في بدايات عروضه على مسرح بغداد كمسرحية (حسين رخيّص) التي استمرت 11 شهرا ومسرحية(يونس السبعاوي) ، كتب يوسف العاني مقالا مطولا عن حسين رخيّص كذلك قاسم محمد . من هنا تطور الفكر الانتاجي لدى محسن العلي متزامنا مع الخزين المعرفي لديه في العملية الفنية كما انه يتميز بقدرته على معرفة انفاس الجمهور وماذا يريد .بطريقة تتناغم مع الحاله السياسية والاجتماعية وانعكاساتها على الجمهور في ظل الخصوصية التي يعيشها العراقيين من حروب وحصارات مستمرة فهو يتعايش ويرصد الناس في الشوارع والاسواق الشعبية ، من هنا يقدم الجمال الفني الى جانب الفكاهة الجماهيرية التي لا تخلو من المرارة بخط متوازي مع رصانه النص من حيث البناء الدرامي.

كما انه يرفض رفضا قاطعا الخروج عن النص الا بشرط انسجامه مع ايقاع العرض ويجب ان تكون اضافة نوعية وليس لغرض الضحك الرخيص انما يقدم (الضحك الصحي) وانا شخصيا راقبت حالة المتلقين وهم في نشوة وانطلاق عندما يشاهدون هذا الجمال المنقطع النظير . ربما المتلقي لا يعرف الجهد الكبير المبذول لتقديم هكذا اعمال كبيرة لاسيما ان محسن العلي يقود هكذا اعمال متفردا عن الاخرين فهو يقدم الموسيقى المسرحية بشكل مباشر من قبل فرقة موسيقيه كبيرة ويستعين بمدربي رقص ان استوجب ذلك اضف الى عدد هائل من المؤدين فضلا عن مكملات العرض المسرحي الاخرى كالانارة والملابس والديكور وكل شيء عنده محسوب بدقة متناهية وويل للمشتركين من الفنانين عند (الجنرال بروفة) فهو كالسيف في العمل رغم روحه المرحة ويستمر التمرين الى ساعات متاخرة من الليل . يدخل في التفاصيل الى حد الايماءة او الاشارة وعملية دخول وخروج الممثلين والفرقة الموسيقية وتوزيع المهام على الممثلين والاداريين خلف الكواليس بمعنى انه مايسترو وكونترول وجنرال اوحد لادارة عمل كبير فهو عندما يقرأ النص يدخله(سونار) خاص للفحص ويتهيأ للتمرين بنقاط اساسية مرسومة يضيف للنص حوارات وافكار بمعنى انه (يفصخ) النص ويعده اعدادا جديدا مع الحفاظ على اس القصة المكتوبة، خذ مثلا اطراف المدينة . فأذا كان المسرح الاستعراضي عند محسن العلي ياتي متناغما مع ما يفعله المصريين كالمخرج حسين كمال في (ريا وسكينة) او جلال الشرقاوي فهو لا يخلو من البعد الفكري والجمالي وليس لغرض ربط المشاهد او التسلية المجردة فقد تفوق عليهم .

https://www.azzaman.com/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش