في مونودراما «سأموت في المنفى» لغنّام غنّام: لـم يتبقّ من فلسطين سوى الذكرى… فهل تتسع الحقائب للذاكرة / ليلى بورقعة

نشر / محمد سامي موقع الخشبة

هي حكاية ليست ككل الحكايا بل هي عنوان أمهات القضايا وكبرى المواجع… فلسطين هذا الجرح النازف والوجع الأزلي كان لابد أن تزهر دمائه وردا وفنا وجمالا

وأن تتحوّل آلامه إلى مصدر إلهام للقصيدة والأغنية والمسرحية… وفي هذا السياق احتضنت مدينة الثقافة مساء الجمعة 4 ماي الجاري مونودراما «سأموت في المنفى» للفنان غنّام غنّام نصا وإخراجا وتمثيلا …

وشاح فلسطين وكرسي وجمهور… كانت كل حاجة الفنان الفلسطيني غنّام غنّام لتقديم عرضه الجديد « سأموت في المنفى». فلم تعد الإضاءة ولا المؤثرات الركحية مهمة وحتى الركح في مفهومه التقليدي لم يعد مطلوبا والحال أن الفنان قد كسر الجدار بينه وبين الجمهور ليبقي باب التفاعل بينه وبينهم مفتوحا على مصراعيه…

مطار وحقيبة وسفر
ليس بالغريب أن تكون الرحلة والترحال، الهجرة والتهجير، اللجوء والمنفى… عنوان حياة الفلسطنيين وقد اغتصبت أرضهم وافتكت حريتهم وصودرت أصواتهم. ولعله ما جعل الفنان غنّام غنّام يختار المطار فضاء مكانيا لاستهلال مسرحيته مثقلا إياه بدلالات رمزية وأبعاد إنسانية مشيرا إلى أن المطار هو الرابط المشترك بين كل أبناء «سيّدة الأراضي» الذين لا يعرفون مستقرا ولا استقرارا.

وككلّ المسافرين يحمل هذا الفنان حقيبة قد تتسع لكل شيء لكنها تضيق عن حمل الوطن فكان منه أن دسّ في حقيبته بعضا من رائحة فلسطين، فقليل من التراب والحجر والصور… قد تفي بالغرض وقت الحاجة إلى استنشاق عبق الموطن وعطر المولد عساها تكون مسكنّا لوجع الفراق وألم البعاد.

وإن استكثر الاحتلال على هذا اللاجئ الأبدي أن يعود إلى «المنفى» بشيء من ذكرى الوطن فسخر من حبات التراب وضحك من الحجارة، فإنه استشاط غضبا واحتقن كمدا أمام الذاكرة التي صفعته على وجهه بكفّ الحقيقة بأنه مغتصب للأرض والعرض. هذه الذاكرة المثقلة بالذكرى التي لم تنس ولن تنسى بأن القدس عاصمة فلسطين وستبقى حية مادامت على هذه الأرض حياة لتحدث الأجيال عن نضال شعب شُرّد من أرضه غصبا وخذلته العرب…

ممثل واحد وأكثر من قضية
في تشابك حدّ الانصهار تضيع الفواصل بين الواقع والمتخيّل، الأنا والآخر، الذاتي والموضوعي… في موندراما «سأموت في المنفى». هي حكاية فنان قذف به القضاء في بلد غير بلده وألقى به القدر في أرض غير أرضه فأخذ يسرد سيرته الذاتية في تداخل بين قصة وفاة والده واستشهاد أخيه وقهر أمه… وبين هذا وذاك، كثيرا ما تتقاطع هموم الشخصية الذاتية مع الأحداث التاريخية والمعطيات السياسية التي جزّأت فلسطين وقطّعت جسدها إربا إربا وشتتّت شملها وشعبها … وبين وعود تنكث وعهود تخلف، ضاعت فلسطين كما ضاع أهلها ولم يبق لهم سوى جرح نازف وذكريات تستفز دوما الذاكرة لاستعادة الوطن في أحلام اليقظة بعد أن حال المنفى دون ذلك.

وإن كانت موندراما «سأموت في المنفى» صرخة حيّة من فلسطين ودمعة قهر انهمرت على خدّ الجمهور وحسرة أبدية في قلب صاحبها غنّام غنّام… فإنها نجحت في اجتراح البسمة من حلكة القبر فكانت خفيفة الظل بالرغم من قتامة وجهها وعنوانها. وقد تناثرت في سمائها كلمات محمود درويش في «أنا من هناك» وقصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي «عصفورتان في الحجاز»…

وجع الموت في المنفى
بمنتهى الفن والكثير من الإحساس النافذ إلى الحواس، يسرد الفنان غنّام غنّام مأساة الفلسطينيين المعلّقين ما بين ألم اللجوء وأمل العودة في انشطار للهوّيات إلى حدّ انفصام الشخصيات. فلم يعد اللاجئ إنسانا حرا في تقرير مصيره ومتحررا من العقد والعلل النفسية بل بات عبارة عن «بدل فاقد» لذلك الفلسطيني الذي أتى بجسده إلى هنا وبقيت روحه هناك ومعها الأصل!

وفي مواصلة لهذا المنحى الوجودي والفلسفي تخاطب «سأموت في المنفى» جمهورها في مشهد شديد التأثير وعميق الأثر. فكم هو مخجل ومخزي أن تستعيد فلسطين أسماء مدنها المنتهكة وقراها المدمرة فقط على شواهد القبور لتبقى شاهدة على حكاية شهداء رحلوا قبل أن يلثموا تراب أرضهم ويقطفوا شيئا من برتقال يافا وليمون حيفا وعنب الخليل…

وقد صدح الفنان غنّام غنّام بموقفه من محاولة تغييب فلسطين وتذويب الهوية الفلسطينية حتى لو كان ذلك باسم الوحدة العربية.

في المشهد الأخير من العرض يستدعي الفنان غنّام غنّام الموت في صورة تراجيدية وحضور ملحمي فكأننا بالبطل يرثي بنفسه موته ليس لمجرد النهاية والفناء بل ليثير الأسئلة و يبعث فينا القلق… فأي معنى للموت خارج الأرض والدفن خارج الموطن؟ وهل تستقيم الجنازة وقد يغيب عنها الأبناء والأحباب والأصحاب بسبب حصار الاحتلال وموانع التهجير والمنافي؟ وإن كان هو من اعتاد تأبين المغادرين والمنسحبين من الحياة فمن سيؤبنه عند موته؟

وإن كانت موندراما غنّام غنّام تحمل عنوان «سأموت في المنفى» فإنها صيغة لم تحمل أية علامة استفهام لتكون رجاء أو أمنية معلقة بل جاءت حازمة أمرها وحاسمة لمصيرها منذ البداية… وكم موجع أن يكون القبر في المنفى والقلب يهفو إلى الموطن ولو موتا؟

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *