(عين)’ملوك الحرب’ ثلاث مسرحيات في مسرحية تسائل ثيمة السلطة-مصر

كيف يمكن للحاكم أن يحكم بلدا في ظرف عصيب صاخب بالتمرد والدسائس والحروب؟ تلك فكرة مسرحية “ملوك الحرب” التي استوحاها المخرج الهولندي إيفو فان هوف من مسرحيات شكسبيرية ثلاث هي “هنري الخامس” و”هنري السادس” و”ريتشارد الثالث”، وصاغها في شكل مسرحيات متسلسلة، وقد حازت الإعجاب عند عرضها مؤخرا على مسرح “شايو” بباريس، رغم طولها (أربع ساعات ونصف) وعقبات دبلجة لغتها الهولندية إلى الفرنسية.

ما المراد بالحكم؟ وما هي هذه الحرفة الغريبة التي تتمثل في أن يمسك المرء بين يديه مصير بلد ومصائر ملايين من البشر؟ وما هي السبل الكفيلة بممارسة السلطة بطريقة عادلة وفعّالة؟ هذه الأسئلة التي شغلت شكسبير في زمنه، يعيد المخرج الهولندي إيفو فان هوف طرحها في مسرحية “ملوك الحرب”، التي عرضت مؤخرا على مسرح “شايو” الباريسي، لمساءلة طبائع الحكم في زمننا الحاضر، على ضوء سير ملوك إنكلترا الغابرين على امتداد قرن.
إيفو فان هوف، الفلمندري ذو الثمانية والخمسين عاما، الذي كنا قدمنا لقرائنا الكرام إخراجَه لمسرحية أرثر ميلر “منظر من الجسر”، هو صاحب فرقة “تونيلغروب” بأمستردام، عُرف بميله إلى الأعمال الكلاسيكية مثل مسرحيات شيلر وكوشنر علاوة على شكسبير، مثلما عرف بأسلوبه في معالجة تلك الأعمال بالاستفادة من تقنيات السينما عند أبرز أعلامها كبرغمان وكسّافيتس وأنطونيوني وفيسكونتي، ولكنه لا يحصر نفسه فيها، بل يتعامل أيضا مع الجديد المستحدث كإخراجه منذ بضعة أشهر في نيويورك الكوميديا الموسيقية “لازاروس” لدفيد بووي.
السلطة واللذة

في عمله الجديد “ملوك الحرب”، يستمد فان هوف من شكسبير سير ثلاثة ملوك إنكليز، مختلفي الطبائع والمصائر، ويعرضها في شكل مسلسل تاريخي درامي ليسائل ثيمة السلطة في ظرف تستعر فيه الحروب والنزاعات والمؤامرات، فيقدمهم في حالات انتصارهم وانكسارهم، ويصورهم وسط الصخب والعنف، وفي أوقاتهم الحميمة، وهم يواجهون ضغوطا قوية من جرّاء أزمات لا حلّ لها أحيانا.

كل ذلك يأتي في ثوب عصري، حيث شاشة عريضة تعتلي الخشبة تعرض أفلام فيديو وشعارات ومقالات وردودا على السكايب، وصوت إذاعة لندن يعلو بين الحين والحين. وحيث الأحداث تدور في ما يشبه غرفة قيادة عمليات حربية تخلق جوا من العنف والترقب، والأبطال في ألبسة عصرية يرددون خطابا شكسبيريا كلاسيكيا، وفي الخلفية موسيقى تتراوح بين الأغاني الباروكية والألحان الرومانسية والأناشيد الجنائزية، دون أن يُفقد هذا الخليطُ المسرحية دلالتها العميقة، وهي أن التاريخ يعيد نفسه وإن بدا الزمن متشظيا، وأن الصراع على السلطة دائم لا يزول، وأننا نشهد، من خلال ما تنتهي إليه المسرحية، ما نعيشه اليوم في

جهات كثيرة من العالم من عسف وجور واستبداد وتعطش إلى سفك الدماء، إشباعا لرغبة متأصلة لدى الإنسان في الوصول إلى السلطة، أوليست “ألذّ من اللذّة” كما يقول الجاحظ؟

أبطال في ألبسة عصرية يرددون خطابا شكسبيريا كلاسيكيا، وفي الخلفية موسيقى تتراوح بين الأغاني الباروكية والألحان الرومانسية
وخلافا لما يوحي به العنوان، ليست الحرب في حدّ ذاتها هي التي تسترعي اهتمام فان هوف، بل ما يجري في الكواليس أثناءها، وقبل اندلاعها وبعد وضع أوزارها، إذ يتساءل، كما تساءل من قبله شكسبير، كيف يمكن أن يتحول بلد يشهد حالا من الازدهار والاستقرار، كما كانت إنكلترا خلال القرن الخامس عشر، إلى بلد تهزه الاضطرابات والقلاقل، وتستشري فيه حروب مدمرة، وصفها توماس هوبز بحرب الجميع ضد الجميع، وما دور العامل البشري في تلك الفوضى.
ثلاثة سلوكيات

في نسق سريع، وفضاء يذكّر بغرفة الحرب اللندنية التي كان تشرشل يقود منها حربه ضد ألمانيا النازية، يحلل فان هوف ثلاثة سلوكيات، أو لنقل ثلاثة محركات فعل ممكنة، الأول هو العقل، مع هنري الخامس الذي سوف يفرض نفسه بفضل ذكائه وبعد نظره وإحساسه بالمسؤولية، وبالتضحية أيضا.

فرغم قلة خبرته، استطاع أن يصون مصالح بلاده بالزواج من فرنسية من السلالة الملكية هي كاترين دو فالوا كي يضمن السلام لمملكته، ويصونها من العدوان، ويخصص جهده لمواجهة الطامعين في عرشه، فهو أول الملوك وأفضلهم، ذلك الذي نظر إلى الحكم كقدر ومهمة.

والثاني هو القلب، ممثلا هنا في هنري السادس، الملك الورع الذي تمنعه طيبته، وسذاجته أيضا، من تبين الدسائس التي تحاك حوله، سواء من بطانته أو من زوجته، ويبذل قصارى جهده في الحفاظ على سلامة الحرمة الترابية لمملكته قبل أن يزاح عن الحكم.

والثالث هو اليد، ممثلة في ريتشارد الثالث، الولد الفظ الذي كان يفتقد في صغره للعطف والحنان، فلما كبر قرر الانتقام من كل من حوله، فمضى يشبع تعطشه للنفوذ كي يبطش بكل من يخالفه الرأي، حتى أخيه هنري السادس، في عملية خنق مرعبة لم يتجنب فون هوف عرضها على الجمهور في أجلى عنفها وبشاعتها.

ريتشارد الثالث هو رمز الشرّ ، يسكنه جنون العظمة، ولا هدف لديه إلاّ خلوده على العرش، حتى بعد أن خرق معاهدة السلام التي عقبت حرب الوردتين (1455 /1485) بين أسرة لانكاستر (وشعارها الوردة الحمراء)، وأسرة يورك (وشعارها الوردة البيضاء) حول أحقية كل منهما في عرش إنكلترا.

لقد وُفّق فان هوف في جعل هذه الملحمة التاريخية المعقدة واضحة، وتقديمها كمرآة لمرحلتنا الراهنة وقادتها السياسيين المتصارعين على السلطة، المنشغلين بالسيطرة والهيمنة أكثر من انشغالهم بمصائر شعوبهم.

————————————————————–
المصدر :مجلة الفنون المسرحية –  أبو بكر العيادي – العرب

شاهد أيضاً

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء

صدور العدد (36) من مجلة (المسرح العربي) للهيئة العربية للمسرح  كتب – عبد العليم البناء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *