(عين) المكانية في مسرح الصورة .. فضاء مفتوح دائماً – العراق

العلامة الأبرز في تجارب المخرج الدكتور صلاح القصب هي إحتفاؤه بالمكان بإعتباره بؤرة مركزية تؤسس لأنساق التواصل البصرية ، فالقصب في جميع تجاربه يغادر المكان المؤسس الذي تقرّه رؤيا المؤلف في النص المسرحي لأنه يعتقد أن هذا المكان قد تم إستنفاده عبر القراءات المتكررة للنص ( القراءات الكلاسيكية على وجه الخصوص ) ، وبالتالي أصبح مكاناً مستباحاً أو مُنتهكاً ، وهذه المشاعيّة التي وصل لها المكان في نص المؤلف لا يمكن أن تحقق السرّية التي ينشدها القصب في مكان العرض المسرحي ، فالسرّية تمنح المكان نوعاً من الدهشة والسحر ، وهي صفات لا تتوفر إلا في المكان الوحشي غير المُنتهك ، والذي يحتفظ بعذريته الجمالية ، وهو ما يسعى إليه القصب عبر ما يسميه بـ ( المكان الإفتراضي ) الذي لا ينطلق من فراغ أو يتجرّد من مرجعية ما ، إنما ينطلق من النص نفسه ، حيث يختزن النص أمكنة سرّية عديدة تقوم كل رؤية مسرحية مبدعة بفض بكارة أحد تلك الأمكنة ، عندها تصبح الرؤيا الإخراجية لنص مسرحي ما نوعاً من البحث في مجاهيل المكان السرّية ، ويتأسس المكان لدى القصب من فضاء مفتوح دائماً ، وهذا الفضاء يعطي إحساساً للمتلقي بهيولية اللحظة المسرحية التي تمر أمامه ، تلك اللحظة المكوّنة من تراكم صوري مثير ومقلق لحاسة البصر لديه ، وقد يكون المكان مُضمّناً في حوار محدد أو في جملة شعرية أو حتى في ملاحظة من إرشادات المؤلف ، لكن القصب يقوم بتصدير هذا المكان إلى واجهة الرؤيا الإخراجية ليصبح مكانه الأثير الذي يُنشيء معمارية العرض المسرحي عبره ، ويأتي هذا التصدير ليمنح المكان إيقاعاً جديداً يتأسس عبر عناصر الخط واللون والكتلة وهي عناصر أساسية في تأسيس أي مكان مسرحي ، ولعلّ السمة الأبرز في عروض القصب وجود أكثر من مكان في آنٍ واحد لأنه يستثمر مساحات الفضاء المسرحي وفق رؤية تخيلية تجنح إلى تأثيث هذا الفضاء بعدد كبير من المفردات السينوغرافية ( دوال ) خالقاً نوعاً من العلاقات النسقيّة بين تلك الدوال لتصبح عبارة عن منظومة سينوغرافية واحدة ، لكنها منظومة ديناميكية تتحرك مع إيقاع الصورة غير الثابتة ، وفي الوقت نفسه فان هذه الدوال لا تستسلم لحالتها الأيقونية بل تتحوّل مع سياق العرض إلى دلالات رمزية وإشارية فتمنح العرض بُعده السيميائي الذي تشتغل عليه الصورة المسرحية ، ويتم ذلك عبر وسيلتين أساسيتين ، الأولى : إستثمار تقنيات المسرح ( التكنولوجية ) إلى أقصى حد ممكن في بناء الصورة المسرحية ، والثانية : تشغيل حواس الممثل في تعامله مع تلك الدوال لخلق تحولات دلالية تعمّق نسق المعنى بداخل العرض فيندمج الممثل مع المفردة مكوّناً إيقاع معمارية المكان ، وبما أن الصورة لدى القصب قلقة وغير مستقرّة فان المكان كذلك يستمد عدم الإستقرار والقلق من إنشائية الصورة نفسها ، ويتم ذلك عبر ما يسميه القصب بـ ( التشتيت البؤري ) وهو ما يعني أن نظر المتلقي لا يتركز على بؤر بصرية واحدة ، إنما هناك أكثر من بؤرة مركزية ضمن حدود المشهد الواحد ، ومع أن هذه الآلية قد تشتت إنتباه المتلقي التقليدي ، إلا أنها تجعله في حالة يقظة تامة ومستمرّة لأن فضوله سيقوده إلى محاولة الإمساك بجميع التفاصيل المشهدية التي تدور أمامه .

السمة الأخرى في مكانية عروض القصب هي إنشطار المكان إلى مستويين أساسيين أو لنقل عالمين ، الأول : يمثل وعي النص ويكون في مقدمة المسرح ، والثاني : هو اللاوعي الذي يشغل عمق المسرح ، في المستوى الأول نجد الشخصيات المركزية التي تشغل العرض ، بينما نجد في المستوى الثاني الشخصيّات الثانوية أو المجاميع ( الروابط ) وهي دوال بشرية أكثر من كونها شخصيات تمتلك سمات ذاتية كما هو الحال مع الشخصيات المركزية ، مع أن الشخصيّة – بصورة عامة – في مسرحيات القصب ليست شخصيّة بالمعنى المتعارف عليه ( النفسي ) ، إنما هي مجرّد ( علامة ) من علامات العرض ، لذلك نجد الممثل في مسرح القصب لا يهتم كثيراً بالأبعاد الثلاثة في إنتاج شخصيّته ( الفيزيقي / السايكلوجي / السوسيولوجي ) ، إنما يركز على أفعال الشخصيّة الخارجية ( السلوك العام ) وما تنتجه هذه الأفعال من دلالات تثري متن العرض من الناحية البصريّة ، وهذان المستويان لا ينفصلان أبداً إنما يتداخلان مع بعضهما ليولّدا معمارية المكان العامة لذلك نرى الشخصيات المركزية تغادر جغرافيتها المكانية في مقدمة المسرح إلى عمق الخشبة وكذلك تفعل المجاميع لتشغل حيزاً في مقدمة المسرح ، أي أن المكان في عروض القصب لا يتجزأ للإشارة إلى جغرافية الحدث ، بل هو دائماً مكان إفتراضي يشير لمعنى معيّن ضمن حدود الصورة المسرحية المُنتجة من قبل الممثل في علاقته مع جميع العناصر السينوغرافية ، كما أن السمة العامة لذلك المكان تكون مشابهة للمكان السريالي أو لنقل مطابقة لبنية الأحلام ، فهو على الرغم من إعتماده على مفردات واقعية ( دوال ) إلا أنه يُنتج أمكنة غير واقعية وتتسم بالغرائبية ونوع من الفانتازيا ، وهو ما يثير التساؤل والدهشة والسحر في نفس المتلقي ، لأن شبكة العلاقات المكانية يعيد القصب إنتاجها وفقاً لعلاقات جديدة غير متداولة ، وهذا ما يسبب صدمة مرجعية لدى المتلقي حينما يشعر أن ( بانيو ) الإستحمام الذي يدل على الحياة سرعان ما تحول إلى تابوت يدل على الموت ، أو أن قطعة القماش البيضاء التي تدل على الطهر والفرح تتحوّل إلى كفن يدل على جثة متفسخة وتراجيديا جنائزية ، وهذا التحوّل الدلالي في المكان هو جزء من إيقاعية الصورة المسرحية المتحرّكة دوماً .

وفي جميع تجارب القصب سواء تلك التي قام بتقديمها ضمن مسرح العلبة الإيطالية أو في المسرح الدائري ، أو في الهواء الطلق ( ساحة الأكاديمية وحدائقها ) نجد أن الخاصيّة المميزة لفضائه المسرحي هي الإنفتاح ، فالقصب يعمد دائماً إلى تشغيل المساحات الواسعة لخشبة المسرح ، إن كانت في مسرح العلبة ، أو المنحنيات الدائرية والمدرّجات المقوّسة في المسرح الدائري ، أو المسافات المتباعدة وتضاريس البناء المعماري والكتل الكونكريتية والنوافذ والأشجار في أماكن الهواء الطلق ، والشيء الأهم في تعامله مع كل تلك الحدود الجغرافية المختلفة في أبعادها المعمارية أنه يعيد تأثيث المكان بما يتوافق مع الرؤية الإخراجية مثل فرشه لمساحة التمثيل بمادة الرمل في أكثر من عرض ، وهذا التأثيث المكاني لا يغلق المكان مهما كثرت أو كبرت الكتل المساهمة في إنشاءه ، لأن تلك الكتل ( الممثل / المفردات ) في حركة دائمة ، وهذا يعني أن فضاء العرض في جميع الأمكنة التي يختارها القصب يكون مفتوحاً ، حتى تلك العروض التي قدمها على مسرح العلبة ، وهذا الإنفتاح يأتي عبر العلامة المنفتحة أصلاً ضمن نسقها المكاني والتي تتعدد دلالاتها بتعدد القراءات النابهة للمتلقين ، فالقصب يبتعد كثيراً عن الفضاءات المغلقة أو الضيّقة لأنه يعتقد أن مساحة الحدث هي مساحة الحلم ، والحلم كحالة بنيوية غير محدد بزمكانية معينة ، وما يعزز ذلك إستخدامه المتقن والدلالي لبقية مفردات الفضاء المسرحي ( الإضاءة / الأزياء / الإكسسوارات ) وهي مفردات تؤسس حضورها الجمالي عبر تعدد أنساقها المختلفة سواء عبر الكتلة أو الخط أو اللون لتحقق ما يسميه القصب بـ ( نسق الأنساق ) وهو العرض المسرحي المتكامل ، أو ما يسميها ألكسي بوبوف بـ ( التكاملية الفنية للعرض المسرحي ) ، فالإضاءة لديه حلمية ، شبحيّة ، دلالية أكثر من كونها كاشفة ، ومعتمة أكثر من سطوعها ، يلعب فيها اللون دور المركز ، ترتبط مع مفردات المكان بإيقاعية خاصة ، ووفق هندسة بصريّة تراعي كيمياء المزج اللوني بين لون وآخر ، وهي أحياناً سريعة خاطفة تتوافق مع إيقاعية الصورة المسرحية المتغيرة في زمان ومكان العرض ، تشد أجزاء الصورة لبعضها في نسق ضوئي يمثل وحدة سيمفونية متدفقة من الإنسجام الهارموني تشتبك فيها الألوان الحارة مع الباردة في حالة صراع ضدّي يكون إنعكاساً لمخزون الصراع في الصورة المسرحية ، ولطبيعة الموضوعات التي يتناولها القصب في مسرحه يعتمد تقنية العزل الضوئي للممثل أو الإخفاء الجزئي محاولاً توظيف ( الظلال ) كمعطى جمالي بداخل العرض ، الأمر نفسه ينطبق على الزّي المسرحي الذي يشير دائماً إلى الطبيعة الشعائرية للعرض – حسب تعبير آرتو – لذلك لا نجد ثمّة أردية واقعية أو محددة بفترة زمنية ، أو نمط إجتماعي معيّن ، إنما هي نتاج لطقس العرض نفسه وبُعده الشعائري ، لذلك نجده سواء في اللون أو التصميم يحمل نوعاً من الغرابة التي تؤهل المتلقي لقراءته قراءة مغايرة لوظيفة الزّي في الواقعة فهو تعبيري ودلالي ، أكثر من كونه يؤدي وظيفة نفعيّة / إستعماليّة .

————————————-

المصدر : مجلة الفنون المسرحية – ياسر البراك

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *