فلانات تحت الضغط .. قراءة نقدية في مسرحية (فلانــة) / د. زهرة حرم

تنتمي مسرحية فلانة التي قدمت مؤخرا على مسرح قاعة الثقافة ضمن فعاليات مهرجان أوال المسرحي في دورته الثانية عشرة الذي أقيم في مملكة البحرين إلى (المسرح التجريبي المعاصر) وهو المسرح المنفتح على التجريب، والمغامرة، واستخدام التقنيات السينوغرافية – كما تعرفون جيدا- حيث يكون للإضاءة والمؤثرات الصوتية والديكور حديث أو لغة يتوازيان مع الممثل نفسه. وتكون مهمة الإخراج احترافية ؛ من حيث إن المطلوب هو إحداث نوع من العلاقة المدهشة بين كل عناصر العرض المسرحي، التي تنتهي بتقديم رؤية جديدة لحالة اجتماعية أو إنسانية معينة.. بعيدا عن التقليد والتداول المتكرر.
إنّ المعوَّل على المسرح التجريبي هو تقديم تجارب جديدة، تكشف بؤرًا أو مساحات لم تُكتشف زواياها بعد، وتسليط الضوء عليها بطريقة مغايرة، مميزة، ولاسيما حين تتسيد الحركة على النص المنطوق، أو تحل الإضاءة محل العاطفة أوالفكرة. وحين يكون لتقنيات الصوت إشاراتٌ أو علامات تعكس هواجس إنسانية معينة، وحين ينطق الديكور بوضعٍ مجتمعي قائم.. وما على الممثل سوى استكمال عناصر المشهد المسرحي، وتوضيح بقايا الصورة.

دلالة العنوان.. والفكرة المسرحيّة
كعادة العناوين؛ تفتح آفاق التلقي، وترسم الصورة الأولية للمشهد المسرحي المراد عرضه. تأخذنا (فلانة) إلى الشخصية/ البطل التي ستدور الأحداث حولها، فهي امرأة دون شك. امرأة بلا اسم. نكرة. يجرنا العنوان إلى الحالة الاجتماعية الذكورية المتوارثة منذ عصور قديمة، التي ترى في المرأة مجرد أداة للمتعة، والإنجاب، والاستملاك، والاستعباد. وإمعانا في الحط منها؛ فهي بلا اسم، لا تعريف لها! فكيف إذا كانت أداةُ الإنجاب لا تنجب إلا نفسها، تستنسخ النساء والبنات. ولا ذكور!
من هنا تأتي فكرة ( فلانة )؛ امرأة لا تنجب سوى الإناث، ورجل شرقي لا يحظى بولد ذكر؛ فيحتقر كل الإناث، ويكيل اللعنات عليهن وعلى رجولته المنقوصة التي يزيد منها تبطله عن العمل. زوجته تُستنسخ في بناتها. وهو يُستنسخ في أزواجهن.
هي باختصار فِكر المجتمع، ونظرته الذكورية التي قمعته منذ زمن قديم، فجعلته أسيرًا للجمود والتخلف والتقوقع، الذي عاش – بجهلٍ – ضغوطاته النفسية، فقبرته في مساحة معتقداته الضيقة والخانقة والمظلمة.
الفكرة ليست جديدة، غير أن تجريبها عبر التقنيات السينوغرافية، التي رُسمت معالمها منذ المطلع، أخرجها لنا بحلة متجددة.
المعالجة الدراميّة في فلانـــــــة
اعتمدت (فلانة) على تقنيات السينوغرافيا في خلق فضائها المسرحي، وتمثل ذلك في الآتي:
• الصوت وإيقاع الحركة:
تفتتح المسرحية ستارها على مساحة واسعة من التأويل والتخييل.. هناك صوت غير مريح.. عقارب ساعة متلاحقة، أو صوت جهاز ما.. وأيا يكن الصوت فقد نقل لنا منذ المطلع حالة الانزعاج والقلق والترقب والانتظار المرّ.
كما أن صوت الطبل؛ وطريقة الدق عليه؛ تزيد من حالة التوجس، وكأن إنذارًا بالشر في الطريق، ولذلك؛ فإنه غالبا ما يرتبط بالزوج/ الأب، الذي يتحول نداؤه إلى طبل مزعج، يستدعي (الفلانات) بطريقة تسلطية آمرة، كما لو أن صوت هذا الأب طبل يخترق طبلة آذنهن، ليأمرهن، ثم يأتين خائفات وجِلات، ليمتثلن له.
صوت آخر لموج هادر خارج المكان، يشي بالقلقلة، والاضطراب، ويزيد من حالة الترهب والتوجس.
حركة الشخصيات التي تتحرك حركة بندولية ( عقارب الساعة )، وإيقاع الأقدام، وتبادل الأماكن وحركة الشخصيات في المسرحية – كل ذلك – خلق إيقاعا حركيا، لا يكاد يتوقف ! ( المؤثرات الصوتية : مهدي عباس )
• الإضاءة
كما فتح الصوت باب التأويل؛ فقد شاركت الإضاءة الخافتة، والظلام المطبق على المكان في إيصال الحالة النفسية المتأزمة، والظلام الروحي الذي تعيش فيه الشخصيات. الإضاءة المستديرة وسط الظلمة ترسم شكل قوقعة، هي مساحة صغيرة ضيقة يتم التحرك من خلالها. ثم تأتي الإضاءة من الأعلى في شكل عمودي إلى الأسفل؛ لتشي بفسحة من النور تأتي من ثقوب اللا مكان! قد تكون تعبيرا عن الأمل، وسط عتمة المكان. ( الإضاءة : علي السوداني )
• الديكور
بسيط، فقير، لا يزيد على مجرد أرضية جرداء باردة، وكرسي جانبي للأب/ الزوج، تستكمله لنا ساعة من بشر، فإحدى البنات تتحول إلى عقرب ساعة ورجِل قلق يتحرك دون توقف في خلفية المكان. ثم سجادات كثيرة تستكمل حالة الاضطراب؛ لترسم مشاهد الصلاة التي لا تكاد تتوقف، بحثا عن نجاة، أو سكينة، لا تصل إليها الشخصيات في المسرحية. ( الديكور : محمد النقاش )

رابعا: الممثلون/ الشخصيات
رأيناهم يستكملون لنا المشاهد التي قدّم لها خطاب المكان الكبير؛ في مؤثراته الصوتية وإضاءته وديكوره الفقير.. فماذا بعد كل هذا التقديم قد يتوقع المشاهد أو المتلقي، سوى حوار البؤس والشقاء، وأن ما سيدور سيصب في تلكم المعاني..
هناك الأم/ الزوجة/ فلانة الأولى ( الممثلة بشرى إسماعيل ) – ثم البنت/ المتزوجة/ فلانة الثانية ( الممثلة آلاء نجم ) وتجسدان معا حالة القهر، ثم الأب/الزوج ( الممثل باسل الشبيب ) الذي يمارس اللعن والتهميش والطغيان، والآخر الرجل ( عمر ضياء الدين ) الذي يتحرك بين الفينة والأخرى ليسمعنا صوت حذاء رجولي يصدح به وسط الفضاء والسكون.
اللغة في فلانة
تعتمد المسرحية المزاوجة أو المراوحة بين اللغتين الفصحى واللهجة الشعبية، فالسرد الذي تتولاه الشخصيات نفسها فصيح. أما الحوار، فيعتمد العامية؛ التي يبدو أن المؤلف نفسه يراها أبلغ في إيصال فكرته إلى الجمهور.
على كل؛ الجميل في فلانة أنها استطاعت بحنكة مؤلفها ( هوشنك وزيري ) ومخرجها ( حاتم عودة ) – معا – فتح باب التأويل على مصارعه للجميع، مما يوسع دائرة الرؤيا، ولا يحكرها في زاوية خاصة أو دلالة واحدة.

______________

المصدر / المدى

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *