قراءة المسرح في ضوء نظريات التحيز د.مصطفى عطية جمعة

قراءة المسرح في ضوء نظريات التحيز

د.مصطفى عطية جمعة

أستاذ مشارك الأدب العربي والفنون والنقد

يتأسس التحيز -في مفهومه العام- على جانب نفسي فكري، يتمثل في القناعات التي يميل بها الشخص نحو أفكار وتوجهات ومواقف ورموز بعينها ، ويشمل أيضا تحيزات ضد أشخاص أو مجموعات ، ونحن نمارسه في حياتنا اليومية على المستوى الشخصي ، مثلما تتم ممارسته في العلوم والفنون والإيديولوجيات ، ويتمثل بشكل واضح في إصدار الأحكام ، وفي المعتقدات التي نحملها ، وفي اختياراتنا ذاتها ، وكلها تتأثر بما هو مستقر في ذاكرتنا أو بالأدق في اللاوعي لنا ([1]).

في ضوء هذا المفهوم ، يمكننا قراءة إشكالية التحيز في الفن المسرحي ، فالمبدع المسرحي أيا كان : مؤلفا أو ممثلا أو مخرجا .. إلخ ، له انحيازاته الفكرية والإيديولوجية والدينية والاجتماعية الخاصة به ، والتي تتجلى بشكل مباشر أو غير مباشر في إبداعه ، وفيما يقدمه من علامات أو رموز .

فالتمثيل فعل بحث عن الهوية ، والممثل لا يجد غايته إلا بوقوعه في منطقة الغياب أكثر من وقوعه في منطقة الحضور ، عندما يقوم بفعل التمثيل ، حيث يغيّب ذاته بشكل متعمد وإن كان غير كامل ، بمعنى أنه حاضر بوعيه الخاص ، من خلال توحّده مع الشخصية المسرحية من ناحية ، ومع الجمهور المتلقي من ناحية أخرى . فالتمثيل أكثر مظاهر الوجود الإنساني الذي تتجلى فيه نشاطات التوحّد (من قبل الممثلين ومن معهم في صناعة المسرحية ) والتوحّد المقابل ( من قبل المتفرجين، وكيفية تفاعلهم مع النص المقدم ) . وهنا نستحضر مقولة “هيدجر”: “كل كلمة هي قناع ” ([2])، بما يعني أنها تخفي تحيزات ورسائل يحملها صانعو المسرح ، ويوجهونها نحو الجمهور ، ومعها سبل أخرى للتأثير ، قد تكون متعمدة من خلال النص و الديكور والملابس والحوارات الدرامية ، أو غير متعمدة ،  عبر الإشارات التي تأتي في ثنايا النص ، بصدد أفكار وتوجهات بعينها .

وبالنظر إلى الممثل فإن تحيزاته حاضرة ، بل إنها لا تغيب ، وتبدأ بقبوله العمل المعروض عليه ، أو باختياره لنص معين ، يحمل فكرا يروم تقديمه للجمهور ، ومن ثم ينعكس على تجسده وأدائه للدور، و الذي يعني تغييبا متعمدا لذاته الحقيقية ، لصالح الذات الجديدة المتقمَّصَة ، بكل ما تحمله من دلالات وأفكار .

أيضا ، فإن التحيز يقترن أكثر بالدائرة المنتجة للفن المسرحي ، بمعنى النظر في الجهة التي تمول هذا الفن ، ففي عصر النهضة الأوروبي ، كانت الدراما على صلة مباشرة بالكنيسة ، فكانت رسائلها ، وقواعدها ، ومضامين نصوصها ، وما يتصل بها من عناصر إنتاجها تابعة لسيطرة الكنيسة ، فلا عجب أن ترسخ بشكل مباشر لتحيزات فكرية وعقدية تخص المؤمنين التابعين للكنيسة ، وتنشر رسالة الكنيسة في المجتمع ، الممثلة في تغذية الجانب الروحاني لدى الناس ([3]).

إلا أن هناك مسرحا بعيدا عن سلطة الكنيسة ، متوجها إلى شرائح وفئات مجتمعية أخرى ، ولاشك أنه كان ذا تحيزات أخرى ، فالجمهور كان يجد نوعين من التحيزات : الأول خاص بالكنيسة وما تنتجه من مسرحيات تحمل توجهاتها وأفكارها، والثاني : هو مسرح يعارض سلطة الكنيسة المهيمنة ، ويرفض طروحاتها وأفكارها ، وهذا كان مشبعا بالنزعة الفلسفية في أوروبا ، المرتبطة بانتشار الفكر العلماني، وفصل السلطات الكنسية عن الحياة العامة . واشتد هذا التيار، حتى غدا المسرح معبرا عن علاقة تفاعلية بين الجمهور والفكر الفلسفي بمرجعياته العلمانية ، والتي بدأت منذ فجر الثورة الصناعية الأوروبية ، في القرن السادس عشر ، وامتدت لقرون عديدة حتى عصرنا ، بكل ما يحمله ذلك من طروحات فكرية غيّرت الكثير من قناعات الناس ، وحملت معها رغبة في التنوير وإيجاد وعي جديد لدى المتفرج . وهذا ظهر جليا عند المقارنة بين ما تطرحه النصوص المسرحية في ثنايا أحداثها ، وبين غيرها من النصوص الدينية أو الاجتماعية ، مع الأخذ في الحسبان أن ثمة مسافة أو فجوة بين المسرح والفلسفة ، يفرضها الجانب الفني في المسرح ، ومقتضياته ، وطبيعة الطرح الفلسفي بما فيه من تنظير معمق وتفصيل وشرح ([4]).

لقد رسّخت الفلسفة الحديثة في تعاطيها مع مفهوم الوعي بأنه وعي متفاعل مع شيء ما ، سواء كان للذات الإنسانية في علاقتها مع سائر بني البشر ، أو بعلاقتها بعالم الأشياء الذي يحيط بنا . فالأنا المبدعة تؤسس علاقتها من خلال تفاعلها مع ما حولها ، وعلى الفنان أن يترجم وعيه بالعالم في لعبة الأشكال الأدبية والفنية التي يقوم بها ، فالعمل الفني بالنسبة للذات المبدعة وسيلة للكشف عن الذات ([5]) وعن وعيها الفكري ، وعن قناعاتها ، خاصة إذا تشبعت بالنص ورسالته .

إذن ، فالتحيز أحد أوجه الإبداع المسرحي ، لا ينفك عنه ، بل إنه حاضر فيه بشكل مباشر أو غير مباشر ، وقد نشأ هذا مع بدايات المسرح ونشأته ، واستمر مع صعوده وازدهاره ، بل إنه تسرب بسبل مختلفة إلى وعي مبدعي الفن المسرحي وصانعيه من ناحية ، وإلى التأثير على متفرجي المسرح من ناحية أخرى . فمعالجة هذه الإشكالية، تأتي بسبل متعددة تشمل مختلف عمليات التأثير في صانعي المسرح، بما في ذلك مختلف الأيقونات والرسائل العلنية والضمنية التي توجد في سياقات العروض . بمعنى أن تحليل التحيز في الفن المسرحي ، لا يقتصر على تحليلات النصوص ، بل يشمل مفردات العرض المسرحي المقدم من ناحية أخرى ، وكما يقول ” مورون ” إن العنصر المهم في كل مسرحية ليس الشخصية (الممثل) بل العلاقات المتأزمة بين ( عنصرين ) تشكيلينِ على الأقل ، أي الموقف الدرامي بحد ذاته ” ([6]) . وهنا يركز مورون على الحد الأدنى في تحليل مفردات العمل المسرحي مثل : الحدث والصراع ، أو الشخصيات وعلاقاتها ، فمن خلال تحليل النص المقدم دراميا ، يمكن أن نضع أيدينا على أبعاد التحيز ، بل إن صناعة الشخصية المسرحية : نفسيا واجتماعيا وفكريا وحركيا ، فيه الكثير من التحيزات المبطنة، ناهيك عن الغاية الفنية والفكرية التي يحملها العمل المسرحي ككل .

ويضيف ” مورون ” مصطلح ” التشكيل ” ويعرّفه بأنه الذي ” تتقاطع فيه كافة العلاقات ” ([7]) ، والقصد منه كافة المفردات والعناصر النصية والجمالية والأدائية المتمثلة في الفن المزمع دراسته . وهذا متوقع من ” مورون” ، بوصفه أحد أعمدة مدرسة النقد النفسي ، ومفهوم سعيه إلى ترسيخ النظر والدراسة لمجمل التشكيل في الإبداع المسرحي ، فلكي نفهم العمل الفني حق الفهم ، علينا النظر الفاحص والمتأمل للمواقف الدرامية ، وما يحيط بها من عناصر تشكيل : كالموسيقى والغناء والأداء الحركي الراقص .. ، فهذه كلها صانعة العمل الفني ، الذي يصهر في بوتقة واحدة ، ولابد من تحليل هذه العناصر ومعرفة خلفياتها وتأثيراتها النفسية .

فالمسرح – وكما يقال – هو أبو الفنون ، وفيه تتكامل عناصر الظاهرة المسرحية: الكلمة / النص ، الممثل ، الإطار التشكيلي ، الديكور ، الملابس، الأقنعة ، الإكسسوار ، الإضاءة ، الجمهور ، كل ذلك داخل ضمن الإطار المعماري للعرض([8]) ، وسنلاحظ أن الجمهور يقع ضمن منظومة العرض المسرحي، من حيث دراسة طبيعة الجمهور المشاهد / المستقبِل للمسرحية المقدمة له ، والوقوف على مستواه الاجتماعي والثقافي والجمالي، وأيضا معرفة الأفكار والقناعات التي يؤمن بها. كما يُنظر في هذا الصدد إلى كيفية تلقي الجماهير للعمل المسرحي وتفاعلهم معه ، والتأثير النفسي المتولد في نفوسهم بعد عرض النص أمامهم ؛ فيما يسمى بفكرة الاستجابة المتوقعة عند إنتاج النص ، والاستجابة المولدة بعد عرضه ، والتي تساهم في تغيير فكر صانعي المسرحية ، من أجل الحصول على المزيد من رضا الجمهور، فالممثل مثلا حريص على تجويد أدائه ، من خلال ردة فعل الجمهور كل ليلة ، ونفس الأمر مع سائر المشاركين معه.

يضاف إلى ذلك ، أن العرض المسرحي يمكن صياغته بطرق عديدة ، فهو غير جامد كما يظن البعض ، حيث يمكن أن تكون هناك عدة طرق لإخراج المسرحية ، بما لا يؤثر على جوهر الفكرة ([9]). وتلك نقطة مهمة ، إذا قرئت في إطار التحيز، فإنها تفسر كثيرا من التغيرات التي تطرأ على نص المسرحية المؤدَّى، وطرق أداء الممثلين أنفسهم ، فهناك ضغوط عديدة تمارس على صانعي المسرحية، تجعلهم يسلكون مسالك بعينها ، ويقولون جملا محددة ، بعض هذه الضغوط من المنتج وآليات السوق ، وبعضها من السلطة والرقابة ، وبعضها من الجمهور نفسه .

وعلينا أن نأخذ في الحسبان وجود نصوص مسرحية ذات صبغة أدبية واضحة ، بمعنى أنها موجهة للقراءة (المسرح الذهني مثلا) ، وقد لا يتم تمثيلها ([10])، وفي هذه الحالة ، فإن المؤلف المسرحي هو صانع كل شيء فيها، فنحن سنحلل نصه، دون أية عوامل أخرى تتداخل معه، فهو صاحب الفكرة والرؤية والتحيزات ، وهو مبدع النص الدرامي ، ومبتكر شخصياته وأحداثه ، وصائغ حواراته وإشاراته .

 

[1] ) What Does It Mean to be Biased: Motivated Reasoning and Rationality, Ulrike Hahn, , Adam J.L. Harris, Psychology of Learning and Motivation, Volume 61, 2014, pp 42 , 43

[2] ) الأنا والآخر ، أو المسرح بوصفه إبداعا متجددا ، د. شاكر عبد الحميد ، في تقديمه لكتاب الأنا – الآخر : ازدواجية الفن التمثيلي، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، 2001م ، ص9-14

[3] ) See more : The Prejudice Against Theatre, Debra Bruch, The Journal of Religion and Theatre, Vol. 3, No. 1, Summer 2004, pp3-6

[4] ( Afterword: Please Mind the Gap between Theatre and Philosophy ,Martin Puchner , Modern Drama, University of Toronto Press, Winter 2013, 56:4, pp 540- 546

[5] ) النقد الموضوعاتي ، دانييل برجيز ، ضمن كتاب : مدخل إلى مناهج النقد الأدبي ، مجموعة من الكتّاب ، ترجمة : د. رضوان ظاظا ، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، 1997م ، ص123 ، 125

[6] ) النقد التحليلي النفسي ، مارسيل ماريني ، ضمن كتاب : مدخل إلى مناهج النقد الأدبي ، مرجع سابق، ص101 .

[7] ) السابق ، ص102 .

[8] ) عناصر الرؤية عند المخرج المسرحي ، د. عثمان عبد العاطي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1996م ، ص20 .

[9] ) السابق ، ص35 .

[10] ) السابق ، ص39 .

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *