«كوميديا البؤساء».. بين رؤية «هوجو» وخيال المؤلف / هند سلامة

المصدر / محمد سامي موقع الخشبة

«كوميديا البؤساء» عنوان صادم لإعادة تخيل ومعالجة الرواية الأشهر «البؤساء» أو «les> miserables» للكاتب فيكتور هوجو؛ أحد أضخم الأعمال المأساوية التى قدمت على مدار سنوات وعقود بسينمات ومسارح العالم، فكيف تحول هذا العمل صاحب الظلمة الحالكة إلى عمل مسرحى مبهر ومبهج فى حين أنه من أكثر الأعمال الروائية إثارة لإيقاظ مشاعر الظلم والشفقة لدى كل من يقرأها أو يتصفحها أو يشاهدها؛ لذلك لابد أن يدفعك الفضول لتتبع آثار هذا العرض برؤيته الفنية الجديدة على خشبة مسرح ميامي..!!

قصة «هوجو» الأصلية
المعروف أن رواية «البؤساء» لفيكتور هوجو حملت الكثير من التفاصيل الإنسانية شديدة القتامة لتعرض أبطالها جميعًا إلى ظلم حالك قدم فيها هوجو أحد أشكال الظلم الاجتماعى فى فترة من فترات الحكم الفرنسى لرجل يدعى «جان فالجان» الذى دفعته الحاجة إلى سرقة رغيف خبز كى يطعم أبناء أخته الأرملة، لكنه يقع تحت يد العدالة ويحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات ثم تزداد المدة كلما حاول الهرب حتى يصل عدد سنين سجنه لـ 19 سنة بعدها يخرج محطمًا للمجتمع ويحاول سرقة قس أحسن إليه فور خروجه لأنه لم يصدق إحسان وورع الرجل فيلقى عليه القبض من جديد وهذه المرة يسامحه القس ويؤكد للضباط أنه هو من أعطاه هذه الشمعدانات الفضة فلم يسرقها بل وزاد عليها بعض الفضيات حتى يتطهر من ذنوبه ويعود للحياة من جديد بقلب طاهر ورجل ثري.. نجا هذا الرجل من يد العدالة هذه المرة ليصبح عمدة بإحدى القرى باسم آخر «مادلين» والتى افتتح بها مصنعًا كبيرًا وعملت لديه امرأة فقيرة تركها حبيبها بعد إنجابها لـ «كوزيت» والتى تخفى خبرها حتى لا تطرد من مصنعه فى النهاية يتم طردها ثم ينقذها «فالجان» من التشرد والضياع ويتكفل بعلاجها وتربية ابنتها..
كيف خرجت «البؤساء» على يد المؤلفة
هذه بعض من حكايات شخصيات رواية البؤساء التى نعرفها جميعًا والتى أبدع هوجو فى المبالغة بوصف شقاء وبؤس أبطالها أثناء حكم نابليون بونابرت فتعتبر روايته تلخيصًا للوضع السياسى والاجتماعى لتلك الفترة، لكن اليوم كيف رأت مخرجة ومؤلفة العرض مروة رضوان رواية البؤساء عام 2018؛ بدأ العرض باستعراض أشكال البؤس الاجتماعى بشكل عام من مشاهد متفرقة بالسينما المصرية والعالمية مثل «لا تسألنى من أنا»، «فتاة من إسرائيل»، مسلسل « طاقة نور»، لقطة من مسلسل «فيفا أطاطا»، «the pursuit of happiness»،»lala land» قدمت رضوان فكرة مبتكرة بالربط بين بؤس هوجو وبؤساء العالم اليوم فقامت باستدعاء بطل هذه الرواية وحاولت تخيل الفترة التى سقطت من خيال هوجو أو التى لم يذكرها فى روايته وهى الفترة التى بدأ فيها ببناء نفسه بعد خروجه من الحبس ليصبح عمدة المدينة ومن أثريائها ويساعد الفقراء والمحتاجين، وخلال رحلته يفتتح سلسلة محلات كبيرة ثم يلتقى فتاة أحبها «شيري» فطوال رحلة «فالجان» عند هوجو لم نعلم له قصة حب سوى حبه الأبوى العميق لكوزيت ثم عاش ومات وحيدًا بلا امرأة لكنه هنا يعشق ويتزوج يوم زواج كوزيت بمن أحب فى رحلته المتخيلة على مسرح ميامي؛ بعد ذلك نرى شخصية جميل صاحب التياترو أو الكباريه وهو العدو اللدود لفالجان وهذه الشخصية أيضًا تمنحك إيحاء بأنه قد يكون جافيير الذى ظل يتعقبه ويراقبه طوال حياته وقد يكون تينارديه الذى ظل يستنزفه بسبب كوزيت، ثم نسجت المؤلفة من خيالها حوله قصصًا متفرقة لمجموعة أشخاص مختلفين قد يمثل معظمهم حال شباب المجتمع اليوم فى يأسه وطموحه الذى قتل؛ فمنهن من تبحث عن عريس مناسب لأنها لم تتزوج بعد ومنهن من تركها حبيبها وأصبحت مطلقة تعانى الوحدة والأرملة التى تركها زوجها ومعها طفلتان توأم تحيا فى حزن دائم، حكايات متناثرة حول هذا البطل الذى يمثل الحاضر والغائب.
