عرض مسرحية «القمر في البئر» للممثل والمخرج الفرنسي غريغوار بلانشون

في اطار أرصفة «زقاق»، قدم «المعهد الفرنسي في لبنان» عرضاً بعنوان «القمر في البئر» للممثل والمخرج الفرنسي غريغوار بلانشون الذي نقل على خشبة «مسرح مونو» نصوصاً جمعها الكاتب فرنسوا بون بين عامي ٢٠١١ و٢٠١٣.١٥ و كتبها
فرنسوا بون من الجزائر، ولبنان، وفلسطين، ومصر…
نصوصُ دونها المؤلف كما لو أنه يرسم مدىً آخر للمتوسط ناقلاً حكايا رجال ونساء شكلت تفاصيلهم الصغيرة ملح هذا البحر ورمله….
لمدة سنتين، تجول بون بين بلاد المتوسط ووثق مئتي قصة حقيقية وأدخل بعضاً من قصصه مراكماً من كثافة وجود الفرد الذي يكتنف الجماعة بين ثناياه: أتى المشروع في إطار «مرسيليا عاصمة أوروبية للثقافة» (2013) وكانت نتيجته كتاباً يحمل عنوان العرض يصفه بون بـ «أنه سيرة ذاتية متخيلة

لفرد هو ذاته». منذ عام ٢٠١٣، شكلت نصوص بون مادةً بحثية لعدد من المؤرخين والباحثين الأنتروبولوجيين كما تم استخدامها في أعمال مسرحية وموسيقية عدة. وقد تسنى للجمهور اللبناني التعرّف إلى بعض نصوص هذا الكتاب من خلال عرض بلانشون.

اختار بلانشون (الممثل والمخرج) ما يوازي ١٥ حكاية لنساء ورجال من اليونان، الجزائر، فرنسا، لبنان، فلسطين، مصر، وطعمّها بحكاية لحديث بينه وبين بول مطر حول صدق الحكايا: بالنسبة إلى بلانشون، يكفي أن يؤمن راوي الحكاية بها كي تكون حقيقية. أما بول مطر، فأخبره بتجربة مر بها في أواخر السبعينيات إثر جولة كان يقوم بها في الكويت لتوثيق الإرث الموسيقي البدوي. حينها، التقى بالصدفة ببدويين بدآ بالغناء. سجّل مطر تلك الأغاني التي كانت بمثابة اكتشاف، وإذ به يُفاجأ بأنّه تمّ خداعه. ليس كل ما يُحكى حقيقياً، لكن بلانشون مثابر: هو يعلم أن ما يقوم به يدمج الحقيقة بالتخييل، لكنه متمسك بخريطة البوح التي رسمها وفق مادة فرنسوا بون الأدبية. لن نسهب أكثر في الحديث عن جمالية النصوص التي أنجزها كاتبها بشاعرية ملقّحة ببعد فلسفي يتناول الوجود ويقدم معنى مغايراً لمفهوم الحقيقة والهويات.
في جولة على الحكايا التي اختارها بمساعدة ليلى أنيس التي أسهمت في بناء دراماتورجيا العرض، ربط بلانشون فكرة عدم وجود حقيقةٍ مكتملة بفعل المسرحة والتخييل. بدأ عرضه بحكاية شاب فلسطيني أصيب في الانتفاضة الأولى، ما سبب له إحباطاً كبيراً، فقرر أن ينهي حياته باحتفالية ما… ولم لا؟ فلينهِ حياته وحياة البعض معه، فقرر دخول «حماس». لم يكتمل مسعاه، اذ لم يجد من يسمعه. بعد برهة من الزمن، اقترح عليه صديق يعمل في وزارة الثقافة أن يمارس التمثيل. هنا نفذ إليه شيئاً فشيئاً عالم الخشبة، واكتشف أن المسرح فعل مقاومة لا يخلو من الخطورة. المشهدان الأولان للعرض يبدّيان عملية البوح على الحقيقة التي تحدث عنها لاحقاً بلانشون مستشهداً بالروائي الإيطالي ليوناردو سياسياً الذي كتب أن الحقيقة موجودة في قعر بئر. تنظرون إلى البئر، تجدون الشمس أو القمر، ولكن حين نرمي أنفسنا داخل البئر لن نجد لا الشمس ولا القمر.
ما يهم بلانشون ـــ الذي ينقل كلمات بون ـــ من تلك الحكايا الحقيقية ليست الحقيقة بحد ذاتها، إنما الشمس والقمر المنعكسان على سطح الماء. ما يهم الكاتب هو عملية سرد الحكاية وسماعها. فلتبق الحقيقة اذاً حيث هي، في قعر البئر ولتتجلى حين تريد «كبريق ضوء يعمينا ثم تختفي حتى يضيق بنا العيش، فنموت بالقرب منها أو نولد من جديد».
اشتغل بلانشون على موزاييك من القصص وتناولها برقة حيناً وطرفة طفولية أو شاعرية حيناً آخر. أراد أن ينقل «لحظات عالقة من الذاكرة» كحكاية بون مع أنفه الذي كسره عن قصد وهو طفل في السادسة، والأمير الذي بعث رسالة إلى البابا يطلب فيها تحرير كنيسة القيامة واستعاض عن عدم رد البابا بتحرير مجازي حيث يمشي كل يوم خطوات في منزله ويرسم خريطة التحرير تلك، وتجربة نورا مع سياحها عند اندلاع «ثورة ٢٥ يناير» في مصر، وقصة العجوز في المترو التي أكل شابٌ داكن البشرة بطاقة المترو الخاصة بها كانتقام منه لعنصريتها تجاهه…
خصص العرض مساحته الأكبر للحديث عن العنصرية والنظرة إلى الآخر: المرأة العجوز في اليونان التي اشتكت لشرطي حين احتلت منزلها مجموعة من الباكستانيين، حكايا النساء عن المتحول جنسياً في الجزائر، المرأة اللبنانية من بلدة حمانا التي أنقذها ضابط سوري من خلاف مضحك مع زوجها حول شجرة الحور واتساخ الأرض بسبب ثمارها التي تتساقط كل الوقت على الأرض. حين سمع الضابط، الذي قام سابقاً باحتلال منزل شقيقة المرأة، أصوات الثنائي من خلف الشباك، تدخّل ودعا كل جنوده صارخاً فيهم «يا حيوان» لقطف كل الثمار عن شجرة الحور. تلك الحادثة البسيطة ساعدت المرأة على التصالح مع كل ما قام به الجيش السوري من فظائع في لبنان.
بالرغم من جمالية نص بون، إلا أن العرض خلا من الإيقاع ولم تضف الخيارات الأدائية لبلانشون أي شيء على تلك النصوص: لا جمالية، ولا وقع، ولا سحر. اكتفى بالتحرك في فضاء الخشبة التي حُوِّلت إلى منزل حيث قام بلانشون بشتى الأعمال المنزلية المتشابهة كطبخ علبة من المعلبات بواسطة «وابور» على الخشبة، وشرب الشاي بعد تسخين المياه ثم شرب العصير والقراءة من الحاسوب ثم من الدفتر وتغيير ملابسه… من دون بناء أي رابط لتلك الأفعال درامياً مع النص. تم استعمال الفيديو مرتين في العرض من دون أن يحدث هذا الاستعمال أي فرق في عملية التلقّي أو من دون أن يوظّف درامياً لصالح الممثل. لا شك في أن ما وصل إلينا من خلال هذا العرض من نص فرنسوا بون عميق وبسيط. هو مأخوذ ومسكون بملح هذا البحر… المتوسط.
يبحث بون عن حرية مختلفة رأتها ليندا فيرنانديز حين غنت للفيلة المربوطين بقيود… ببحر متوسطي يوازي بين ثلاث: المهارة الحسابية، روح التأمل والملذات. كيف توازي بين الثلاث يا فرنسوا وما زال سؤالك الذي صرخته بكل ما أوتيت به من قوة من دون إجابة. حقاً. «متى تبرد فوّهات المدافع؟».
————————————————————————–

شاهد أيضاً

النشرة اليومية لمهرجان المسرح العربي الدورة 14 – بغداد – العدد الثاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *