المسرح السياسي لسان كل عصر – محمد الحمامصي

للمسرح السياسي المعاصر أهميته الخاصة في التعبير عن الثورة المكبوتة وعن الرغبة في التغيير والإصلاح وتحقيق العدالة، فهو يطرح التساؤلات التي يجب أن يسألها المجتمع في لحظات القهر والقمع السياسيين، وكذلك ينظم ويوضح العواطف الثائرة، لذا فالمسرح السياسي برز من خلال تجسيد، يلجأ إلى الرمز أحيانا والتصريح أحيانا أخرى، للآلام التي يقاسيها المجتمع المصري. وهو ما يرصده كتاب “المسرح السياسي المعاصر في مصر” للناقد المصري جودة عبدالنبي السيد.

يشكل كتاب “المسرح السياسي المعاصر في مصر” للناقد جودة عبدالنبي السيد رصدا وتحليلا لتجليات الدور الذي لعبه المسرح السياسي في مواكبة ما شهدته مصر من أحداث ومواقف وتغيرات وكشف ما أصاب المجتمع من تأثيرات أدت إلى تعمق مشكلاته وهمومه على مختلف المستويات.

الكتاب جاء في تمهيد تناول تحديد مفهوم السياسة ثم التعريفات المتنوعة لمفهوم المسرحية السياسية وأشكالها ووظائفها، واختص الباب الأول بمضمون القضايا السياسية، فيما اختص الباب الثاني بقضايا البناء الدرامي.

وفي هذا الإطار تناول الباحث بالتحليل أعمالا لكل من ألفريد فرج وعلي سالم وعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور وتوفيق الحكيم وأمين بكير ورشاد رشدي وسعدالدين وهبة وصلاح عبدالسيد وعلي أحمد باكثير، وميخائيل رومان ونجيب سرور ولطفي الخولي وفاروق جويدة ومحمد سلماوي ومحمد دياب ولينين الرملي ومحمد أبوالعلا السلاموني ويسري الجندي وغيرهم.

مسرحيات سياسية

نبض المجتمع

يرى جودة أن وظيفة المسرح السياسي الحقيقية هي أن يسأل الأسئلة التي يجب أن يسألها المجتمع في لحظات القهر والقمع، ولا يجب أن تنتظر منه أن يجيب عن هذه الأسئلة، وإنما عليه فحسب أن يسألها حتى تتخذ شكلا محددا، وما هذا الشكل إلا الرؤيا العميقة الواضحة التي تصاحب ميلادا أو فجرا جديدا. لقد عمل المسرح السياسي دائما على خدمة الحركة الثورية، حاول أن يقدم للطبقات العمالية أعمالا تمهد الطريق إلى الحصول على مكاسب، والوصول إلى تحررها من اغترابها، لذلك جعل أبطال المسرح السياسي ممثلين لكيان سياسي واقتصادي، وأصبح المسرح نتيجة لذلك صحيفة ناطقة تفسر العصر الذي نعيش فيه.

في تناوله للاغتراب في مسرحيتي ميخائيل رومان “الدخان” و”ليلة مصرع جيفارا العظيم”، لفت إلى أنه في المسرحية الأولى لم يكن الاغتراب مصحوبا بدوافع سياسية واجتماعية فقط بل أيضا مصحوبا بدوافع دينية، والاغتراب الديني هو انفصال الإنسان عن الله، أما في المسرحية الثانية فإن الاغتراب مصحوب هنا بدوافع استبدادية نتيجة الاحتلال مما يبحث عن إيقاظ الحس الثوري، لكن هذا الاحتلال أفضى بالانتهازية والثورية والوصولية والفوضوية والرجعية إلى درجة الموت قد أحكم إغلاق الدائرة، واتسع الانفصال بين الفتي والمرأة لدرجة عدم التفاهم وعدم التراضي.

وفي رؤيته للاغتراب في مسرحية “الحلاج” لصلاح عبدالصبور، أشار إلى أن عبدالصبور في مسرحية مأساة الحلاج عام 1962 نجد الحلاج معه الشبلي شيخ الزهاد في عزلة سياسية لأنهم تركوا النظام يتصرف كيفما يشاء دون تدخل، فكل ما يجودون به الحكمة والموعظة فحسب.

 إن الحلاج يرى الواقع في بغداد، يرى مجتمعه والعبيد، يرى السجون الممتلئة بالأبرياء، يرى من يمسك في قبضته سوطا، يرى المسجونين الصرعى، يرى رجالا ونساء قد فقدوا الحرية. يسمع صوت السجين والسجان، صوت التأوهات والجلاد، فترى هل يرى كل هذا ويصمت؟ إن صوت العقل في الحلاج يستيقظ ويصبح نور الله في الناس جميعا وليس في انفصاله عن الناس والدنيا، وهو في خرقة الصوفية. أراد أن يكون الدين والدنيا معا، أراد أن يحتك بالواقع ليعيشه، ويواجه واقعه بكل نواقصه وفساد نظامه. لقد كان اغتراب الحلاج مصحوبا بدوافع سياسية بحتة إذ إن الحكم صادر منذ البداية، وقيام الجلسة إنما هو عمل شكلي، وإن ذكرى الحرج لن تموت لأنه رمز التمرد ورمز التضحية.

وتوقف جودة عند مسرحيات “محاكمة رجل مجهول” لعزالدين إسماعيل و”الحكم قبل المداولة” لنجيب سرور و”البوليس السياسي” لسعدالدين وهبة لتناول غياب العدالة، حيث القضاة يلقون بالأحكام الظالمة المعدة من قبل، فمهمتهم هي أن يتنطعوا في تأويل الشرع أو القانون ليصوغوا منهما حبالا تلتف حول رقاب المعارضين، ففي “محاكمة رجل مجهول” نحيط بكيفية تشكيل المحاكم الهزلية، فالرجل الذي بثته السلطة عينا على الشعب، سرعان ما يعدد التهم الخطيرة التي تقضي بتجريم الرجل المثقف، ثم تتشكل المحكمة من ضعاف النفوس ومعدومي الضمير، كي ينصبوا ميزان العدل لهذا المذنب، وتتوالى الصفات الكاذبة التي تصف هيئة المحكمة بأنها من أهل العدل، ثقات في التشريع والقانون، معروفون بالإنصاف والحكمة، يكفي تطوعهم لمقاضاة المتهم لإثبات جديتهم ونزاهتهم.

 وفي المسرحية الثانية يكشف مؤلفها نجيب سرور اللثام عن السلطة المهيمنة على المواطن المصري متمثلة في السلطة التشريعية “المجالس النيابية” والسلطة التنفيذية “الشرطة والجهاز الإداري” ومن واقع المسرحية يكشف سرور أيضا عن مدى الظلم والقمع اللذين ألمّا بالمواطن المصري “س”، إذ أن “الحكم قبل المداولة” يعني تصريحا بنية مبيتة على الظلم وفرض القهر. ويدين وهبة في المسرحية الثالثة البوليس السياسي، فهذا المواطن عبد المهيمن يدخل السجن ظلما بواسطة أحد رجال الشرطة الذي أخذه احتياطيا، ثم اتهموه بتوزيع المنشورات، وعندما فشلوا في القبض على المتهم الحقيقي، ثم أصبح زعيما سياسيا.

موضوع المسرحية هو الذي يفرض على المسرحي لونا محددا من الأسلوب اللغوي وهو الذي يحدد لغة الحوار

وتطرق جودة لحلم العدالة مقارنا بين مسرحي عبدالرحمن الشرقاوي وألفريد فرج، حيث حلل مسرحية “ثأر الله” للشرقاوي، ومسرحية “سقوط فرعون” لألفريد، وفي مبحثه عن الحرية توقف عند مقاومة الغزو الأجنبي من خلال مسرحية “مأساة جميلة” للشرقاوي، وفي هذه المسرحية نجد مقاومة الثوار الجزائريين للعدو الفرنسي الذي احتل أرضهم، وما كان يدهش هؤلاء الثوار ويحير فكرهم هو كيف يمكن لفرنسا أن تحتل وطنهم بقوة السلاح، تقتل وتعذب وتشرد، برغم وجود المؤسسات الدولية والهيئات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة التي تكفل حقوق الإنسان وحريته وكرامته.

 وفي مسرحية “7 سواقي” لوهبة نجد مجموعة من الجنود الذين استشهدوا ودفنوا في رمال سيناء عام 1967، لقد ملوا الانتظار ودخلهم اليأس من تحرير سيناء فقرروا العودة إلى القاهرة ليدفنوا فيها. وهذه الوحدة الدلالية تعكس الإحساس العام بنفاد الصبر عند الموتى الذي نراه في نهاية المسرحية متعانقا مع صبر الأحياء مع الجنود الرابضين على جبهة القتال في انتظار اللحظة الحاسمة، وبوصول هؤلاء الموتى إلى مقابر الإمام الشافعي تنقلب الدنيا رأسا على عقب، وتقوم ولا تقعد بين الموتى والأحياء.

وفي إطار “حرية الوطن” حلل جودة عددا من المسرحيات المرتبطة بالقضية الفلسطينية منها مسرحية “بالعربي الفصيح” للينين الرملي حيث يسخر الرملي من المفهوم الرمزي السطحي المباشر في معالجة القضية الفلسطينية، لأنه قناع نستتر به في مواجهة الواقع الذي لا نستطيع التعامل معه والاعتراف بضعفنا فيه، لذلك تتحول التمثيلية التي تؤديها الشخصيات المسرحية داخل النص إلى حقيقة على المستوى الدرامي، فقد ألغوا هذه التمثيلية لتطرح أمام العرب “القضية الفلسطينية” والحق المشروع بأسلوب رمزي يصل إلى درجة المباشرة بينما هم في الحقيقة قاموا بإضاعة قضيتهم والتخلي عن رمزها مكتفين بالتمثيل أو بالمشاهدة.

الحرب والسلام كانا محور مسرحية محمود دياب “رسول من قرية تميرة للاستفهام عن مسألة الحرب والسلام” وفيها يتناول دياب الصراع المصري – الإسرائيلي في قرية تميرة اندماج كامل في القضية وإيمان عميق بها مجسدا في دواخلنا الصراع الأكبر، وفقا لجودة، حول اغتصاب الصهيونية ومعها الإمبرالية للأرض العربية من خلال صراع داخل القرية التي تعد كما وضعها دياب نموذجا لقرى مصر.

هذه القرية علاقتها بالعالم الخارجي المؤثر فيها تتمثل في “أتوبيس الأقاليم” الذي يتوقف لحظات عند مشارقها، وصحيفة ذات قارئ واحد أحمد أبوعارف مثقف القرية الوحيد، وأيضا “راديو محروس” الذي ينطق كلمة ويتعطل عشرة نتيجة لقدم البطاريات. منذ البداية تتضح القضية، فما يلبث الصراع الرئيسي أن يطفو على وجه الأحداث، والصراع هنا متمثل في اغتصاب الحاج دسوقي، الرجل الثري، لفدان فكري أبوإسماعيل الذي يمثل نصف أرض أبناء أخيه مستخدما كل حيل الزيف والتزوير لإثبات ملكيته للفدان، مدعيا أن أخاه قد باع له الفدان، مما يجعل فكري الشاب المصري المسالم يسأل عن الدفاع الذي يجعله عمه طامعا في فدانه بالرغم من ثرائه. ويتضح من الحوار الربط بين الإمبرالية والصهيونية، وبين الحاج دسوقي المستغل المزور، نفس ما حدث في فلسطين على مستوى القضية الكبرى. حدث في تميرة على مستوى الصراع الداخلي الناتج عن اغتصاب أرض دون حق، والتزوير في القضيتين يكاد يكون واحدا، وفي مقابل دسوقي يقف فكري وأخوه حامد وحدهما.

لغة المسرح

Thumbnail

جمعت المسرحيات التي تناولها جودة بالتحليل بين الفصحى والعامية، وهنا أوضح أن موضوع المسرحية هو الذي يفرض على المبدع المسرحي لونا محددا من الأسلوب اللغوي، بمعنى أن موضوع المسرحية هو الذي يتدخل في تحديد لغة الحوار، فكلما كان الموضوع معاصرا مستمدا من واقعنا المعاش، كلما اقتربت لغة الحوار من هذا الواقع، وهذا ما نلمسه في معظم المسرحيات التي كتبت بعد الثالث والعشرين من يوليو 1952 والتي لم يكن ممكنا، نظرا إلى طبيعة موضوعاتها المعاصرة، كتابة الحوار فيها بالفصحى. مثلا في مسرحية “بالعربي الفصيح” يسخر المؤلف من التشتت والانقسام بين البلاد العربية، ولذلك تعرض المسرحية على مستوى اللهجات العربية العامية، وتغيب اللغة الفصحى والتي يمكن أن توحد العرب تحت راية واحدة.

ويؤكد جودة أن المسرحي المصري تناول ظاهرة العولمة وصور الغطرسة الأميركية على المنطقة العربية لنهب ثرواتها وخيراتها ونفطها، وكيف تمت عولمة الاقتصاد في ظل النظام العالمي الجديد، وكشف العمل السلبي الذي يمارسه بعض المنتفعين من رجال الأعمال من أصحاب المصالح الاقتصادية في التحالف مع القوى الخارجية، وتأثير ذلك على الهوية الثقافية.

وظيفة المسرح السياسي الحقيقية هي أن يسأل الأسئلة التي يجب أن يسألها المجتمع في لحظات القهر والقمع

كما تناول قضية الشقاق العربي وفقدان الثقة بين الحكومات العربية في العواصم العربية المختلفة بما يوضح الحالة الداخلية التي يعاني منها العرب من حيث وحدة الرأي والهدف. وقد ظهرت قضية الإرهاب في المسرح السياسي بشكل أوضح في فترة التسعينات من القرن الماضي، وتجلى ذلك في مسرحيتي “الجنزير” لمحمد سلماوي و”رصاصة في العقل” لأشرف أبوجليل.

ويشير إلى أن المبدع المسرحي في مصر تناول الشخصية اليهودية وأظهرها بأنها شخصية متحولة من النقيض إلى النقيض، وقد ظهر الصراع بين اليهود الغربيين “الاشكنازيم واليهود الشرقيين السفارديم” جليا في المسرح السياسي المعاصر، ومن جانب آخر استلهم كتاب المسرح الزمن التاريخي من أجل “الإسقاط والرمز” كما عُبّر عن الأزمة السياسية على المستوى العربي.

وقد تنوعت الأماكن في المسرح السياسي ما بين الأماكن المفتوحة والأماكن المغلقة، وما بين وجود “القصر” الممثل للحكومات بالإضافة إلى السجن باعتباره حصارا للحرية. وتعددت المستويات اللغوية في الحوار المسرحي ما بين الفصحى والعامية والتقائهما معا في النص لتحقيق الأيديولوجية الدالة على موقف الإنسان الفرد وأزمته في إطار المتغيرات السياسية المحيطة.

شاهد أيضاً

نهضة المسرح العربي الجديدة والمتجددة مع الهيئة العربية للمسرح ومسؤولية المؤرخ المسرحي إعداد: أحمد طنيش