قوة روحية خارقة!
حاولت رضوان عمل كولاج بين بؤس ويأس أبطال هوجو وبين بؤس الشباب المعاصر فى قالب مسرحى غنائى استعراضى سيطرت عليه البهجة أكثر من الكوميديا، وربما يعتبر من أصعب الأعمال التى كتبتها رضوان على مستوى الكتابة المسرحية ففيه دمجت ومزجت بين وحى خيالها وخيال المؤلف كى تستكمل له ما نقص بروايته؛ ثم تطرح وجهة نظرها فيما كتب بذكاء ونعومة شديدة بجانب سخريتها من الواقع البائس الذى عاشه بطل الرواية والذى نعيشه اليوم فى عالمنا المعاصر، كما أضافت على شخصية فالجان قوة روحية خارقة بدلًا من قوته الجسمانية عند هوجو، فهو رجل قادر على التنبؤ بما سيحدث فى الساعات القادمة فتوقع حدوث برق ورعد وسيول بدخوله المدينة بعد غيابه عنها؛ وكأنه نبى مرسل حمل ظهوره علامة كونية أو آية تشير بتبدل حال هؤلاء البؤساء بعد عودته إليهم!
الجمع بين النقيضين!
لم يحمل العمل كوميديا صارخة أو مواقف باعثة على الضحك بل كانت له فلسفة أعمق بتحقيق حالة من البهجة من واقع مناقض لها؛ ففى هذا العرض حمل رسالتين متناقضتين الأولى استعراضه للشقاء الاجتماعى لأكثر من شخص ثم منحهم الأمل فى استعادة الطموح والإصرار على تحقيقه سواء كان هذا الطموح مهنيًا أو معنويًا فبعد أن ترك فالجان حبيبته بعد أن دفعه جميل لارتكاب هذه الحماقة بحجة أن تركه لها يشكل احتفاظًا أكبر بها وبحبها إلى الأبد، لكنه يتدارك هذا الخطأ ويعيدها إليه من جديد، فلم ينته العمل نهاية مأساوية بموت «جان فالجان» وزواج كوزيت من حبيبها كما انتهت رواية هوجو؛ فكما ذكرنا تحررت المؤلفة من خيال ورؤية هوجو ووضعت رؤيتها الخاصة للواقع القاتم بنظرة حب وأمل وتفاؤل؛ ففى الوقت الذى عاد فيه هذا الرجل للمدينة التى كان قد أصبح ثريًا بين أهلها ثم تركهم بعد تخليه عن حبيبته «شيري» يعانون الحزن والحاجة من جديد؛ عاد بعد سنوات كى يعيد إليهم البسمة والأمل والحب الذى أضاعه فى لحظة عجز.
بقاء الأغانى فى أذن مستمعيها
بالطبع كان للأغانى وموضوعاتها أثر أعمق فى التعبير وتفسير وجهة نظر المؤلف حيث حملت الكثير من الأفكار التى أراد العرض طرحها والتشديد عليها بدءًا من أغنية «عيد البؤس» التى بدأ بها العرض والتى لخصت بدقة حكايات سكان هذا الشارع وفيها تلخيص لواقع الشباب الحالي، ثم «أعلن حبك»، سيطر على عقلك»، و»من سنين» التى حكى خلالها قصة رواية البؤساء حتى يكتمل النصاب الدرامى للعرض فلأن المؤلفة قررت استكمال جزء من خيال المؤلف الذى تجاهله أو تناساه كان عليها أن تفسر وتوضح رواية «البؤساء» لفيكتور هوجو التى لم يعلمها الجميع أو من لم تسبق له مشاهدتها من قبل وتعتبر أغنية «من سنين» من أصعب وأعقد أغانى العمل فى استرسال السرد القصصى بأغنية طويلة صنعت بمهارة فنية بالغة على مستوى الغناء والكتابة والتلحين؛ ففى هذا العرض كان البطل الحقيقى بلا منازع المهارة  والحرفة العالية فى صناعة الأغانى والألحان؛ التى تتشابه مع ألحان وأغانى تترات المسلسلات التى يألفها المشاهد ثم تلتصق بذهنه كى يعيد استرجاعها والتغنى بها من جديد، وهذه الحالة من البقاء فى أذن المستمعين نادرًا ما تحدث مع عرض مسرحى نجح صناعه فى تحقيق هذه الغاية كما لم ينجح عمل غنائى من قبل.
التمثيل الحلقة الأضعف
تفرد ايضا «كوميديا البؤساء» فى صناعة الديكور والملابس على يد مصمم الديكور عمرو الأشرف ومصممة الأزياء نعيمة عجمي؛ ففيه شكل مختلف وجاذب لصناعة ملابس مبهرة وبألوان زاهية للديكور وتصميمات مبتكرة لملابس الجميع، شكلت لوحة فنية شديدة التميز والإتقان، وكانت إضافة كبيرة لتحقيق الغاية من فكرة العمل وهى بهجة هؤلاء «البؤساء» رغم أزماتهم الحياتية لكنهم يعيشون بالأمل؛ ورغم ذلك كان التمثيل الحلقة الأضعف بالعرض المسرحى فلم يتساوى الجميع فى مستوى الأداء حيث لعب معظم الممثلين أدوارهم فى إطار العادى والمضمون وكانت على رأس هؤلاء بطلة العرض رنا سماحة فى دور «شيري» التى لم تشأ بذل جهد أكبر بل أدت دورها من منطقة السكون فلا تستطيع الحكم على أدائها بالجودة الشديدة أو الضعف الشديد، وهو ما يضمن لها الحد الأدنى من النجاح المقبول وكذلك كان رامى الطمبارى فى دور «جان فالجان» فلم يكن الطمبارى على عهده بمستوى أدائه بالأعمال السابقة بل كان أقل  من مستواه المعتاد ولعب الشخصية بأداء هادئ وربما باهت ورتيب فى بعض الأحيان؛ لكن على النقيض كان محمود عزت فى دور جميل الذى إلتزم فى عمله من الدقيقة الأولى وحتى النهاية بتقمص هذه الشخصية البغيضة بمهارة واحتراف شديد، كما كان مفاجأة العرض عبده مطرب فريق بلاك تيما فى دور صديق «فالجان» ففى هذا العمل يعتبر عبده إكتشاف ككوميديان متميز وربما لم تسمح له حدود الشخصية الظهور بشكل أكبر فربما لو فتحت له مساحات بالعرض كنا سنرى إضافة فنية جديدة لعالم الكوميديا، وباقى ابطال العرض تراوح ادائهم بين الجيد والمتوسط؛ مثل مايا ماهر وزينة زين فى دور التوأمتين كانتا الأشد اندماجًا وتلقائية فى أداء دوريهما والأكثر معايشة وكذلك كان أيضًا إيهاب الزناتى محمود خالد ورودى سماحة فى دور التعليق الساخر على الأحداث، فهولاء كانوا الأكثر عفوية فى الأداء من الأدوار التالية لمريم البحراوي، ورانيا النجار، محمد حسن، أكرم عمران، لكن فى النهاية نحن أمام عمل غنائى استعراضى ضخم صنع بمهارة فنية بالغة على مستوى كتابة الأشعار أحمد حسن راؤول، وألحان محمد الصاوي، وتوزيع حازم سعيد، واستعراضات رشا مجدي، أزياء نعمية عجمي، إضاءة وديكور عمرو الأشرف تأليف وإخراج مروة رضوان.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *