فوبيا راما مسرحية هولندية عن صناعة الخوف والإرهاب / صالح حسن فارس

المصدر : محمد سامي موقع الخشبة

كنتُ واقفاُ بانتظارالعرض المسرحي الهولندي Phobiarama”فوبياراما” أتأمل فولدر العرض: “فوبياراما تعالج مسرح الخوف، الذي يقدمه لنا الارهابيون، السياسيون، ووسائل الاعلام، نجلسُ باستمرار مشدودين أمام شاشات التلفزيون، نتفرج على نهايتنا المعلنة مسبقا، نريد أن نُشيح بأنظارنا لكننا لا نستطيع، هل علينا أن نقلل من شأن الرعب القادم من حولنا؟ هل نتمسك برباطة الجأش؟ أم على العكس، علينا نخاف أكثر مما نحن خائفون الآن؟” أسئلة كثيرة يثيرها هذا العرض المثير للمخرج الهولندي الشاب المعروف “دريس فرهوفن” الذي قُدم ضمن فعاليات مهرجان هولندا العالمي للفنون، سبق لهذه المسرحية أن عُرضت في مهرجان اثينا المسرحي، وسوف تعرض في مدن هولندلية ومهرجانات عالمية.

يحيلنا عنوان مسرحية (فوبياراما) إلى الخوف ومصدره ومسبباته، وكيف يتعطل العقل بفعل غسيل الدماغ المتواصل، الذي تمارسه علينا السلطات ووسائل الإعلام. يصبح الخوف وهما مرضياً ملازما لنا ويعمل على تعطيل حواسنا. يحذرك أحدهم من الخطر ليخيفك، ثم يأتي الثاني ليحذرك من الأول، والثالث يحذرك من الثاني، وهكذا تستمر سلسلة من المخاوف التي تلاحقنا وترعب حياتنا حتى تصبح فوبيا.

يؤثث المخرج “فرهوفن” مكاناً عبارة عن منزل على شكل خيمة كبيرة، أو قفص أسود، طوله 25 متراً وعرضه 15 متراً في ساحة عامة (مركاتور بلاين) غرب مدينة أمستردام، وهو حي شعبي، اغلبيته سكانه من ذوي الأصول المهاجرة، وشارك فيه عدد من الممثلين المهاجرين في مدينة أمستردام، عشرون ممثلا من الرجال، وعشر سيارات، كل عرض لعشرين شخصا، لمدة تسعة أيام، وكل يوم ُتقدم فيه سبعة عروض.

بداية الرحلة:

“تفضل سيدي إلى الداخل، اذهب إلى الأمام، ثم استدر إلى اليسار، ستجد غرفتك رقم 4” هكذا اخبرني المرشد المسرحي، مشيتُ بحذر وخوف، في ممر مظلم ومخيف، يُشبه عوالم كافكا، نرى من بعيد ضوءاً خفيفاً في باحة البيت، ثمة سيارة صغيرة فارغة واقفة على سكة حديدية بانتظارنا، من نوع سيارات التصادم في مدينة الالعاب. جلستُ في السيارة مع امرأة هولندية لا أعرفها، لتشاركني الخوف، أو ربما تخفف الخوف، أو تكسر مفهوم الوحدة والعزلة. انطلقت بنا السيارة بشكل اوتاماتيكي وبطيء، خائفون نحن، هي تنظرُ لي وأنا ابدد خوفي بابتسامة مصطنعة، لا نعرف ما الذي يحدث هنا، هل سيحدث بعد قليل اشتباك مع الارهابين؟ هل سـتمتد ايدٍ خفية وتخطفنا؟ هل يظهر لنا خفاش الليل بشكل مفاجئ ويرعبنا، أو هياكل عظمية تمتد الينا من النوافذ، أو من الابواب كما كان يحدث في بيت الاشباح، في مدينة الألعاب التي كنا نزورها حينما كنا أطفالاً.

تمشي السيارة بنا، نمسك بها بقوة، أمامنا أجهزة تلفزيونات صغيرة معلقة في زوايا البيت، تبث لنا اخباراً مخيفة عن الحرب، الانفجارات، الارهاب والارهابيين، الازمة المالية، الخطاب السياسي الذي يُنذر بالخطر، أسماء السياسين: الرئيس الامريكي “ترامب”، اليميني المتطرف الهولندي “فيلدرز”، والبلجيكي “يان تيرليون”. الاسلام المتطرف، الشعبوية، صواريخ كوريا الشمالية، القوى اليمنية المتطرفة، الأمن العالمي، الغرق، الحرائق، معاناة اللجوء ومشاكل اللاجئين.

بداية العرض صادمة، تزخر بمعالم مخيفة وغامضة، في جو متوتر يقطع الانفًاس، تشعر وكأنك تمشي على حائط عال، أو حبل يكاد ينقطع بك في أي لحظة وتسقط في البحر. ما زالت السيارة تمشي في طريق مظلم، متعرج ومثير، بعد لحظات يظهر لنا من زوايا البيت المظلمة، وبشكل مفاجئ، اشخاص كأنهم اشباح يرتدون ملابس دببة كبيرة الحجم، بنية اللون، كأنها خارجه من الغابة، تبحث عن فريستها، تريد أن تقبض على ارواحنا، تقترب منا، تكاد تلامسنا، يقوم الرجال الدببة بحركات جسدية تغيظنا هم يتمتعون بخوفنا، بحركات سادية.

أقنعة الخوف

تقف السيارات، ينزع الرجل – الدبّ رأسه، اي القناع، ثم لباسه، يظهر لنا المهرج المتواري خلف قناعه، يخرج من جيبه بالونة ينفخها ثم يفجرها. استخدم المخرج الخوف على شكل طبقات يرتديها الممثل، وكانما الخوف مغلف بأكثر من قناع. بعد لحظات ترجع السيارة إلى الخلف بشكل مفاجئ وبسرعة مخيفة، بعد أن نسمع تحذيرأ من التلفزيون، علينا أن نغادر القاعة بأسرع وقت ممكن، يرتفع التوتر الدرامي، يزداد الخوف، المهرجون يلاحقوننا.

تأخذ المسرحية طابعاً غير متوقع، يتصاعد ايقاع العرض والدراما معاً، كأننا في مغامرات سباق السيارات، أو مشهد في فيلم بوليسي مرعب، شاشة التلفزيون لم تتوقف عن بث الاخبارالمخيفة بكل لغات العالم دون توقف، تأتينا من كل صوب وتحاصرنا، للتأكيد ان الاعلام هو سبب نشر الخوف والذعر في انفسنا. ثم نشاهد صورنا في شاشات التلفزيونات، كأننا رهائن أو مختطفون، ياله من رعب حقيقي، يزداد الخوف فينا، يأتينا صوت تهديد من قبل الارهابيين يقول: هذا المكان خطر، ومفخخ. يا لها من رحلة مخيفة، شعرتُ حينها بالخوف فعلاً، قشعريرة تدب في جسدي، رعب وذعر، كأنني دخلتُ في متاهة أو بيت مسكون بالارواح الشريرة.

نهاية الرحلة

بتقنية عالية، وبأسلوب مغاير للمألوف والسائد، يأخذنا المخرج “فرهوفن” في رحلته المحفوفة بالمخاطر، إلى عالم غامض، لا افق له، تُشبه إلى حد ما، رحلة مهاجر ترك وطنه مرغما، من أجل العبور إلى الضفة الاخرى، عله يصل إلى الجنة الباردة ويظفر بامرأة شقراء، ويحقق حلمه أو وهمه، أو يصبح ضحية لهذا الرحلة العجيبة والغريبة التي قد يدفع حياته ثمنا لها، دون جدوى. يكسر المخرج كل التوقعات، حيث تقف السيارة مرة اخرى في منتصف الطريق، نسمع اصواتا، صراخ اطفال، نساء شيوخ عجائز، كلاب تعوي، تختلط الاصوات مع بعضها البعض، طالبة النجدة بلغات مختلفة. يحاول المهرج اماطة اللثام عن الوجه الاخر، ويتجرد من ملابسه، باعتبار ان التعري رمز التوق للحرية، أو اشارة لتغير المكان، يقترب الممثل منا ويصعد السيارة معنا ويجلس في الخلف، ثم يلامس أكتافنا، ونصبح أصدقاء.

كما في أعماله المسرحية السابقة، يتناول المخرج موضوعات مثل الهجرة اللجوء، الجنس، والقضايا السياسية الراهنة، التي يختار تقديمها في الاماكن العامة والساحات الشعبية، كما يغيب الحوار لدى الممثلين، بل يعتمد العرض على صوت واحد في جهاز التسجيل، أختار المخرج أن يكتسي ممثلوه ملابس دببة، ثم ملابس مهرجين، بعدها يتعرون من ملابسهم. الممثلون جميعهم أبطال، لا يوجد بطل وحيد في العرض، انهم متشابهون في كل شيئ، بأجسادهم الضخمة، ملابسهم، ايماءاتهم، تعبيراتهم الحركية والجسدية. وكان من اللافت غياب العنصر الأنثوي تماماً في العرض، حيث كان جميع الممثلين من الرجال، في إشارة إلى الطابع الذكوري للعنف السائد ي العالم. يحرص المخرج فرهوفن في أغلب أعماله على أن يشرك المتلقي في العرض المسرحي وجعله فاعلا ومشاركا في العملية التفاعلية والابداعية، وأن لا يكون بعيداً عن الممثل، بل قريبا منه ويتفاعل معه.

اعتمد العرض على اللعب مع الضوء والظلام، واضاءة التلفزيون، كما اعتمد على الوسائط المتعددة (ملتي ميديا)، حيث استخدم عددا من الافلام الوثائقية التي عُرضت على شاشة التلفزيون. في نهاية المطاف لرحلتنا يُهدينا المخرج “فرهوفن” أغنية اوبرالية للموسيقار الالماني “باخ” باللغة الالمانية مما دفع بالعرض إلى مستوى راق، حيث تقول الاغنية:

“تعال ايها الموت الجميل

تعال.. خذني الى الحرية

لانني تعبتُ من هذا العالم

أنا بانتظارك

تعال بسرعة”

إضاءة عامة، تقف السيارات، نسمع صوتا يقول: نحن الذين نعيش هنا، لا بد أن نواجه الاخطار، نحن سنعيش معا والى الابد.

في أسلوب مكثف ومشوق، يتسم بالعمق والجرأة تطرح مسرحية “فوبياراما” السؤال عن حقيقة مخاوفنا، وهل هناك خطر واقعي أم أننا نعيش في متاهة من التصورات؟ كما تناقش المسرحية نبذ الكراهية، ومحاربة الارهاب، ونشر المحبة والتسامح، وبث روح الأمل في نفوسنا. اختار المخرج ثيمة راهنة تحاكي الواقع وتقترب منه وتحاكيه في كثير من المحطات، وقدم رؤية اخراجية مغايرة، في مناخ مثير وعالم يتسم بالغرابة، يترك نافذته المسرحية مفتوحة على كل الاحتمالات التأويلية والقراءات المتعددة.

غادرنا سيارتنا، ولا تزال أصوات الحرب وصياح الغرقى، والقتلى ترن في اذاننا. تأتي النهاية بعد سلسلة طويلة من الرحلة المثيرة والغريبة،. انتهت الرحلة، ولكن متى ينتهي الخوف؟

المخرج المسرحي الهولندي “دريس فرهوفن” واحد من أبرز الاصوات الفاعلة في المشهد المسرحي الهولندي المعاصر، يعتمد كثيراً في عمله على “المسرح التفاعلي” اي يؤكد على تفاعل الجمور مع الممثل والعرض المسرحي بشكل مباشر، كما يعتمد على المشاريع المسرحية الكبيرة والمثيرة للجدل، التي تقدم في الاحياء الشعبية متعددة الثقافات، ويطرح مواضيع مثل التجربة الشخصية للمهاجر، الهجرة، الاندماج، والخوف من الاجنبي. حقق نجاحاً سريعاً وتألق بين المخرجين المعروفين في هولندا وخارجها، حيث حظيت أعماله المسرحية المثيرة للجدل باهتمام النقاد في هولندا وخارجها، ومن أعماله السابقة نذكر: الكاميرة المظلمة، الجنازة، الايدي الفارغة، أريد اللعب، أرض اللا أحد، وغيرها.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *