لقطات سوداء من مسرحيات ” عودة الرجل الذي لم يغب ” للزيدي

ناريمان عثمان 

تحت عنوان ” عودة الرجل الذي لم يغب ” صدرت عن اتحاد الكتاب العرب ، خمس مسرحيات ذوات الفصل الواحد ، للكاتب العراقي على عبد النبي الزيدي .

أثناء قراءتي للمسرحيات الخمس ،كنت أشعر أن الكلمات لا تسري في ذهني ، بل كانت تنتصب كالدبابيس وتنخزني ، عندما أقرأ عادة أحب أن أرحل على متن الكلمات إلى تلك العوالم بين السطور ، لكن هذه المرة كنت أشعر بانكماش ، وأقف على عتبات عالم أسود ، وحياة موجعة ، عالم تدفعني الكلمات نحوه ، لكن روحي تتوق

إلى التعلق بأية قشة تنقذني من هذا السواد .

عندما أنهيت قراءة تلك المسرحيات الصادرة تحت عنوان “عودة الرجل الذي لم يغب .” لم أتمكن من إيداع الكتاب رف المكتبة كما هي عادتي ، شعرت أنه ينبغي أن يعرف الآخرون أيضا فظاعة المأساة ، وقبح الحرب ،وقسوة الحياة .

ثمة نوع من الرمز في كل المسرحيات ، لكنه رمز يفاجئنا بالواقع ، ويجعلنا نتسمر أمامه،

لست هنا بصدد النقد المسرحي ، لكن أريد أن أشارككم تلك الهواجس التي ولدتها هذه المسرحيات في نفسي ، لذا دونت انطباعي عن أول ثلاث مسرحيات ، وتركت الاثنتين الباقيتين للقارئ ليشكل انطباعاته بحرية .

 كل واحدة من المسرحيات تعاين ركنا مظلما من حياة المواطن العربي ،وبالأخص في بلاد الحروب التي لا تنتهي ، وأيضا تقف أمام معاينة لجانب من شخصية هذا المواطن .

هذه المسرحيات تصدمنا بحقيقة موجعة ، حقيقة الحرب القبيحة ، التي لا ينحصر دمارها في تحويل المدن إلى أنقاض ، والناس إلى أشلاء فقط ، وإنما تتعدى الكيان المادي لساحة الحرب ، وتعيث فسادا وخرابا في النفس الإنسانية ، لنجد أنفسنا أمام نوع خاص من البشر ، نوع اندثرت إنسانيتهم مع كل ما اندثر..

المسرحية الأولى كانت بعنوان ” قمامة ” الشخصيات فيها ، شريف ، وزوجته عفاف ،والأم والدة شريف .

يغيب شريف عن البيت لسنوات ،بسبب الحرب ، ويترك عروسه بعد شهر من زواجهما ،يقول لنا الكاتب أنه في الحرب يخسر الرجل أطرافه  ،ويتحول إلى أشلاء ومزق ، ويفقد الإنسان إنسانيته ، ويتحول الجميع إلى وحوش ضارية .

 عندما يعود شريف مبتور الأعضاء على كرسي متحرك ، يجد أن بيته أصبح مشبوها ، وأن عفاف تحولت إلى مومس ، يعود فيجد نفسه مرفوضا بالمطلق ومنسيا تماما ، ولا مكان له في حياة أمه وزوجته ، كان بالأمس رجل البيت الآمر والناهي، والآن لا يستطيع أن يحرك ساكنا ..يحاول ، يصرخ ، ويستجدي ، لكن لا شيء ينفع ، أمام تصلب قلب الأم ، وقسوة عفاف ، ورفضهما له ،وإصرارهما أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي بقيت أمامهم ليعيشوا ، ووجود هذا الكائن المربع “شريف” لا يتناسب مع عملهما ، لأنه لم يعد إنسانا ولا رجلا ،وإنما مجرد قمامة.

قصد الكاتب أن يسميها عفاف … عفاف التي تحولت إلى عهر ، وربما هذا نموذج مؤلم جدا عن المرأة في مجتمعنا ومن تعسفه ضدها،وتعسف المرأة ضد نفسها ..المرأة المعزولة عن الحياة ، معدومة الإمكانيات ، التي لا تستطيع أن تعيش إلا إذا أعالها وليها “الرجل ” ، وإلا ستسلك طريق عفاف تلك ..

 

     مسرحية “جيل رابع” .. سأسرد الشخصيات كما وصفها المؤلف ،لنقرأ تاريخ الأجيال من خلالها ، وفي المسرحية سنكتشف قدر الجيل الرابع.

–       الجد .. أعمى “الجيل الأول”

–       الأب “أبو ذراع” ..ذراعه اليمنى مبتورة “الجيل الثاني.”

–       الابن…لسانه مبتور “الجيل الثالث”

–       الأم

يفقد الأب ذراعه إثر شظية في الحرب ، ولذا أصبح مشهور ب”أبي ذراع ” ، ويعمل حاليا متسولا .

 طفل يأتي إلى الحياة بالخطأ ، وفي الساعة الأولى من ميلاده يقرر الأب ” أبو ذراع ” أن يبتر ذراع طفله ، سوف يجعل منه معاقا ، حتى يجد لنفسه في المستقبل ذريعة تعفيه من الالتحاق بالحرب ، حيث أنه منذ البداية سيعلمه مهنة التسول ،وبذا يكون قد وجد له سبيلا للعيش .

 يصبح بتر الأعضاء شائعا في المدينة ، الكل يلحقون بأنفسهم الإعاقات ، في سبيل النجاة .

حيث أن القهر وصل بهؤلاء إلى درجة عالية جدا من اليأس ، وأصبح الناس في تلك المدينة انهزاميين ومستسلمين إلى أبعد الحدود ، وهذه العقلية الانهزامية تملي عليهم أن ويلات الحرب لن تطالهم إلا في حال واحدة وهي فناؤهم ، لذلك لا يرغبون بأية حياة جديدة تتمثل بأي مولود ، لكن الطبيعة ترفض قرارهم هذا ، ورغما عنهم تحبل الأم من جديد ، عسى يأتي جيل خامس أو سادس ، جيل يبصر ، كامل الأعضاء وقادر على الكلام .

 

في مسرحية ” مساء الصمت أيها الصباح ” ، نطالع عقدة الصمت والخرس ، واقتراف جريمة الكلام .. شخوص دون أسماء ، فقط تنعت بأسماء موصولة ، يدخل أحدهم يملأ المكان بأجهزة التنصت ، يخبرهم أنه يفعل ذلك ليتمكن أو ليتمكنوا بصيغة الجمع من معرفة طريق الابن ،علما أنه عاطل عن العمل ، ولا شيء يثيره في الحياة ليتحرك إزاءه ، ورغم خموله لم يسلم منهم.

 وعندما يستفيق هذا الابن من النوم ، يجد أن الصمت أطبق على الجميع ، لا أحد من أهله يرد عليه ، يتكلم ويصرخ وحده كالمجنون ،وهم صامتون ،بل ويحاولون إسكاته ، يصرخ ويصرخ ، يسأل الجدران ، لكن أحدا لا يجرؤ على الكلام ، يغادر الابن البيت ، ثم يدخل الغريب ليجمع أجهزة التنصت ، يفرح الأهل لأنهم سيتمكنون من الكلام ، وسيحتفلون بعودة ابنهم وسيزغردون له ، لكن ابنهم عندما يعود يكون قد فقد القدرة على الكلام ، فيغرق ويغرقهم معه في الصمت.

شارلوتا عائشة

شركسية تتشرد في القفقاس لتصبح حديث فرنسا

شارلوتا – عائشة مسرحية شاهدها ستة آلاف متفرج في مئة عرض على خشبة المسرح ،لكنها عرضت آلاف المرات بطريقة أفظع على خشبة الحياة الواقعية ولم يشاهدها سوى الذين عاشوها.. في كل مرة بطلة مختلفة ، أم ثكلى.. امرأة ترملت.. بنت تيتمت ..وشعب تم شريده ..

شارلوتا – عائشة قصة صغيرة من الحكايات الطويلة للشعب الشركسي .. الحكايات والمسرحيات التي حين تسدل ستارها لا تستدعي التصفيق وإنما البكاء ..

كتبها شحابلوق عيسى باللغة الشركسية وترجمها إلى العربية بكثير من العناية عز الدين سطاس ، فلا يشعر المرء أن النص الذي بين يديه معرب عن لغة أجنبية .

ونشرت ضمن سلسلة عالم المسرح ، الصادرة في الكويت .

عائشة ابنة القفقاس ولدت هناك وحفر ذلك المكان في وجدانها بكل ما فيه ومن فيه ، بعادات أهلها وتقاليدهم بتربيتهم الخاصة ..

وضمن فصول المسرحية نطالع قصة عائشة التي حرمت العيش في وطنها ، وقدرت لها الحياة في فرنسا، إذ يشتريها سفير فرنسي يدعى دوفريول مقيم في استانبول ويرسلها إلى باريس ،حيث تتعلم وتبرع فيما تعلمت.

في المسرحية إحدى عشرة شخصية ، فبالإضافة إلى عائشة والسفير دوفريول ، تطالعنا شخصية لسيدة فريول ( زوجة أخ السفير )التي قامت على تربية عائشة ، وتنشأ بين عائشة ودارجانتال (ابن السيدة فريول ) أخوة قوية فيدافع عنها ويقف إلى جانبها في محنتها ، والفارس شيفالييه الذي يقع في هوى عائشة ، وكذلك السيدة تانسين ( أخت السيدة فريول )التي تهوى التلاعب بمشاعر الرجال والتنقل بينهم ، وصوفيا (الخادمة في بيت السفير).

يبدأ الفصل الأول بمجموعة من الأصدقاء يلعبون الورق في بهو ضخم ببيت السفير دوفريول ، وتدخل عائشة لتذهلهم بفستانها الذي صممته ونفذته بنفسها ، يطلبون منها أن تردد أغنية من بلادها ،فتتذكر أغنية ستناي وأغنية ساوسروقوه ، وأغنية العصفور الأثيرة لديها ، فتخبرهم بقصتها مع العصفور ومع الأغنية ، فوالد عائشة غرس شجرة يوم ولدت وأقام أرجوحة لها في طفولتها ، ونشأت علاقة حميمة بينها وبين العصفور فيغنيان معا هو على الغصن وهي تجلس في الأرجوحة ، لكن ذات يوم يتأخر عصفورها عن الموعد ، لأن القرية قد تم اجتياحها وتدمير بيوتها وسبي نسائها ، ومنذ ذلك اليوم وعائشة تغني لذلك العصفور الذي اغتالوه واغتالوا طفولتها معه.

تتابع السيدة ( زوجة أخ السفير والتي ربت عائشة فريول سرد الحكاية بعد أن تغادر عائشة الغرفة ، فتقول إن والد عائشة قد تم قتله وسبي أمها ، لكن عائشة رفضت السبي وألقت بنفسها في اليم لكن بحارة أتراك سارعوا إلى إنقاذها ، وقدمت عائشة كهدية إلى السلطان الذي تقدم به العمر فأمر بعرضها في السوق ، ومن هناك اشتراها السفير دوفريول وأرسلها إلى باريس .

ويغادر الجميع إلى مسرحية سيبدأ عرضها عدا عائشة والسيدة فريول ، لأن السفير سيعود ليلتها من السفر.

ترحب عائشة بالسفير بحرارة وتناديه ب”أبي” وتخبره فرحة بكل ما أنجزته في غيابه من تفوق ودراسة وقراءة مثابرة ،وتعده بأن تكون له ابنة بارة سترفع رأسه وستساعده أيضا لأنها قرأت كثيرا عن السياسين والدبلوماسيين .

تخرج عائشة لإحضار العشاء ،ويدور حديث بين السفير والسيدة فريول ، حديث سيروع عائشة ويلقب حياتها رأسا على عقب وسينشل منها الاستقرار الذي بالكاد وجدته، حيث يعرب السفير عن رغبته الكبيرة بعائشة يريدها خليلة وهي التي تظن أنها ابنته ، فيضاف السفير إلى قائمة الراغبين بجمالها القفقاسي المذهل ، تقوم السيدة فريول بإقفال غرفة عائشة وتطلب منها قضاء الليل في الغرفة المجاورة لغرفة الكونت .

تحاول عائشة دخول غرفتها ويحاول الكونت التحرش بها فتتوسله أن يكف عن ذلك ، تناشده باسم الأبوة التي كانت .. تتدخل السيدة فريول وتطالب عائشة بالخضوع للسفير الذي سيهبها ماله وجاهه ، فهذا أقل ما يمكن أن تقدمه عائشة إلى الرجل الذي وفر لها هذه الحياة ..!

أمام عناد عائشة ورفضها تعلن السيدة فريول أنها ستنبذ عائشة وتطردها إن لم تلب رغبات السفير ..

تناشد عائشة السفير مرارة في الفترات التالية ، لكنه يدعي أنه اشتراها بالمال ومايشتريه المرء يكون ملكه ..

لا يطول الأمر بالسفير فيمرض ، وتأخذ عائشة على عاتقها العناية بالرجل المريض رغم كل ما سببه لها من آلام .. فتجلس إلى جانبه وتقرأ له الكتب السياسية .

تتبادل عائشة الإعجاب مع شاب يدعى شيفالييه ” فارس من الحرس الملكي ” يعرب لها دائما عن حبه الكبير ، لكن هذا الفارس ممنوع من الزواج وفق اليمين الذي أقسمه بأن يبقى أعزبا مدى الحياة حينما انضم إلى فرقة الفرسان ..

السفير لم يكن آخر رجل يحاول فرض نفسه على عائشة ، فالسيدة فريول تبشر عائشة برغبة ولي العهد شخصيا فيها ،فعائشة صارت حديث فرنسا، فتعيش قصة العناد والرفض مرة أخرى .. ترفض أن تبيع إنسانيتها وكرامتها للملك ..فتضطر للعيش في السقيفة التي اختارتها لها السيدة فريول .

حبها لشفالييه يدفعها إلى صراع مع نفسها ومع المجتمع الذي لن يقبل باقترانهما، تنجب عائشة طفلة من شفالييه تسميها بليك ، وتضطر لإرسالها إلى إنكلترا في الخفاء دون أن تعرف الطفلة من يكون أبويها ، تقضي عائشة وقتها تطالع الكتب وتكتب وتراسل فولتر الذي أبدى إعجابه بكتاباتها ، إلا أن صحتها تأخذ بالتراجع ، يعرض شيفالييه بيع نصف ممتلكاته وتقديمها إلى عائشة لتصبح مالكة ، ويحاول الاستقالة من مجتمع الرهبنة.

تعترف عائشة لابنتها بالحقيقة في زيارة لها ، وقد غدت الطفلة في التاسعة من عمرها ، وتفكر بالرجوع إلى بلادها بصحبة ابنتها ، هناك قد يغفرون لها ذنبها، قد تجد عندهم الاستقرار الذي سرقته الحرب منها ولم تجده ثانية طوال حياتها .

يحسم شيفالييه أمره ويقرر أخذ ابنته من الدير لتعيش معه وكذلك عائشة ، عندما تأتي عائشة لزيارة ابنتها يخبرونها بأن شيفالييه قد أخذها ، فتشعر عائشة بحزن عميق وقبل أن يصل شيفالييه وابنته الذين كانا ينتظرانها عند ضفة النهر ، تسلم عائشة روحها ، لتنتهي المسرحية بمناجاة البنت لأمها الميتة .

كان الموت أول حدث عرفته عائشة منذ طفولتها وكان الموت ينتظرها أيضا في ريعان شبابها ، لأن الحرب التي أحرقت بيتها .. أحرقت سعادتها أيضا .

جسدت هذه المسرحية مأساة فتاة شركسية عانت طوال حياتها ، سلطت الضوء على زوايا من ألم أهلها في القفقاس ، لكن القارئ لها يرى في الأركان المعتمة من خشبة المسرح ، يرى ويسمع الكثير من الشقاء الذي لم يفصح عنه جهرا .. يشعر بتوحد الإنسانية ويسمع أنين البشرية التي ترزح تحت براثن الحرب الظالمة في نواح الأرض .. يشعر كم هي هواجس المظلومين واحدة ،يدرك كم أن ألمهم كبير، مهما كانت المسافة الجغرافية أو الزمنية التي تفصلهم ..

———————————————–

المصدر : مجلة الفنون المسرحية  

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *