قبل الوباء والأزمات الاقتصادية، كانت الأعوام السابقة تشهد مع بداية كلّ فصل خريفيّ، موسماً مسرحيّاً مكثّفاً. اليوم، المسرح يُنازع. والعاملات والعاملون فيه، يُحاولون إعادة إنعاش جثّة القطاع المسرحي، علّ الحياة تعود إليه من جديد. على ضوء ذلك، تأتي مبادرة «حسن الجوار» التي تنظّمها الجامعة الأميركية في بيروت، بالتعاون مع «مسرح المدينة»، تحت عنوان: «الجار للجار». يتضمّن الحدث أمسيات موسيقيّة وغنائيّة، «لتتروحن راس بيروت». كما تخرق المشهد المسرحي الخاوي هذه الأيام، إعادة عرض مسرحية «المعلّقتان» للمخرجة اللبنانية الشابة لينا عسيران، على خشبة «مسرح المدينة»، بعيداً عن المبادرة التي أطلقتها الجامعة الأميركية، لكن، ضمن الأهداف نفسها المتمثّلة في إعادة بث الحياة في «مسرح المدينة».

 

مشهد من «المعلّقتان»

نضال الأشقر: لن يموت
«طالما أنا حيّة، لن يُقفل مسرح المدينة أبوابه»، تقول نضال الأشقر كلمتها، وتقرنها بالعمل المتمثّل في جمع المساعدات والتبرّعات. تقول لنا: «في الأشهر الماضية، طلبت من صديقاتي، أن يحوّلن لي تكاليف المسرح من الخارج». إيجار المبنى، والعاملين والتقنيّين وغيرها… تكاليف باهظة للمسرح، الذي ما يلبث أن يُطفئ أضواءه، حتى يُعيد إشعالها مرة أخرى. يوم السبت الفائت، انطلقت أولى فعاليات «الجار للجار» التي تمثّلت في ترانيم ميلادية، لعدد من العاملات الأجنبيات. واختتمت بمشاركة فرقة زكي ناصيف، على «مسرح المدينة»، تحت عنوان «سوا مهما تجرحنا». برنامج حافل سيمتد طوال شهر الميلاد والأعياد، علَّ القائمين على المسرح، يستطيعون جمع تبرعات، تعود بأكملها لسدّ النفقات المترتبة على المسرح. الوضع حرج على الصعيد المادي، وقد يؤدي عدم دفع النفقات إلى إقفال المسرح بأكمله. لذلك، كانت المبادرة، درءاً لأسوأ السيناريوهات، حيث ستباع البطاقات في فروع «مكتبة أنطوان» وتبدأ من 50 ألف ليرة لبنانية.
يتنوّع البرنامج بين أمسيات موسيقيّة، يقدّمها عدد من الفنّانين. في 12 كانون الأول (ديسمبر)، كان الموعد مع فرقة «جيلان»، أو مَن تُطلق عليهم الأشقر تسمية «الآباء والبنون». قدّمت الفرقة أغنيات شرقيّة، وأخرى خاصة، تمزج بين الجاز والصوفي والروك ضمن خلطة جديدة، قدّمها كلّ من خالد العبد الله وابنه آدم، وأسامة الخطيب وابنه إبراهيم.
تغيب الاحتفالات حتى 20 الشهر المقبل، حيث تُقام أمسية «رند» غناء يوسف، وليلى، وجمال أبو حمد، ومشاركة عدد من العازفين. وفي 21، تقدّم السوبرانو غادة غانم، «معكرونة وغنية» لنحتفل بالباستا والحبّ والحياة، إذ ستغني غادة وهي تحضّر الباستا، الطازجة على المسرح مع صديقاتها.

«مش من زمان» يندرج في سياق «سيرة ذاتية مغناة»، تقدّمه نضال الأشقر برفقة الفنان خالد العبد الله

أما العرض المسرحي «مش من زمان» الذي يندرج في سياق «سيرة ذاتية مغناة»، فتقدّمه نضال الأشقر برفقة الفنان خالد العبد الله، يوم الإثنين في 27 من الشهر الحالي. وهي حفلة خاصة لدعم «مسرح المدينة»، وستصل أسعار البطاقات إلى 1.500.000 ل.ل. لدعم المسرح.
وفي 28 من الشهر الحالي، تعود لمياء غندور برفقة زياد سحاب، ليقدّما «طحلب ودود»، وهي أمسية موسيقيّة لحّنها زياد. بعضها صدر في أسطوانات سابقاً، وبعضها الآخر يُؤدّى للمرة الأولى على المسرح، والنصوص هي لشعراء من أمثال صلاح جاهين، أحمد فؤاد نجم، ومحمد خير. ويختتم البرنامج الأربعاء في 29 مع «كورال الفيحاء»، الذي سيُقدّم على خشبة «المدينة»، أغنيات من دون عزف، بقيادة المايسترو بركيف تسلاكيان.
هكذا، تحاول نضال الاشقر إعادة الحياة الفنية في قلب العاصمة، وبث جرعة من الأمل، بعودة المسرح إلى بيروت. ما يبدو لافتاً أيضاً أن وزير الثقافة محمد وسام مرتضى يرعى تنظيم احتفالية «مش من زمان». تقول الأشقر بأن الوزير الحالي، بادر، وفي سابقة من نوعها، بالتواصل مع إدارة «مسرح المدينة»، وأبدى رغبة في دعم المسرح، وإنقاذه من الانهيار. ربّما تأخّرت مسألة معالجة انهيار القطاع المسرحي في لبنان. إذ إن المسرح قد تخطّى الانهيار، ودخل مرحلة الإنعاش. أتى ذلك بعد سلسلة أخطاء وارتكابات ارتكبها وزراء، على مدى عقود من الزمن. ولم يقدّموا أي خطة لإنعاش الثقافة، ولا بناء مسرح قومي، ولا سياسة لتعزيز اللامركزية الثقافية. بل اكتفوا بتدمير القطاع أكثر، وممارسة أعمال السمسرة، والمهرجانات الصيفية، ذات المحاصصة المناطقية.

«المعلقتان»: عبث وواقع وتهكّم
في المسرح المعاصر، ثمة حرية في استحسان العبث العشوائي بالأفكار والأنماط. ليس بهدف تكهن الجمهور بنيّات الفنان، بل، لإفساح المجال أمامه، من أجل تفكيك وتحليل الأفكار والمشاعر المرتبطة بتجاربه. تُتيح مسرحيّة «المعلقتان» (16، 17، 18، ،19، الحالي على خشبة «مسرح المدينة»)، للمتفرّجين، التساؤل عن واقعهم وما يفرضه من عزلة، وتحد، وعدمية، وعن مفاهيم كالسيطرة، ونزعة القوة، والتحكم بالآخر. تُعطي أهمية للعلاقة مع المتفرّج على الصعيد الزمني، والمكاني، والسوسيوثقافي، في إطار يجمع اللغة التهكمية، مع الجمالية الشعرية (كتابة وأشعار: حسن مخزوم). وتستكمل المخرجة اللبنانية لينا عسيران، التعبير عن النص، واللغة الأدبية، في شكل جمالي. يحفّز العمل الجمهور في بيروت لإعادة النظر في واقعه بعد الأزمات المتتالية التي مرّ بها.
في الفترة الأخيرة، لم نعتد كتابات مماثلة في المسرح. يقوم النص في «المعلّقتان» على مراجع فلسفية متقدّمة، كإميل سيوران، الذي يُشير إلى أنّ لا قيمة للإنسان، ومصيره الزوال. تجربة حسن مخزوم الأولى في الكتابة المسرحية، تبدو واعدة، حيث للشعر دور بارز أيضاً. إذ تمت الاستعانة بنصوص لشاعرات انتحرن كفرجينيا وولف، وغيرها. تتخذ اللغة الأدبية عمقاً، فلا تقوم على الزخرفة، بل تغوص في عمق الحقيقة الداخلية المتصلة بغاياتها اتصالاً جوهرياً.
انطلاقاً من هذا المنحى العمودي في التأليف المسرحي، يمكن القول بأنّ نصّ «المعلقتان»، يتكامل بين المضمون والشكل، مما يتوافق مع رؤية الناقد الفرنسي رولان بارت، الذي يدعو إلى عدم تحنيط الإبداع واختزاله في النص فقط، بشكل يلغي تعدّد القراءات. وعليه، تقدم لينا عسيران على صعيد الإخراج، مسرحية كوميدية سوداء، تمزج تقنيات المسرح الكلاسيكي مع المسرح المعاصر، وتغيب الحبكة الأرسطية أي (بداية، عقدة، نهاية). لينا، التي تحرص على استعمال أدوات وتقنيات جديدة للمعالجة الدرامية، تعمّدت خلق جو غير واقعي، حيث يتوسّط خشبة المسرح، قفص حديدي، ليس هدفه التزيين. إذ إنّ هذا القفص يتحوّل إلى سجن للذات أحياناً، أو إلى تابوت يجسّد الموت. أبعد من ذلك. الفضاء المسرحي ليس مكاناً واحداً، بل تتعدد وتتشتت الأمكنة فيه، ويكون مطواعاً لتجسيد أفكار وخيالات الشخصيات. ما أضاف بعداً فنياً وجمالياً وإبداعياً على العرض، هو عنصر الموسيقى، والمؤثرات الصوتية، الذي تم العمل عليها مع الفنان علي الصباح، الذي يعزف بشكل حيّ أمام الجمهور أثناء العرض. يُذهل المتفرج أمام حجم الأحاسيس، والأوجاع، والحب، التي يصنعها علي، موسيقياً. يتنقّل بدوره، بين عوالم متقلّبة من العبثيّة، والواقعية، والشاعرية، والسلوان، والأحلام، وينقل الجمهور معه.
«المعلّقتان» (يارا زخور وسارة عبدو)، بالإضافة إلى العامل التقني (جلال الشعار)، يجسّدون الأفكار، والفلسفة التي ذكرناها. المرأتان المحبوستان داخل المصعد، معلّقتان في فترة ضبابية من حياتهما السيكولوجية، مما يُضفي على التفاعلات والتصرفات والحوارات سياقاً مشحوناً. تواجهان أثناء الانتظار العبثي، تساؤلات عن المعنى وجدوى الوجود، وعناد القدر أمام رغبتيهما الخاصة. يأتي كل ذلك في سياق يتدرّج من الواقعية الهزلية إلى السريالية. أتى أداؤهما متقناً على الصعيد التمثيلي. تنقلاتهما ملأت الفضاء المسرحي، وانفعالاتهما كانت واقعية كلاسيكية في معظم الأحيان، سرعان ما تتبدل لتكون «غروتسيك» في أحيان كثيرة. يحاول العامل التقني، خرق الفضاء بين الحين والآخر، محاولاً إصلاح العطل التقني، وتخليص المعلّقتين. بالطبع، يتعدّى دوره ذلك، إذ يجسّد فكرة تحكم الرأسمالية بحياة البشر. من هنا يأتي السؤال: هل يعبّر العمل عن الواقع والإنسان المضطهد في مجتمعات اليوم؟ سؤال مشروع لا تقدم عنه المسرحية أي إجابات. ولا تتبنى أي وجهة نظر، بل تكتفي بطرح التساؤلات أمام الحضور.

«الجار للجار»: حتى 27 كانون الأول
«المعلّقتان»: 20:30 مساء بدءاً من 16 حتى 19 كانون الأول ــ «مسرح المدينة» (الحمرا ـ بيروت)