(عين) محسن العزاوي.. التنوع والتعددية في عمل الإخراج – العراق

فهو في كليهما – التمثيل والاخراج – قل نظيره ـ ممثل مجتهد ، ومخرج مشاكس . ذو خيال يقظ ، لخياله قدرة اقتراح الحكايات المغايرة والمماثلة غالبا لحكايات نصوصه التي يختارها – مهما كانت غرائبيتها العجائبية – وبذات القيمة ، بل أحيانا بقيم أعلى ، أو بحال قريب من أفكار من يشتغل لهم وكأنه استقاها من ارث مجتمعه لا من التراث المغاير.

له رأي في المسرح – اليوم – لا ينطق عن الهوى ، مفاده : بأن عروض مسرح اليوم سيئة اذا ما قورنت بعروض الأمس والماضي القريب . ! لقد فقد المسرح _ في رأيه _ الكثير من واجباته ، حتى أنه بسببها فقد بريقه ووظيفته الاجتماعية التي تمكنه من إدراك وسطه الاجتماعي ، لابد لمسرح – المستقبل – اذا ما اراد اللحاق بمسرح الأمس وجمهوره وبمسرح العالم المتقدم ، أن يقابل خمول اليوم بمنشطات تتجدد على الدوام . وهذا يستحيل من غير ما توفير المال والقيادة والخزين المعرفي النشط ، والمحفزات التي تعرف طريقها الى ما هو معرفي وثقافي . يقول محسن العزواي : ان الوسط الفني اليوم منقسم الى مجاميع مبعثرة ومنقسمة . اضافة الى ان هناك شحة في نسائه ، وشحة في مؤلفيه ايضا ، وهو العائق الذي يعترض طريق تقدمه وانطلاقته . رغم ذلك – العزاوي يقول : – لو خيروني قبل أن أختار طريق الفن لما اخترت غير طريقه . ومهنة الاخراج بالتحديد رغم غياب المواهب وغياب الوعي والالتزام ، وشيوع ظاهرة الغرور ، وكره المسرح .

هذا هو محسن أحمد العزاوي الذي عرفته منذ أكثر من أربعين عاما باختصار . الذي قبل أن ألتقيه ، التقى والدانا بمهنة الحلاقة . لقد أكد محسن العزاوي في بعض لقاءاته على أنه ابن حلاّق انتقَّل من شمالي ديالى بعد الحرب العالمية الأولى ، واستقرّ في مدينة الناصرية التابعة إلى لواء المنتفك آنذاك . وعن طريق مجايليه من اقرانه وعارفيه في مدينة الناصرية ، كان اسمه يتردد كثيرا على ألسنة مثقفيها وادبائها وفنانيها من معارفه الداعمين لتوجهاته الفنية من أمثال الأخوين نعمة وعبد الرزاق رشيد الناصري ، و نزار عباس ، ولطيف أطيمش ، ويحيى عبد المجيد ، واسماعيل فتاح الترك ، والقائمة تطول لتضم عزيز عبد الصاحب ، والروائي – ضائع الصيت – عبدالرحمن مجيد الربيعي – فلقد كانت له محاولات مسرحية ناجحة – . ولأنه ينتمي الى عائلة متوسطة الحال او تقل ، صار يزاول اعمالا لسد احتياجاته الخاصة فتنقل من بائع للصحف ، وعامل للبناء ، و( صانع حلاق ) مع أخيه عدنان . وصف مرحلة الحلاقة التي امدته بالمادة الروائية المستقاة من أحاديث الزبائن الجالسين بين يديه للتزين والحلاقة التي الهمته بالافكار الدائرة في رؤوس زبائنه ، تلك الرواية التي أشاد بها أساتذته . لكنها سرقت منه وتم نشرها في احدى الصحف الامر الذي دفع بسارقها الى تعويضه بمبلغ دينار واحد نقله من الناصرية الى بغداد حيث التقديم الى معهد الفنون الجميلة . ولتمسكه بكلمة ( الاشتراكية ) انتمى الى أكثر من حزب . كل هذا وغيره رسخه في ذاكرتي شخصا استثنائيا واسما مهما . هو ( محسن أحمد العزاوي ) الذي التقيته فيما بعد وفي ذات البناية ، عندما كنت انتظر دوري للمثول امام لجنة قبول المتقدمين لدراسة الفنون في اكاديمية الفنون الجميلة . 

قرب تمثال اغريقي كان يزين مدخل البناية التقيته . ومنه عرفت مقدار حبه وامتنانه لسنوات دراسته في معهد الفنون الجميلة ، الذي يصف سنواته بل ايامه فيه كانت من أجمل أيام حياته . حيث اساتذته ، ذوو المزايا الخاصّة بل والنادرة ، والبناية التي تشرف على البلاط الملكي حيث ملك العراق يمارس فيه اعماله ، يقول ” تخرّجت منه و قد أدّيت فيه خلال السنوات الثلاث – وهي مدة الدراسة فيه آنذاك – ما لا يقل عن 200 مشهد مسرحي ، ابتداء من العام 1957م وحتى تخرجي منه نهاية العام 1960م “. حدثته عن سابق معرفتي به عندما كنت أقطن مدينته الناصرية . فتحمس لي وعرض علي وساطته لدى اعضاء لجنة الاختبار ، ولا أتذكر وقتها هل وافقته ام لا . واستمرت لقاءاتنا بعدها في الفضاءات الفنية المتعددة التي يلتقي فيها الفنانون عادة . ولم يكن من طبع محسن العزاوي التعالي على الوجوه الجديدة امثالنا ، وهو الذي شجعني مثلما شجع اقراني على تكرار اللقاءات به ، ومعه تعرفنا على ما تبقى من اساتذة معهد الفنون الجميلة من امثال : فاضل قزاز ، محسن سعدون ، خالد سعيد ، عبدالوهاب الدايني … وسواهم .

تعرف الإخراج العربي المعاصر ، على نوعين من الاخراج أو قل نزعتين هما : المقلدة للمسرح الأجنبي ، التي استفادت حرفيا من التجربة ، وقلدتها في أدق تفاصيلها ، تلك النزعة التي تبدأ بالنقاش وتأثيرات ( البخيل لـموليير ) به حد نقلها الحرفي الى المسرح العربي عن المسرح الفرنسي نصا ، واخراجا ، وتمثيلا ، ومضمونا ، وشكلا . محسن العزاوي لايحسب عليها ، لكنه يحسب على النزعة الثانية ، التي تخلصت من التأثيرات الأجنبية واعتمدت على مخزون بلدانها في استثمار المضامين والأشكال ، وفي الرجوع الى التراث العربي الذي أبعد تجاربهم كثيرا عن التأثيرات الأجنبية . وعليه فان تأجيلي التعرض لتجربته كل هذا الوقت كان لاسباب واحد منها الذي نوهت اليه وثانيها يكمن في تجاربه وما يكتنفها من تعقيد ، فالكثير من تجاربه التي استوقفني كانت مدهشة ، لاسباب المشاكسة ، والتحدي ، والتنوع ، وهو رأي يتفق معي فيه ( يوسف العاني ) حين يصف تجارب محسن العزاوي : على انها محاولات تميزت بالتعددية ، والتنوع في الاختيار الذي تميز فيه . فهو حتى في اختيار نصوصه لم يكن سهلا ، لقد كان يختارها بما يتفق مع التوجهات المختلفة وسياسة كل واحدة من الفرق التي تعامل معها . لقد تميزت تجاربه بالتنوع الذي يصل حد التناقض الذي لا تجمعه وحدة اسلوبية أو فنية . ان التنوع بالمضامين والاشكال أخرج عروضهم المسرحية من مسرح العلبة والقاعات المغلقة إلى فضاءات أكثر رحابة اتسعت لجماهير أوسع فذهبوا من أجلها الى : الساحات ، والمقاهي ، والمدارس ، والمعامل ، والمستشفيات وفضاءات أخرى تنوعت بتنوع الموضوعات التي تناولتها . كانت المرحلة تعج بالجديد ما دعا الى استقطاب مريدين متميزين في الاجيال اللاحقة . ولم تقتصر نصوصهم على النصوص المعاصرة وحسب وانما عالجوا كل النصوص بعقلية الحاضر ، ولا ننسى تجارب محسن العزاوي في تقديمه للكلاسيكيات ومنها ( روميو وجولييت – لـ شكسبير ) ، أو الاحتفاليات في تقديمه لـ ( باب الفتوح – لـ محمود ذياب ) أو ( الغرباء لا يشربون القهوة ) وسواها على مستوى الاخراج ، أو أدواره المتميزة في المسرح ومنها على سبيل المثال دوره في مسرحية ( البيك والسايق – للمخرج ابراهيم جلال ) . وهكذا فقد كان للتنوع في التأليف الذي لم يستثن المحليين الى الكتاب العالمين ، فقدم مثلما قدم جيله عروضا للعديد من الكتاب الكبار أمثال : ( سوفوكلس ، وأرستوفان ، شكسبير ، وموليير ، وغوركي ، تشيخوف ، واونيل ، وابسن ، ودورينمات ، وبيتر فايس ، وميكان تيري… وسواهم ) من الكتّاب برؤى ومعالجات معاصرة.

————————————–

مجلة الفنون المسرحية – د. فاضل خليل 

شاهد أيضاً

مهرجان المسرح العربي 14 يقدم مكرميه ويحتفي بذاته العرس المسرحي العربي في محطة بغداد / أحمد طنيش

توصلنا كإعلاميين عبر الوطن العربي، بتغطية صحفية من طرف مسؤول المؤتمرات الصحفية بمهرجان المسرح العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *