قراءة في مسرحية «الجنة تفتح أبوابها متأخرة» – أثير علي #مهرجان_المسرح_العربي12

يتبدى عرض «الجنة تفتح أبوابها متأخرة» محملاً بجماليّةٍ مفردة وقولٍ فني ينزاح عن المألوف. ولا يخفى على المتفكّر في العرض أن تعديلاً جرى على العمل الأدبي بغية موضعة النص في سياق فني مختلف يتيح طرحاً نقدياً جديداً، وهذا إن دلّ على شيء فيدلّ على قابليّة النص لأن يعبّر عن زمنه الذي كُتِب فيه وما يفيض عنه من أزمنة آتية، إضافة لبراعة المخرج الفنيّة لاستثمار هذه القابلية وملائمة المادة النصيّة الخام، التي تتناول الحرب والحصار على العراق، مع مرجعيّة جديدة مرتبطة بواقع الاحتلال الفلسطيني.

العتبة -الاستهلال

عند مطلع المسرحية تُسمَعُ من وراءِ معالم الخشبة العارية تهليلات طقس الزفاف الفلسطيني، لتبدأ الرحلة الدراميّة بعروسٍ فلسطينيّة مغمورةٍ ببؤرة النور، وهي تتقدم جبهياً نحو الصالة. سرعان ما تُسمَعُ صفارات الإنذار عوضاً عن الزغاريد. تجثو العروس الشابة على مقعدٍ واطئ، بينما يحتلُ صوت عقارب الساعة فضاء المشهد مترافقاً مع تحوّل العروس إلى الشيخوخة، فينقصفُ صِباها، ويغزو المشيبُ شعرَها. وهذا التغيّر الموجز زمنياً يتكئ على إيماءٍ مقتضب ليدلّ على مرور الوقت، الأمر الذي يمهدُ للربط بين زمن حكاية الانتظار الكلي، على خلفية ذئبيّة الحرب، مع الجزءِ المقدم من هذه الحكاية فوق الخشبة على التوالي؛ حيث يدخل العريس/ الرجل بزي المقاتل وبكامل بهاءِ شبابه وقد أمضّه الشوق؛ ليشرعَ الحوارُ بين الشخصيتين بلغةٍ شعرية، توقّعُ مساحاتِ الصمت الدلالي كما الصوتُ المنطوق.

تأخذ المرأة/ الزوجة بالسؤال عن هوية الأسير/ الزوج العائد المنكفئ إلى الدار، في الآن الذي تقابل فيه شبابَه بوجهٍ وضع الدهرُ عليه بصماته، وينزّ بتعابير الشك والنفي ومرتسمات الإنكار. هكذا ترفض الزوجة التعرف على الزوج/ الأسير طالما لم يدركه تغيّرٌ يُذكَر رغماً عن قانونِ الطبيعة وكُرُور السنين واعتصارِ العمر.

في معرض الحديث هنا، لا يجانب الصواب القول أن سؤال الزوجة الموجّه للأسير العائد يستبطن سؤالاً كامناً حول ذاتها وماهيتها في ذروة الشدة تحت ظلال انتظارٍ يقضم عروق الحياة.

مفهوم الزمن في «الجنة تفتح أبوابها متأخرة»

يتمحور الموقف الدرامي حول لقاء الأسير مع الزوجة المنتظرة، وإنكار هذه الأخيرة له، ورفضها التعرف عليه بادئ ذي بدء.

من المعروف أنه قد تمّ تناول موضوعة “الانتظار” في تاريخ الأدب والفن، فعديدة هي النصوص الأدبية واللوحات التصويرية التي قاربته جمالياً، ولعل أشهر هذه “الانتظارات” انتظار بينيلوبي في ملحمة هوميروس، وانتظار غودو العبثي في مسرحية بيكيت المشهورة. بيد أن “الانتظار” في «الجنة تفتح أبوابها متأخرة» يبوح بمقاربة مغايرة عن “الانتظار” التراجيدي الحتمي ومآلاته الدرامية التقليدية، كما أنه مفارق لـ”الانتظار” السكوني المطلق في المسرح العدمي واللامعقول. وهذا الانشقاق يتأتى من مفهوم الزمن الذي نسجه العراقي فلاح شاكر في نصه، وتلقفه الأردني يحيى البشتاوي بحساسية جمالية مرهفة في عرضه البليغ.

حسناً، ماهي طبيعة الزمن في المسرحيّة؟

من الواضح أن المسرحية تغضُّ الطرف عن الخط الدرامي التراجيدي المتصاعد، الذي يتكثف ليصبّ عند القدر الحتمي. ذلك أن تعاقب الأحداث التقليدي وفق منطق العلّة والمعلول مغيّب عن العرض. من جانب آخر، تبدو المسرحية ظاهرياً أو للوهلة الأولى أنها تنتهي من حيث تبدأ، حيث يكرر الزمن فيها نفسه ضمن حلقة سكونية مقترباً من البنية الدائرية والمفهوم العدمي للزمن؛ ولكن التأمل والإمعان في الحوار المنطوق والمعشّقِ بالشعر يوعزُ بزمنٍ فلسفي آخر، وبخطٍ درامي لا يتقدم بشكلٍ مستقيم فضلاً عن أنه ليس دائرياً جامداً، الأمر الذي يدفع للقول أنَّ المسرحية تنزاح عن جبريّةِ “قدر الانتظار” التراجيدي، كما أنها تشيحُ الطرف عن عدميّة “قدر الانتظار” العبثي كذلك. وتسمح بقراءة “الانتظار” ضمن سيرورة التطور التاريخي، حيث ترتبط تصرفات الشخصيات وتحولاتها بعوامل تتخطى فرديتها ووعيها الذاتي، إلى ما هو متعالق مع واقع مرحلتها ومعيشها.

من كل ماسبق، يمكن القول أن الزمن المسرحي لا يتطور وفق خط مستقيم، ولا وجود لحلقة مفرغة تدور في مكانها، بل ثمَّة انقلابٌ وتطورٌ جديد وانتظارٌ مختلف في النهاية. إنَّه زمنٌ لولبي ينطلقُ من نقطةٍ مركزية، وكلّما دار حولها يكرر ما يقابلها رغم أنه يبتعد عنها ليكون في النقطة المتقدمة أرقى وأكثر تطوراً من النقطة الأدنى التي يقابلها. بمعنى أنَّ بنية المسرحية تبعاً لوجهة النظر هذه، تتطور وفقاً لسيرورة لولبيّة، محركها هو الديناميّة الداخليّة للسجال بين الشخصيات، حيث يقدم العرض دورة منحنية واحدة تنتهي بانقلابِ وتحولِ الزوجة وبداية دورة انتظارٍ جديد، فلا عودة للوراء ولا لنقطة الانطلاق، بل هناك اتجاه نحو الأعلى، يتبدى الانتظار عنده كخيار يعبر عن إرادةٍ حرة تشيرُ بدورها إلى تأكيدِ المسرحية على “القدْريّة” (من القُدْرَة) وأنَ الإنسان خالقٌ لفعله بالمعنى الفلسفي، وبالتالي رفض “الجبريّة” وعنت التسليم المحتمل لدى الشحصيات.

من جانب آخر، لابد من القول أنَّ عنصر “الصراع” يتبدّى في مسرحية «الجنة تفتح أبوابها متأخرة» أسوة بصراعٍ سجالي، ويقترب مما يعرف باليونانية باسم “الأغون” الكلامي، وهو شكل من أشكال المبارزة اللفظيّة، ويتجلى في العرض من خلال المحاججة، والمحاورة الرمزية التأويليّة، على مستوى الذكريات ونزيف الأفكار والرغبات المومضة بين الزوجة والأسير. ومن هذا السجال الحواري، والشدّ والجذب اللغوي، تتداعى صور الماضي من مرقدها في مخيلة الشخصيتين، وتنثال في الفضاء المسرحي غير المرئي، لتنضاف إلى ما يبصره ويتبصره ويتقراه المتلقي؛ وكأنّ مخرج العرض يحثّ عين المتفرج على المشاركة في تكوين المشهديّة المسرحيّة، سواء تلك الحاضرة المرئية فوق الخشبة، أم تلك البعيدة التي دارت أحداثها في زمن راحل. وفي المحصلة يكون المتلقي شاهداً على كيفية تحوّل الزوجة من الإنكار، إلى الشك اللاأدري، إلى نفي الإنكار، وبالتالي التعرّف على الزوج، وإدراكها لجوهرِ الانتظار في التاريخ في ذروةِ الاشتهاء آنَ تسلّم طلقة الرصاص الخبيئة للعاشق بإرادتها. بناء عليه تتطهرُ الزوجة من مفرزات السلب والهرم والانحدار، ويتجدد شبابها وقدرتها كذاتٍ مقاومة على دفع الحدث الدرامي نحو مخاض بداية جديدة، أو دورة انتظار أخرى تماثل دورة تعاقب الفصول؛ مشددة بذلك على مفهوم “المرأة الحامية” وجوهر الخصوبة المحايث لكينونتها كامرأة.

حسناً يقدم لنا العرض عاشقان وجود كل منهما مُعشق في الآخر، معلقان في الانتظار كجوهر يرجع إليه كل ما هو فوق البسيطة وما هو فوق الخشبة بآن واحد، الايروس الكامن في خلوة اللقاء بعد فراق طويل، والمعبر عنه بكيفيّة توظيف الإضاءة والتشكيلات البصرية والحركيّة، فضلاً عن الكلام والصمت الماثل وراء الكلمات، يلطمُ مناورات الزوجين، سواء المرتدة إلى العزلة أو الانفصال أو الانفعالات المضطربة، أو الحنو ولهفة العناق … ويُرى عالمهما كتأملاتٍ حول اختلاء رجل بامرأةٍ حبيبة تعقدُ الوصالَ بين خصوبةِ القلب ونبضات الزمن وفعل الانتظار.

هكذا فجدلية الانتظار في المسرحية تدلّ على أن كلّ شيء (كل انتظار) إلى تغيّر وتحوّل، فلا شيء (ما من انتظار) يبقى حيث هو، ولا شيء (لا انتظار) يظلّ على ما هو. والإنسان في زمن هو غير الإنسان في زمن آخر. وعليه فإن «الجنة تفتح أبوابها متأخرة» تشدد على دور الشخصيات في رسم حركة التاريخ من خلال صيرورة تجدد الانتظار، وشرف بل جدوى المحاولة السيزيفية في كل زمان ومكان حرب وحصار.

شعرنة المسرحية من خلال النص، الأداء التمثيلي، الإضاءة، المؤثرات الصوتية

أحد أهم السمات التعبيرية المميزة التي يتوسلها هذا العمل المسرحي يتجلى بـ”الشعرنة” نصاً وعرضاً. ويقصد هنا بـ”الشعرنة” إضفاء طابع الشعر النثري وماهيته على المسرحية. ومن النافل للقول أن “الشعرنة” تختلف عن “مسرحة” الشعر الذي يعني إضفاء الطابع والخصوصية المسرحية على قصيدة أو نص شعري.

لعل في “شعرنة” المسرحية فعل مقاومة يتغيا رفض مفهوم “المسرح بدون النص الأدبي” الذي يتجاوز اللغة والحوار، ويلغي الكلمة لصالح محض الطابع اللعبي، والحركات الدلالية والعلامات المتشكلة على الخشبة. كما أن “الشعرنة” تبدو كوسيلة من أجل خلق عالم فني يتواشج فيه البعد الكوني الرحب مع محليّة البعد الفلسطيني من خلال التكثيف اللغوي والاستعارات والترميز الثقافي، وتكوين الفراغ والتشكيل البصري المتقشف الذي يقول الكثير من خلال انسجام الإضاءة مع إيقاع العرض، وأسلوب الأداء والالقاء، وحركة الممثلين على الخشبة، والمؤثرات السمعية … من هنا يمكن فهم وتبرير تناغم الإضاءة مع أدق خلجة من خلجات الشخصيات ومضمون اللحظة الدرامية، ورسمها للفكرة المجردة بخطوط النور وبقعه التشكيليّة (مثل ثلاثة خطوط مسقطة على شكل قضبان للتعبير عن سجن الانتظار، بقعتين من الضوء البارد مسقطتين بشكل شاقولي ومنفصلتين للتعبير عن الهوة الفاصلة بين الزوجين، ارتعاش الضوء أثناء الاقتراب بالسجال الكلامي من التوتر الروحي والجسدي بين الزوجين، خط من ضوء محوري يتموضع عند طرفيه الزوجان حيث تتولى عجن خبز الحياة، وهو يسقي بماء الحياة…).

إلى كل ذلك، يمكن القول أن «الجنة تفتح أبوابها متأخرة» أسست من خلال حنظليّة الانتظار لرؤية مغايرة تقاوم رعب زمكانيتها، حينما اقترحت خلاصاً مفارقاً من خلال “شعرنة” عرض مسرحي، ينصر هوية ثقافية فلسطينية، انطلاقاً من حساسية التواشج الوجودي بين اللغة الفصحى مع اللهجة الفلسطينية التي تتبدى كمكوّن من مكونات الهوية.

من كل ما سبق، وبالتركيز على الشخصيات، يمكن القول أنها اقتربت من مثيلاتها في المسرح التعبيري، من حيث تركيز الشخصيات على المضمون والموقف الأخلاقي والأفكار المجردة بغية إبراز جوهر الانتظار والحب الذي يتخفى في برازخ هذا الانتظار. كما أن العرض يعكس شغف المخرج بكيفيّة بناء عمق الصورة كفضاء بصري تتعايش فيه شخصياته براحة، تكمّله ويكمّلها. فتتواكب مشاهد شاعرية، تحاول باستمرار تنمية ردةِ فعلٍ حسيّة لدى المتفرج، فيبتعد تماماً عما هو معقّد وغرائبي، ليترك فسحة ذهنية تتوالد فيها رموزه من بساطة تركيب المشهد المسرحي.

“الجنة تفتح أبوابها متأخرة” هي فعلٌ مسرحي يحاول عرض الجدلية بين “الموت انتظاراً” وبين “البعث من الانتظار”؛ هي فعلٌ يكثف عالماً من الصور ويحيلها إلى بساطتها الأولى: لا ديكور ولا زخرف ولا شيء يفيض عن الحاجة، وتنسج المسرحية دراميتها من ثنائيات مبنية على تجاذب قطبين: (المرئي، غير المرئي)، (المرتسمات المجازية، الموحيات)، (الشعر، النثر)، (الانتظار الشعري، المرأة ربة الانتظار)، (الصورة، الكلمة)، (الضوء، العتمة)، (البارد، الحار)، (اللحظة، التاريخ)، (رغيف الخبز، شاهدة القبر) (حقيبة السفر، التابوت)…

تنسرب الثنائيات من العرض كمفارقات جدليّة، إلى أن يُعلَن مخاض الانتظار؛ وكأن في قيام المرأة من الشيخوخة وانبعاث بواكير انتظار جديد إيذان بانتهاء العرض المسرحي واستمراره بآن.

في بعض الأحيان، يرافقُ الصوتُ المسموع تشكيلاً مكوناً من أجسادِ الممثلين، وفي أحيانٍ أُخر تتلاطم الكلمات وتتماوج الحروف المنطوقة وتتوالد اللغة من قلب مشهد ساكن خاو من الحركة، وكأنه ترجيع لصدى بعيد يؤول إلى زوال. من جانب آخر يتبدّى بطء حركة الممثلين في بعض المفاصل التي تقصدها المسرحية مترافقاً مع الصور المتخيلة التي تنهمرُ سراعاً من الكلام الشعري، لعل المخرج أراد أن يجسد المفارقة بين الوجود في الكلام الشعري وما هو عياني متجسد.

العنوان – الخاتمة

قبل أن أختتم الحديث، أود أن أعرج على العنوان الذي يبدو كحدث لغوي، تومض منه أول إشارة لغوية تطلق إيذاناً بفحوى الحوار الدائر بين الزوجة والأسير، ويمكن اعتباره خلاصة شعريّة فلسفيّة للحوار المسرحي؛ فالجنة السماوية من حيث هي لامكان بالمعنى اليوتوبي، ومآل روحي ومصير في الماوراء، تفتح أبوابها متأخرة رغماً عن زمنها السديمي المفترض، وكأنها توعز بأن اللازمن، أو الأزل السماوي، مشتبك شعرياً بالزمن والتوقيت الأرضي، وما تأخر موعد فتح أبوابها إلا بسبب تأخر الوافدين الأبرار عن الوصول إليها، بفعل سيرورة الانتظار الدنيوي المديد المتجلي في العرض. أي أنَّ الانتظار الأرضي، المتعشق مع القهر وعنف بطش الحرب، وشظف تجويع الحصار، يستدعي انتظاراً سماوياً، يعلن عن نفسه في العنوان من خلال التلميح والإيحاء الشعري بمعنى القول: «الجنة تفتح أبوابها متأخرة».

أثير علي – باحثة سورية مقيمة في إسبانيا

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد العاشر