(عين) عن تحريك راكد الذاكرة في مسرحية “خريف التماثيل” – العراق

في البدء يتبدى السؤال عن جدوى الحديث في استدعاء الذاكرة وما تختزنه وحضورها في العرض المسرحي ، وما أهمية ذلك الاستدعاء وسط واقع يترهل بمخلفات ثقيلة من حروب ما تزال آلامها وأوجاعها تند بأمراض اجتماعية وأحلام معلقة وانهدار لأعمار الناس فضلا عن هدر للأرواح ؟ وكل هذه المخلفات من بقايا ما تزخر به ذاكرة لحظتنا العراقية الراهنة فيبدو لمن ينظر وكأننا في مستنقع اللاوجود.

ومن هنا يبزغ السؤال مجددا عن الكيفية التي من خلالها يمارس كاتب المسرح قراءته لما مرَّ ويمر به واقع العراق من ثقب القلب بحسب قول الشاعر يوسف الصائغ : ( أنا لا أنظر من ثقب الباب إلى وطني ولكني أنظر من قلب مثقوب ) لا أن يقدم قراءته من مكان مرتفع فيكون ما يقدمه وكأنه تسجيل لما تلوكه الألسن وما تفوح به أفواه العامة وبالتالي نكون مع ذاكرة تجهش بحزن فاقع فقط وبالتواصل مع ما ترشح من عرض مسرحية ( خريف التماثيل ) تأليف عمار نعمة جابر وإخراج الفنان الشاب علي حسن وتقديم جماعة الناصرية للتمثيل وبإشراف الدكتور ياسر البراك والتي قدمت في مدينة الناصرية ليومي 8 – 9 – شباط – 2016 فإننا نشاهد مفاصل العرض المسرحي وقد شيدت على متواليات تبدو فيها بنية التذكير المرتكز الذي تم من خلاله نبش ما تراكمت به ذاكرة لحظتنا من بقايا الدكتاتورية مرفقة بما جاءت به حبائل السياسة الغاطسة في مكر الواقع السياسي وأكذوباته وقسوة العقول السياسية وتحجرها وتغوّل الدين بأفانين بدت مكشوفة تثير السخط المقيت والازدراء لما جاءت به تلك الأفانين من طائفية وفساد وانحطاط في الأخلاق والقيم وما سببته للناس من بؤس مروِّع وأوجاع مستمرة وهذا ما أفصح عنه نص الكاتب عمار نعمة جابر والذي ختم لنا على خريف ووهن تلك اللحظة وبتواصلها ما بين زمن الزعيم وصولا إلى راهن ما نحن عليه . 

فما قام به الكاتب هو نقل ما تلوكه الألسن وما تعتمل به القلوب والخواطر في الشوارع والمقاهي وفي أحاديث العامة المكشوفة على الملأ وهنا تبدو مسؤولية الكاتب فنيا وثقافيا لكي يقعد تلك التوصيفات في نص مسرحي يؤرشف به ليكون وثيقة تذكير وإدانة لتلك المنعطفات التي تمر بها اللحظة العراقية . وفي تحولنا مع ما نصت عليه اشتغالات الفنان الشاب علي حسن وهو يتصدى لهذا النص فلا نكاد نراه يبتعد كثيرا عما تركز عليه نص المؤلف مع الميل إلى أسلوب التبسيط والإقتصاد في عملية الإخراج والتي ابتدأها بتحديد ملامح واضحة لمكان العرض فقد حاول أن يضفي عليه من ممكنات التجريد والتي أخذت بحضورها المائز في أغلب مراحل الاشتغال الفني لها وقد عزز ذلك دخول مفردات بدت قاسما مشتركا في انجاز ما طمح العرض المسرحي لأن يقول برسالته إلى المشاهدين ، فقد حاول المخرج أن يتميز عرضه بتنوع يتوخى الجمال المتحصل من فعالية الاشتغال الناتج باستحضار مفردة ( الفريمات ) والتي أنتجت لنا من خلال تعامل الممثلين معها فكان أن تتحول هذه المفردة إلى ناصية تحمل عناوين ، فمن شاشة التلفاز إلى مكان يتحاور فيه غاسل الموتى مع شبح الزعيم وبالعكس الزعيم مع شبحه وصولا إلى دكة لغسيل الأموات في مغتسل بدا فضاؤه واسعا يتعدى حدود ما هو راكز في الأذهان عن حدود ومكان المغتسل فضلا عن استعانة المخرج بمسامع موسيقية تنوعت ما بين الموسيقى العالمية مع أغان عراقية وأناشيد حربية تمتزج فيها ( هوسات ) عراقية وكذلك مع فواصل لنعي يثير السخرية حين يأخذ بمحلية إلى انتقال يذكرنا بما جاءت به أفواه الملالي على المنابر وكل هذا يتمفصل مع أداء تمثيلي كان منضبطا في بعض المفاصل فقد بدا على أداء الفنان ( حيدر الطيب ) مع بداية العرض طابع الانفعال غير المبرر ولكن في أماكن أخرى من العرض رحنا نلمس له توهجا كما في مشاهد الرقص ومحاولة استمالة صوت العالمة وفي حديثه مع جثة الميت وهو على دكة التغسيل وبحثه في ملابسه وبمقابل ذلك لنا في المشاهد التمثيلية للفنان ( كرار عبدالعالي ) في تناوبه ما بين شخصية الزعيم والشبح فهو الآخر كان له حضور واضح في مشاهد محددة جعلت من أدائه يبتعد قليلا عن الرتابة التي ظهر عليها في مشاهد أخرى من العرض وهذا لا يعود إليه وإنما ينسحب الأمر إلى التوظيف الإخراجي والذي هو ينبني على نص لممثل واحد ، وقد تبدو فواصل الإضاءة من قبل الفنان ( عمار سيف ) لها من التأثير والحضور حينما تشاطرت مع اللونين الأحمر والفضي ليركز في توضيح ملامح الأداء والفاعلية المعطاة من حضور المفردة المركزية للعرض المسرحي . ولنا أن نرى بفعالية أكثر تأثيرا في جلب دهشة المتلقي لو أن العرض المسرحي قدم بأسلوب اللامعقول كيما يذلل من هيمنة ما هو متناول وله في ذاكرة المتلقي الشيء الكثير فشخصية الديكتاتورية وتناسلها لدى ضحايا هذه الديكتاتورية في الفعل والسلوك ولكان من المستحسن أن ينظر المخرج إلى غاسل الموتى بعين مغايرة تبعده عن هذه الصورة النمطية التي ظهر عليها في العرض ولكان أحسن أيضا حينما ينظر إلى هذه الأشباح على أنها أشباح الديكتاتورية التي تناسلت في سلوكيات الكثير من الناس فلو أن غاسل الموتى له شبح يتوسم بروح الديكتاتورية التي اكتسبها غاسل الموتى الحقيقي سلوكا وتصورا وكان من المستحسن حين يعمد المخرج إلى النظر بعين تكاد ترتقي ما فوق تلك ( الواقعية العبثية ) والتي أكد عليها في دليل العرض فواقع العراق له من الغرابة والإثارة فكيف يكون شكل العرض المسرحي حينما يتداخل مع تلك الغرابة بمقدار يرتقي بتميز واضح كنا نرجو له أن يتحقق في هذا العرض وفي عروض كثيرة أرادت التداخل مع واقع عراقي غاطس في غرابة وعجائبية من جراء ما تحدق به من عوامل ومنعطفات كثيرة ؟ بقي لنا أن نرى الفرح يكبر حينما نرى روح الشباب تساهم في صنع عرض مسرحي بدءا من كاتب النص ومرورا بالممثلين والمخرج وهو يخطو إلينا بأولى خطواته في الإخراج وليس لنا سوى أن نؤشر لفرحنا بقول الفنان الكبير عزيز خيون إذ يقول : (عندما يطرق سمعي جرس الشباب تنبت في فضاءات الطموح عناقيد ضوء للعناد ، لطبيعة المحاولة ، للخيال الجامح والمخاطرة البكر).

—————————————————————

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – جبار وناس – المدى 

 

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *