في العرض الأوّل لمسرحية «مارتير» لفاضل الجعايبي: لعنة التطرف الديني تغتال الإنسان من كل الأديان وفي كل الأوطان! / ليلى بورقعة #تونس

في قفص الإدانة تحشر مسرحية «مارتير» العائلة والمدرسة والمؤسسات الدينية في تشريح لظاهرة التعصب الديني وتفكيك لأسبابها ولآلياتها ولانحرافاتها…

على ركح مسرحيته الجديدة يكنس المخرج فاضل الجعايبي غبار التطرف ودنس التشدد محذرا من المغالاة في فهم الدين والقراءة الحرفية للرسائل السماوية حتى لا تكون العواقب وخيمة، موّقعة بالدم ومختومة بالموت.
«مارتير» مسرحية من إنتاج المسرح الوطني ومن إخراج ودراماتورجيا وسينوغرافيا الفاضل الجعايبي في اقتباس عن نص للكاتب الألماني «ماريوس فون ماينبرغ».وقد قام بترجمة النص والمساعدة في الإخراج حمزة ورتتاني. أما أدوار المسرحية فقد لعبها كل من أوس الزبيدي ونهى النفاتي ومالك شفرود ومي السليم وكلارا الفتوي الهوى ومهدي عياد وسوار عبداوي وأمان الله عتروس وحمزة ورتتاني.
المتشدد الديني ضحية انخرام الأسرة والمؤسسات…
انطلاقا من المشهد الافتتاحي لمسرحية «مارتير» نزع المخرج فاضل الجعايبي عن شخصياته الأقنعة، فبدت للجمهور مكشوفة الوجوه والأهواء والأفكار… في الركن، انزوى شاب محتضنا «الكتاب المقدس»، متفحصا في سطوره بمنتهى الخشوع. بينما انضبط رفاقه لتعليمات مدربهم في حصة السباحة. كانوا في الماء يسبحون بينما كان هو يغرق في صفحات كتابه أكثر فأكثر! لقد رفض «بينجامين» ارتداء ملابس السباحة بدعوى أنها محرمة حسب تعاليم الدين، مستخفا من أقرانه الذين يراهم تافهين ومتحررين أكثر من اللزوم.
تظهر والدة «بينجامين» التي تحمّلت وزر تربيته ومسؤوليته بعد طلاقها من زوجها لمحاولة إثناء ولدها الوحيد عن الامتناع عن درس السباحة وانتشاله من أفكاره المتعصبة… لكن كل جهودها ذهبت سدى!
في نسق تصاعدي، يشتد الصراع ويكبر التناقض وتتسع الهوة بين «بينجامين» وأمه وأساتذته وزملائه… يبلغ التطرف عند هذا التلميذ حدّ الهوس بتعاليم الكتاب المقدس واعتبار نفسه أحد المبشرين بالمسيحية ممن يملكون قدرات خارقة للقيام بالمعجزات.
وجد «بينجامين» ضالته عند أحد رفاقه في الفصل، شاب ضعيف الشخصية يعاني من عرج في أحد ساقيه، فيخضعه إلى حقل تجارب استدعاء لمعجزة الشفاء بعد الدعاء إلى الرب باسم «يسوع». لكن الساق العرجاء لا تتخلص من إعاقتها، بل يتوّرط صاحبها في رغبة جنسية تجاه «طبيبه» المزعوم. وقد واجه «بينجامين» هذا الميل بالرفض بحجة أن الكتاب المقدس يدين المثلية الجنسية بالرغم من نفاقه وضعفه أمام الجنس في علاقته بزميلته في القسم.
أمام غلّو «بينجامين» في التفسير الحرفي للدين، تعجز الأسرة والمدرسة عن استيعابه وتفشل كل العلاقات الإنسانية من أمومة وصداقة وحب في تطويق جموحه نحو اللامنطق وهوسه بكتابه «المقدس» حدّ الجنون !
ظلام وظلامية… وموت الإنسان
في كل مكان وزمان، في حلّه وترحاله ، في بيته ومدرسته… كان «بينجامين» يردد كالببغاء التعاليم التي حفظها عن ظهر قلب من كتابه المقدس فيفشل في إقناع غيره بأفكاره ويرفض الآخر الاقتناع بما يقول… فتشتعل نار المعركة التي تسير شيئا فشيئا نحو النهاية .
في المدرسة الثانوية، كان «بينجامين» محل شكوى وشغب وإزعاج… وهو الذي تمرد على نظام الدرس وأوامر الأساتذة. وبعد أن رفض الالتحاق بحصة السباحة، تعددت المشاهد في المسرحية التي تصوّر الصراع بين التلميذ وأستاذة علم الأحياء. في أحد الحصص، تجرّأ «بينجامين» على التعرّي أمام الطلاب رفضا لنصائح الوقاية الجنسية، وفي مرة أخرى لبس قناع القرد اعتراضا على نظرية «داروين» في تطور البشرية. وهو ما جعل مديرة المدرسة تطالب الأستاذة بتدريس قصة الخلق كما وردت في الإنجيل إلى جانب النظريات الحديثة في خلق الكون. لكنها ترفض بشدة الخضوع لنزوات شاب متعصب والاحتكام إلى غير العقل والعلم مهما كان الثمن.
عندما بلغ صدى تمرده الكنيسة، كان «بينجامين» موضع محاولة استقطاب ليكون أحد دعاة المسيحية، لكنه رفض الخضوع إلى مؤسسة دينية تضع الدولة يدها عليها. في المقابل استبد التشدد الديني بالشاب الغرّ ، فوقع تحت سطوة العنف وأفرغ مسدسه في جسد أستاذة الأحياء ومديرة مدرسته ورفاقه الأبرياء… لتنتشر في الأرجاء رائحة الموت والدم والعدم.
مسرح «الجعايبي» وكونية الهواجس والرسائل
على خشبة متوترة وقلقة، انتعلت شخصيات مسرحية «مارتير» أسماء غير عربية ولكنها تحركت على ركح مسرح كوني يتسع لاستيعاب معاناة المجتمعات من التطرف الديني مهما كانت لغتها أو جنسيتها أو ديانتها… فكأننا بالمخرج فاضل الجعايبي يدق ناقوس الخطر ليقول بأنه في كل زمن وفي كل بلد تتغوّل فيه السلطة الدينية على حساب الدولة المدنية، يعبث تجار الدين وسماسرة الوهم باستقرار الشعوب وتقدمها…
بكثير من الحماس والإقناع، نجح شباب «مدرسة الممثل» في تقمص الأدوار الشائكة والمعقدة… كما كان التوظيف المدروس للمؤثرات الصوتية والخيارات الموسيقية مصدر جمالية أضافت الكثير لمسرحية «مارتير».
في مراوحة بين الإضاءة الخافتة والمشاهد القاتمة، بدا استخدام تقنية «الإظلام» خيارا وظيفيا وجماليا للنفاذ داخل أعماق الشخصيات حيث تختلج الأزمات النفسية والصراعات الداخلية والمبارزات العنيفة بين الوعي واللاوعي في فهم «الأنا» والجسد والآخر والعالم.
على ركح مسرحية «مارتير» لم يقدّم المخرج فاضل الجعايبي صراعا مباشرا بين العلم والدين بقدر ما كانت المعركة بين العقل واللاعقل، التسامح والعنف، الحب والكره… الحياة والموت.

المصدر / المغرب

https://ar.lemaghreb.tn/

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش