عين على المسرح العربي – مسرح الطفل ماض باتجاه القاع… وما من يد تنشله من الغرق … مستقبل الأوطان يكون من خلال الاهتمام بالطفل وإمكاناته ومواهبه

المغامرة والخيال والألوان كلها عناصر جذابة يعشقها الطفل لأنها تستطيع أن تأخذه إلى اللامحدود في التفكير والحلم وحتى في التصرفات وأيضاً على صعيد الشخصية، تلك العناصر لا شيء يذكر مما يقدمه المسرح للطفل سواء من ترفيه إلى المعلومة، فمسرح الطفل ومسرح الدمى هدفه تقديم المتعة للطفل والسعي من خلال كل ما يدور على الخشبة من أضواء أو مرور ألوان مع الشخصيات وحتى الحوار كلها بغرض إثارة معارف الطفل مع وجدانه وحسه الحركي.

تاريخ مسرح الطفل متأصل في اللعب
في أسفار رحلة تاريخ مسرح الطفل هناك الكثير من الأفكار والنظريات المؤيدة لضرورة لعب الطفل وأهميته، وفي مسيرة هذه الرحلة تمسّك معظم المربين والمربيات بآراء «جان جاك روسو» الذي دعا في كتابه (إميل) إلى أهمية لعب الطفولة قائلا: «أحبوا الطفولة وفضّلوا لعبها ومتعها وغريزتها المحبوبة»، كما استفاد مسرح الطفل في رحلته من آراء التربية الحديثة التي تؤكد ضرورة حرية الطفل باعتبارها المنطلق إلى تكوين الشخصية نحو الإبداع والابتكار والنجاح في مراحل النمو، إضافة إلى أهمية معرفة الحياة بدروسها من خلال اللعب والتمثيل باعتبار الحياة بكل عبرها وقصصها ركيزة أساسية في التربية الهادفة.

المسرح مخلوق في خيال الطفل اللا محدود
يعتبر الطفل منذ نعومة أظافره كائناً خصب الخيال يسرح معه إلى أماكن وأمور لا يمكن للكبار توقعها على الإطلاق، كما يوظفه في لعبه ولهوه من خلال ما يسمى «تمثيلاً إيهامياً» وهذا ما أكده مدير مسرح الطفل بسام ناصر قائلاً: «من السهل على الطفل ابتكار أدوار يقوم بها وحده أو مع إخوته أو حتى مع ألعابه، فابنتي مثلا تحيط نفسها بكل ألعابها وبالدمى وتكلمها بأصوات مختلفة وبشخصيات مختلفة، إذاً الطفل ممثل بارع بالفطرة كما أنه يحب هذا السلوك ويستهويه كنشاط كي يسأل ويستفسر ويستكشف وفي النهاية كي ينمو ويتطور».
إضافة إلى ما سبق وهو أمر سيستغربه البعض، الطفل يبدأ بتمثيل الشخصيات مبكراً جداً وفي سن العام تقريباً، وحتى إن سلوك الخيال عنده ممكن أن يتعلمه أو يطوره بوجوده ضمن مجموعة من الأطفال متباينة في الأعمار أكثر مما لو كان الطفل يعيش وسط مجموعة متجانسة من حيث السن وحتى الجنس.

الطفل والمسرح توءم
الطفل دائم اللعب والفرح والاندهاش وحتى المحاورة، والمسرح لطالما اعتبر معلما ومربيا فاضلا ولكن دروسه لا تلقن عن طريق الكتب وأسلوبه ليس بممل أو حتى مرهق، لأن الحركة على خشبته تبعث بالحماس والتشويق بعد أن تحبس الأنفاس في ركب المغامرة المعروضة، كما أنها سهلة غير متكلفة شبيهة لبساطة وبراءة الطفل، قادرة على اختراق قلوبهم مباشرة من دون استئذان أو وسيط، مطلقة ضحكات الأطفال في الفضاء، محرضة على الخيال وسعة التفكير، موضحة العبر والحكم التي يجب أن يمتثل لها المرء في الحياة، وهذا حقا كما أسلفنا أعلاه ما يتوق إليه الطفل وما يتبعه كأسلوب فطري في سني نموه الأولى، واعتبر ناصر «مسرح الطفل شديد التعقيد ومن المسارح الصعبة جداً لأن عالم الطفولة لا يمكن اختراقه إلا بالصح وذلك لما يتمتع به الطفل من ذكاء وشفافية عالية وإحساس كبير بالصدق كلها أمور تمنع وترفض فيه مبدأ اللف أو الدوران يعني ببساطة شديدة من الصعب الكذب عليه، وبالتالي مسرح الأطفال هو الأهم والأعقد من مسرح الكبار لأنه أكثر اتساعا للعلم والمعرفة فهو الأخطر لأن الطفل يأتي إليه ليسمع ويرى وما نبث له في المسرح فهو يعلمه وفي هذه المرحلة يكون المسرح بالنسبة له كالمعلمة تماما وهي الأهم بالنسبة له من بيته وأمه وأبيه، ومثلا عندما يتم تنبيهه على أمر فإنه يقول «المعلمة هكذا قالت لي»، فهي مثله الأعلى وكذلك الخشبة هي المثل الأعلى للطفل الذي جاء ليرى عرضا مسرحيا بغض النظر عن ماهية العرض».

الموقف الثقافي من مسرح الطفل
لم يخلق عادة ولا تقليداً
بالرغم من أن معظم الدول المتقدمة في العالم وأكثر الباحثين التربويين يعتبرون مسرح الطفل من الوسائط الشديدة التأثير في تنمية الأطفال عقليا ولغويا وثقافيا وحتى عاطفيا إلا أنه للأسف الشديد الموقف الثقافي منه يدل على عدم استيعاب أهميته، يقول ناصر «لقد انتشرت ظاهرة الاستخفاف بمسرح الأطفال، وللأسف الشديد ينظر له بطريقة دونية، ودائما تتردد جملة عند السعي لأي عمل مسرحي للكبار بالقول «اذهب جرب بمسرح الأطفال أولا ثم تعال واصنع مسرحا للكبار»، ما أدى إلى ظهور ثقافة مستهترة همشت مسرح الطفل بكل ما يحمل من أهمية، كما تبعها سلوكات كأن تأتي مثلا عائلة كاملة مع طفل واحد ومعهم الكثير من التسالي من المأكولات والمشروبات وكأنهم ذاهبون إلى منتزه أو حديقة وبالطبع هذا السلوك لا يجوز كما أنه يشتت عين الطفل وتركيزه عن خشبة المسرح».

الطفل بمسرحه يتيم المؤلف وما من متبن
عدم استيعاب أهمية مسرح الطفل في تكوين فكر الطفل وتثقيفه أوصلنا إلى مكان فيه عسر وصعوبة الكتابة والتأليف للطفل مع الجهل بما تتطلبه هذه المرحلة من الإلمام والاهتمام بهذا الكائن الصغير، كما أن التهميش والنظرة الدونية لهذا النوع من المسرح دفعت الكثير من الكتّاب والمؤلفين البارزين في سورية إلى الترفع عنه، معتبرين أنه فن زائل ولا قيمة لتعبهم فيه وخصوصاً أن الكتابة والتأليف للطفل من السهل الممتنع، وتحتاج إلى تعمق كبير بأصول التربية وعلم النفس ومراحل نمو الطفل وغيرها الكثير.
يؤكد مدير مسرح الطفل «عندما نتكلم عن مسرح طفل نتكلم عن كاتب للأطفال ومخرج متخصص للأطفال وكذلك صانع دمية للطفل وممثل يتخصص في مسرح الطفل، والكارثة الأكبر أن المعهد العالي للفنون المسرحية ليس في منهجيته شيء يتعلق بالطفل إلا على دورنا في الثمانينيات حيث درست لسنتين مسرح الدمى أو العرائس ولكن للأسف تم إلغاء هذا القسم، وبشكل أو بآخر لست راضياً عما ينتج وغير راض عن المختصين، أصبح شائعا ومعروفا في ساحتنا غياب المؤلف المسرحي والمختص في الإخراج وحتى المتخصص بصناعة الدمى، حتى إنه لا يوجد في سورية كلها ممثل خاص بالأطفال».

الطفل بمسرحه مكبل بقيود الجهات المتعددة
تعدد الجهات التي تهتم بأمور مسرح الأطفال أدت إلى التشتت والكسل والخمول، كما عكست على مسرح الطفل بكل ما هو سلبي على الرغم من أن النية صادقة وجادة للإسهام بتحقيق عروض مسرحية للأطفال مهمة ولكن كما هو المثل القائل «كثرة الإيدين بتحرق الطبخة»، ناصر يؤكد «كان مسرح الطفل سابقا أفضل وللأسف الشديد في الوقت الحالي أصبح حاله سيئا جدا، لأن تعددية الجهات المسؤولة عنه سببت بكل ما يتعلق به معاناة حقيقية، والمفترض أن تكون هناك إدارة مركزية هي التي تنظم هذه الفعالية فلا يجوز أن يكون مسرح الطفل وحده أو مديرية ثقافة الطفل وحدها ولا حتى المسرح المدرسي وحده، كما يفترض أن يكون هناك تعاون وتنسيق بين كل تلك الجهات وبالنهاية يكون المُصدر للخطط السنوية والمنهج المتبع وحتى القرارات هي جهة واحدة فقط».

فقر الثقافة تبعه فقر وعوز مادي كبير
صحيح أن مسرح الطفولة معقد وصعب ولكن بأبسط الإمكانات يمكن خلق عرض، والواقع لا ينكر ذلك لأن الإمكانات المتاحة سواء أكانت ملابس أما دمى وغيرها الكثير تتم الاستفادة منها في العروض المقدمة عدة مرات، وبالرغم من أن هذا أمر خطر وخاطئ لأنه من السهل أن يلاحظ ذلك الطفل المتابع للعروض، إلا أنه يتم التغاضي عنه في سبيل تحقيق الغاية وهي خلق عرض مسرحي، يقول ناصر: «مسرح الطفل يفتقر إلى الدعم المادي، ونحن بحاجة إلى ميزانية مخصصة له وحتى لو كانت ضئيلة جداً ولا تكفي لتنفيذ إلا لعمل واحد، لأننا نستطيع التحكم بالميزانية من حيث الملابس والديكور والدمى والتكاليف الأخرى للإخراج والتأليف، وسيكون هذا أمرا مقبولا لأننا سنقدم عرضا جيداً بكل المضامين وفي النهاية يمكن لهذا العمل نفسه أن يذهب إلى باقي المحافظات».

التهميش والدونية دفعا إلى تخل إعلامي فاضح عن مسرح الطفولة
بالرغم من الضرورة والأهمية إلا أن التقصير واضح، فمن الجميل أن تكون لدينا ثقافة مسرحية والأجمل بأن يتم نشر هذه الثقافة في المدارس وعبر الإذاعات والتلفزيونات، وفي الوقت الحالي النشر أسهل بكثير حتى إنه لا يتطلب التكلفة التي كان يتطلبها في السابق، لقد أصبحنا روادا بالإعلام والتعددية الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة متوافرة بشكل فاعل جداً في سورية، ولكن ما يحكمنا اليوم هو عدم الرغبة الجادة بتسليط الضوء لإيقاظ ما هو غاف أو لإنعاش الذاكرة بما غفلت عنه بكل ما يرتبط بالطفولة عموماً وبمسرح الطفل بشكل خاص، يقول ناصر «الإعلام قاصر عن هذا الموضوع وعلى سبيل المثال للأسف حفل افتتاح مهرجان الطفل على مستوى سورية لم يكن فيه أي تغطية إعلامية، كما أننا نفتقر للتعاون بين وزارات التربية والثقافة والإعلام، في النهاية المسرح قائم بجهود وبعلاقات شخصية».

طفلي السوري هو الأفضل لمستقبل وطني
دائما كان الاهتمام بالطفل هو الغاية لبناء مجتمع أفضل ومستقبل أفضل للأوطان، وبما أن الغاية نبيلة فهذا يدفعنا إلى العمل الجاد إلى عدم الاستهانة بذكائه الذي يفوق ذكاء الكبار في أحيان كثيرة ما يتطلب منا التواضع ومحاولة التفكير بطريقته كي نستطيع تربيته وتقويمه ثم مشاركته بأحلامه وتطلعاته، من هنا يأتي دور مسرح الأطفال الذي سيقدم له تجارب حياتية ستجيب عن أسئلة الأطفال وتصحح من تفكيرهم وتشبعهم بمفاهيم عصرية متطورة بعيدة عن الأساليب العشوائية الزاخرة بالخرافات والمتناقضات، ناصر يقول «سورية كانت منافسة مهمة قبل الأزمة، وهي موجودة لأنها الأهم وبالرغم من كل شي ومن كل المعوقات والصعوبات لابد لنا أن نعترف بأن الخبرة السورية موجودة ومرغوب فيها لأننا جادون ورغم الميزانيات الجبارة في الخارج إلا أن الكفاءة العالية لدينا توصلنا إلى مستوى متقدم جدا، كنا مهمين وسنبقى وكما أننا نطور نفسنا بأنفسنا وبإمكانياتنا البسيطة نحاول الوجود، وفي النهاية نحاول أن نحلق في هذا الفضاء ونتخيل كيف يمكننا أن نقترب من خيال الطفل، قد نفشل وقد نصيب، لكنني متأكد أننا لم نصل إلى طريقة تفكيره بمداه المطلق وقدرته الجامحة في الخيال من دون قيود أو شروط».

 

سوسن صيداوي

http://alwatan.sy/

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *