عن عرض مسرحية: سنة أخرى فقط ، المأخوذ عن محمود درويش، جريدة النهار اللبنانية محمد سيف/باريس

إن أول منفى يبدأ عندما نخرج من أرحام أمهاتنا، عندما تقذفنا منازلنا الأولى إلى العالم الخارجي. هذه هي الخطوة الأولى نحو المنفى الذي لا يعرف به الكثير. ربما لهذا السبب يحاول الشعراء دائما بتذكيرنا بحالة الفقد هذه؛ أو ربما لأن الشعراء، هم أنفسهم، حتى وإن كانوا في منازلهم الأصلية، ومحاطين بالأهل والأقارب، يشعرون بوصمة العار من الترحيل والإقصاء. إذا كان الأمر كذلك، فماذا يقول أولئك الشعراء الذين، على الرغم من منفاهم الداخلي، يُرغمون على حمل حقائبهم وعبور الحدود عنوة وعلى عجل ؟
إن محمود درويش هو واحد من هؤلاء الشعراء، الذين يعيشون المنفى المزدوج، ولكن بفرح عظيم على الرغم من الألم، وهو يحيّ العطايا اليومية للطبيعة، والصداقة، والحب والموسيقى وهذا الكأس من النبيذ الذي ما أن نميله قليلا، حتى يصبح مرآة سريعة الزوال.
أتصور أن الشاعر في المنفى يفكر بعيدا، عيناه نحو السماء، وإن الأوطان بالنسبة له ليست سوى قلاعا رملية، ولكنه يعلم أيضا إن حرمان بعض الناس من أوطانهم يعني قذفهم في مهب رياح النسيان.
إن كتابات محمود درويش الشعرية تحمل دائما أجوبة، تضيء التزاماته السياسية وعواطفه، ولكن الكلمات لا تستطيع أن تقول كل شيء، لهذا فإن الصمت والعزلة يحافظان على الكثير من أسراره التي لا يفضحها سوى الشعر, بلا شك أن قوة شعره تكمن في هذه الحشمة اللانهائية، حشمة يتناوب فيها العنف واليأس والأمل. سنوات طويلة وهو بين مد وجزر المرض، بقلب نصفه ورم غير مرئي ونصفه الآخر جوهرة صافية، متجاذبا بين الليل والنهار وبين الدم والطين. ذهب محمود درويش مع إبرة البوصلة التي على شكل علامة استفهام، أثناء رحلته بين رام الله وهيوستن. إنسان بلا حدود، كان يريد دائما دولة فلسطينية ذات حدود حقيقية، كان يبحث عن مجرد مكان يوفر له فرصة المغادرة والسفر، لكي يختار منفاه الذاتي هذه المرة بطواعية، ولكي يستطيع أخيرا أن يتنفس ويعيش في القصيدة، ولكن كم من الوقت يستغرق خلق كل هذا ؟. رغم انتصار الموت الذي تنبئ به في قصيدته الطويلة (الجدارية)، سيبقى محمود درويش كتلة صلبة في الطين والدم والتاريخ. ورغم انتصار الجزء المتورم من القلب، سيبقى النصف الثاني، ينبض اليوم وغدا في صدر طفل يركض على سطح أرضه، في حالة سباق من أجل الحياة، لاسيما أن الأرض تنتشر مثل اللغة.
إن عرض مسرحية (سنة أخرى فقط) لفرقة مسرح باروك الفرنسي، لا تتحدث عن هذه التفاصيل، بقدر ما هي عبارة عن لقاء والتقاء بشعر محمود درويش، إنها تواشج وعبور نحو العالم، وغناء البشر. إنها شهادة من تدفق الدم في العروق، تشبه إلى حد كبير تدفق الدم في الشوارع والميادين الذي يشق لنفسه طريقا إلى السواقي والحقول والقلوب. تتألف مسرحية (سنة أخرى فقط) من الموسيقى والشعر والقراءة المسرحية، إنها لقاء والتقاء مع كلمات محمود درويش، هذه الكلمات التي تشكل الصور عن طريق تربية الأمل الذي يخدش الملل اليومي المميت. إنها مسرحية متحركة لا تعرف الثبات، تتغير وفقا للتغيرات الدرامية اليومية للحالة الفلسطينية. كل شيء فيها خاضع للتغير والتبديل، الشعر، الموسيقى وطريقة الأداء، لهذا ليس من الغريب والمفاجئ أن يشاهدها المتفرج مرتين أو ثلاثة أو حتى أربعة، وهذا ما حدث في العديد من المرات، بحيث ينتاب المتفرج في كل مرة شعور بأنه أمام حدث كل شيء فيه واضح على الرغم من تنافر الأصوات واختلافها. إن كل صوت فيها يعزف مقطوعته بكيفية هارمونية مكملة للأصوات الأخرى. فالذي يتحدث ليس وحيدا على المسرح لان الآخرين موجودين بدورهم أيضا سواء كانوا معنيين بالحدث أم غير معنيين. الشخصيات فيها ليست عادية في تركيبتها لأنها خارجة من معطف الكلمات والصور الشعرية المكثفة. أي أنها شخصيات مجردة تحاول أن تحكي قصة شعر وشاعر. إن وجود شخصية الشاعر التي تنصهر وتذوب في الأصوات الأربعة الموجودة على المسرح بقدر ما تبدو مألوفة فهي غير عادية. وإن هذه المعادلة الدرامية التي تقدمها المسرحية، تقربنا من الشعر والشاعر إذ تحكي قصته الشخصية، وتجعل المتفرج يحس بشكل مستمر بارتباطه بدراما الأحداث الشعرية وشخصياتها الأربعة الحاضرة. إن المسرحية تحكي قصة مأساوية بكيفية رقيقة.
إن مسرحية (سنة أخرى فقط)، تشبه مونولوجا متناوبا محفوفا با لمخاطر، حوراتها متوزعة ما بين أربعة أصوات تكاد إن تكون صارخة قارصة وعصبية، صوت الموسيقى (طارق كواش)، من الجزائر وصوت الممثلة (ربيعة تلالي)، من تونس، وصوت (إريك أوكست)، من فرنسا، وصوت (محمد سيف)، من العراق. ليس لهذ المسرحية من قصة، إنها مجموعة قصائد تداخلت مع بعضها البعض لكي تخلق حالة شعرية ممسرحة (يطير الحمام، على هذه الأرض، قرويون، من غير سوء، أبد الصُبار، سيجيءُ يوم أخر، درس من كماسوطرا، سنة أخرى فقط، حالة حصار، الجدارية)، أربعة أصوات ليست كافية لكي تقدم محمود درويش ولكنها تحاول. كل صوت من هذه الأصوات يتحمل مسؤولية سرد جزء من شعر هذا الشاعر. فالقراءة في هذا العرض المتنوع الأصوات هي نوع من الانضباط الذي يجرد المسرح من بهرجته، ويجعل الممثل في تساؤل دائم عن الكلمة والجملة والإشارة؛ إنها تفرض على الممثل أن يكون قريبا جدا من الكلمة دون أن ينزل إلى حضيض التفسير أبدا، أي إنها تجنبه من الوقوع في حالة التمسرح المبالغ فيها، مثلما تقضي على التحيز. إن القراءة في هذا العرض تحول جسم الممثل إلى وسيط بسيط، تحوله إلى مُعَدٍّ للكلمات والمعاني والمشاعر. يعتمد العرض على لغتين : اللغة العربية، واللغة الفرنسية، وإذا بحثنا عن سبب لذلك، فستكون الإجابة بسيطة جدا، هي أن صوت الكلمات بحد ذاته معنى، وهنا تكمن عالمية الشعر. إنها تتجاوز الفهم والتفاهم، إذ تنغمس في الجناس وفي موسيقى اللغة، فتسمح بفهم العمل الشعري من زاوية رمزية.
إن اختلاط اللغة الفرنسية بالعربية وبالعكس في هذا العرض ضرورة لأولئك الذين يبحثون أن يكونوا أقرب إلى القصدية الشعرية، وهي ضرورية أيضا، لأنها تسمح للجمهور الفرنسي والعربي لأن يسمع شعر محمود درويش بلغته الأصلية، وأن يسمع أرض الشاعر وهي تغني تحت قدميه. إن ذوبان اللغتين مع بعضهما البعض يكشف لنا عن سر الجمال الذي لا يتزعزع، مثل أغنية.
إن موسيقى طارق كواش ترافق الغناء الشعري، إن صح التعبير، وتبرز بعض اللهجات المعينة والإيقاعات والألحان. إنها تنفتح على منظور المعنى، وترتجل أحيانا مثل الريح التي تجعل غبار الأرض يرقص، لتحجب التنبوء والتوقع وتجعلنا نركز على رؤية الصورة المتكونة عن طريق العقل.
إن موسيقى طارق كواش لا هي تقليدية ولا هي حديثة، إنها مثل شعر محمود درويش الذي يستهل مصادره من تقاليد الشعر العربي وجذوره العميقة لينطلق بها محلقا بقلب تائه نحو الأفاق

محمد سامي / مجلة الخشبة

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش

   

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *